سوق المشتقات المالية تستفيد من أعدائها

إن التحقيق الجاري الآن في قضيتين مرتبطتين بسوق مقايضة العجز عن سداد الائتمان (أحد المشتقات الائتمانية) قد يتبين في نهاية المطاف أنه ليس أكثر من عملية ثأر سياسية موجهة ضد أحد الجناة المزعومين المتسببين في اندلاع أزمة الديون السيادية الأوروبية في عام 2010. لا شك أن النظرة السلبية التي يحملها أغلب الناس لسندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان (وخاصة في أوروبا) لعبت دوراً كبيراً في هذا السياق. ومن المعروف أن الشركات الضعيفة سياسياً والأجانب هم من أوائل الأهداف المفضلة لإنفاذ القانون في الكثير من الأحوال.
والواقع أن أول قضية للمتاجرة من الداخل تقدم للمحاكمة في روسيا بعد سقوط الشيوعية كانت ضد شركة أمريكية، وعلى نحو مماثل كانت سلطات مكافحة الاحتكار في الاتحاد الأوروبي أكثر صرامة في التعامل مع مايكروسوفت بالمقارنة مع العديد من الشركات الأوروبية.
ورغم ذلك، فإن وجود دوافع سياسية لا يقوض من شرعية تحقيقات الاتحاد الأوروبي الجديدة، التي ستجري جنباً إلى جنب مع تحقيق آخر تجريه وزارة العدل في الولايات المتحدة في الممارسات الضارة بالمنافسة في التجارة، والمقاصة، وتسعير سندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان في الولايات المتحدة. والواقع أن الانحياز الأيديولوجي من جانب الأوروبيين ضد مقايضة العجز عن سداد الائتمان قد يكون مفيداً في الأمد البعيد فيما يتصل بتنمية سوق أفضل لسندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان، والمشتقات المالية عموما.
والواقع أن سوق المشتقات اليوم أصبحت خاضعة لاحتكار القِلة، مع عدد بسيط من البنوك التي تدير هوامش ربح ضخمة، وبغض النظر عن الدوافع السياسية التي ربما تكمن وراء التحقيقات الأخيرة، فإن هذا التركيز السوقي يمثل مشكلة حقيقية. وطبقاً لدراسة أجراها البنك المركزي الأوروبي في عام 2009، فإن أكبر خمسة متاجرين في سندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان كانوا طرفاً فيما يقرب من نصف إجمالي المبالغ القائمة المتصورة، في حين كان أكبر عشرة متاجرين في سندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان يمثلون 72 في المائة من عمليات التداول هذه. والحال ليست أفضل في أسواق المشتقات المالية الأخرى.
وتعمل هذه الدرجة العالية من التركيز على تشويه السوق على أكثر من نحو. فأولا، عندما يدير كبار اللاعبين عمليات تداول فيما بينهم، فإنهم لا يصرون على القدر الكافي من الضمانات، اعتماداً على الجدارة الائتمانية للطرف الآخر (وعلى الضمانات الضمنية التي تقدمها الحكومات للشركات الكبيرة). ولا يؤدي هذا إلى تقويض قدرة الشركات الصغيرة على المنافسة فحسب، بل إنه يسهم أيضاً في زعزعة الاستقرار النظامي على نحو أشبه بما شهدناه في عام 2008، فيزيد بالتالي من احتمالات اضطرار دافعي الضرائب للتدخل. والواقع أن تركيز السوق على هذا النحو يحول الدور المفيد المزعوم للمشتقات المالية في نشر المجازفة إلى وهم محض، وذلك لأن القسم الأعظم من المخاطر يتحمله عدد ضئيل للغاية من اللاعبين.
كما تسهم عمليات التداول في السوق الموازية غير الخاضعة للتنظيم في غموض أسواق المشتقات، وتحد من المنافسة وتزيد من الهامش الذي يتمتع به التجار ـــ والأسعار التي يتعين على المستخدمين النهائيين (الشركات الصناعية في الغالب) أن يدفعوها. ويبلغ مجموع أرباح اللاعبين الرئيسيين في هذه السوق 80 مليار دولار، وهو ما يمثل ضريبة هائلة يتحملها الاقتصاد الحقيقي.
ولحل هذه المشكلة فنحن في احتياج إلى نقل القسم الأعظم من تجارة المشتقات المالية على أسواق الأوراق المالية المنظمة، حيث تعمل المتطلبات الجانبية اليومية على ضمان الاستقرار الشامل، وحيث تعمل شفافية الأسعار على دفع المنافسة، والحد من الهوامش، وزيادة عمق السوق. والواقع أن قانون دود ــ فرانك في الولايات المتحدة يقطع بعض الأشواط في هذا الاتجاه، وهناك جهود مماثلة تجري في أوروبا.
ولكن الرحلة لا تزال طويلة. وتدرك البنوك الاستثمارية الكبرى تمام الإدراك أن كل يوم تؤخر فيه فرض التنظيمات المناسبة على السوق، يعني تمكنها من جني الملايين من الدولارات لتمويل المكافآت التي يتقاضاها مديروها. وليس من المستغرب إذن أن تستغرق عملية الإصلاح كل هذا الوقت.
ووفقاً للمتحدثة باسم المفوضية الأوروبية أميليا توريس، فإن آخر الجهود المبذولة لإنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار من الممكن أن يُنظَر إليها باعتبارها مكملة للتنظيمات الملزمة للمشتقات المالية. وللتغلب على قوى الضغط الهائلة المتمثلة في البنوك الاستثمارية ـــ وبالتالي المساعدة في ضمان الاستقرار المالي العالمي ــــ فإن أي أداة قد تكون مفيدة، حتى ولو كانت هذه الأداة جزءاً من حزمة من التحيز الأيديولوجي الأوروبي.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي