الجمهورية الإيرانية.. أزمة مستقبل وحقوق إنسان
نختتم بهذا الحديث سلسلة مقالاتنا عن الأزمات المحتدمة في إيران المعاصرة، وتبقى محاور تخص علاقتنا نحن العرب، وشعوب الخليج العربي بشكل خاص، بإيران، وهي علاقة مثقلة بوقائع الجغرافيا والتاريخ. ستكون لنا معها وقفات، بعد أخذ فسحة من الوقت نكرسها لتحليل المشهد العربي، في الأشهر الأخيرة.
حين أطيح بشاه إيران، وأعلنت الجمهورية الإسلامية، ساد شعور وسط بعض المثقفين العرب بأن المنطقة أمام تجربة طهرانية، شبيهة بالتجربة الإنجليزية التي نتجت عن تحالف الأشراف والبارونات وأصحاب الأملاك والتجار الذين كانوا في المقدمة من الحركة البروتستانتية التي قادت التغيير. شبه البعض الإمام الخميني الراحل، بأوليفر كرومويل، القائد البروتستانتي الذي عزز روح الوثبة والتمرد في المجتمع البريطاني. ونعتوا الشاه، بأوصاف شبيهة بتلك التي نعت بها الملك الإنجليزي تشارلز الأول.
عم تصور أننا أمام نموذج إسلامي ''شعبوي'' نقي ومناصر للمستضعفين. وجاءت الأحداث متلاحقة لتخيب أمل الذين تفاءلوا كثيرا في التغيرات الدراماتيكية التي صاحبت سقوط الشاه. ورغم ما حدث، من إخفاقات وفشل متتابع، ومشكلات وحروب، فإن كثيرين بقوا متمسكين بوجهة نظر إيجابية حول هذا النظام.
كسرت الأزمة السياسية الأخيرة الجوزة، ونضح الإناء بما فيه. تكشف أن نواميس الكون التي حكمت معظم التحولات الاجتماعية في التاريخ، هي ذاتها التي حكمت المشهد الإيراني، منذ قيام الثورة. وكما كانت الصراعات بين الحلفاء الذين يقودون عمليات التغيير من أبجديات التحولات الإنسانية الكبرى، فإنها في المشهد الإيراني، بدت عارية وفاضحة بصورة كاريكاتورية.
لقد شهد المجتمع الإيراني، في السنوات الأخيرة، انهيار منظومة قيمة.. فساد مالي وإداري، وتهم بممارسة التعذيب والإرهاب، حد ممارسة الاغتصاب الجنسي بحق الخصوم، وصراع محتدم على السلطة، وتهم بتزوير نتائج الانتخابات الرئاسية. وتهم الفساد حديث شائع بين الناس، ومن يرغب في المتابعة، فما عليه سوى مراجعة المباريات الحوارية التي ضمت المتنافسين على كرسي الرئاسة: نجاد، موسوي، كروبي، ورضائي. ولعل الأبرز بين تهم الفساد المالي الاتهام الذي وجهه أحمدي نجاد لهاشمي رفسنجاني بالثراء غير المشروع على حساب الدولة، أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة، وعدم اعتراض الولي الفقيه على ذلك، واتهام نجاد للمرشح كروبي، أثناء مناظرة معه في الحملة الانتخابية بالاستيلاء على مئات الملايين من حصة ''حق الإمام''.
أما التنكيل بالخصوم وإخضاعهم للتعذيب داخل المعتقلات، ومواجهة المعارضين بمختلف أدوات البطش، فله حصة الأسد من الانتشار الإعلامي. وقد دفعت الحملة الإعلامية الواسعة ضد ممارسات النظام، بعض رموزه، للإعلان عن تشكيل لجان تحقيق للتأكد من صدقية الاتهامات الموجهة لعناصر الأمن، كان من ضمنها ما أعلنه رئيس مجلس الشورى الإسلامي علي لاريجاني، عن تشكيل لجنة التحقيق في مزاعم تعرض المعتقلين لاعتداءات جنسية ـــ وفقا لوكالة ''مهر'' للأنباء الإيرانية شبه الرسمية. في هذا السياق، أكدت قناة ''برس'' الفضائية، وقوع حالات اغتصاب جنسي في حق المعارضين في السجون الإيرانية. واقتبست المعلومات من الموقع الخاص بالمعارض محسن رضائي. ووجه الشيخ مهدي كروبي، اتهامات مماثلة، وتحدث كروبي عن اعتقالات بالجملة ودون أي ضوابط، وعن تعرض المعتقلين إلى التعذيب والاعتداء على الشرف. وأوضح أن بعض كبار المسؤولين قاموا بأمور مشينة. واللافت للنظر هو اعتراف قائد الأمن الداخلي بحصول خروقات وتعذيب، وذلك ما أيده أيضا مدعي عام البلاد.
وحول الصراع على السلطة بين أقطاب النظام الإيراني، أبلغ المرشح السابق مير حسين موسوي ''البيان'' عن تأسيس جبهة سياسية لمواجهة الانقلاب على الدستور. وردا على ذلك، قال القيادي في الحرس الثوري يد الله جواني ''إذا أصبح موسوي وكروبي وخاتمي المشتبهين الرئيسيين وراء الثورة الناعمة في إيران، فإن القضاء سيطاردهم، ويلقي القبض عليهم ويقدمهم للمحاكمة. وأكد أن السلطات الأمنية كشفت ''مؤامرة لقلب نظام الحكم الإسلامي''. وبسبب من تصاعد الصراع، توقف هاشمي رفسنجاني عن إمامة صلاة الجمعة في طهران تفاديا، ''لأي تجاوز سياسي'' قد يحصل.
ومن تداعيات الأزمة مطالبة أصوات بالحوزات العلمية وبرلمانيين بعزل قائد الثورة علي خامنئي، ومراجعة صلاحيات منصبه. وقد أكد المرجع الديني البارز في قم، أسد الله بيات زنجاني أهمية قيام مجلس الخبراء بوظائفه في تقويم أو عزل علي خامنئي، مشيرا إلى أن القائد الأعلى للجمهورية فقد شروط القيادة، وخاصة شرط العدالة.
والخلاصة أنه لم يعد هناك مكان للحديث عن طهر الثورة أو نقائها.
بدأ الإفصاح عن أزمة الانتخابات الإيرانية مع إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، التي ترشح للفوز فيها نجاد، موسوي، كروبي، ورضائي. فإثر إعلان نتائج الفرز، بدأت الاتهامات، والاتهامات المتبادلة بين فريقي الإصلاح والمحافظين، بالتزوير. وأكد تقرير تم تسريبه من قبل فريق الإصلاح مزاعم المرشح موسوي في حصوله على الأغلبية. وأشير إلى أن موظفين في الداخلية الإيرانية اتصلوا بالإصلاحيين، وأبلغوهم بالنتائج الأولية، التي تشير إلى حتمية فوز موسوي، الأمر الذي دفع الرئيس السابق محمد مهدي خاتمي إلى تهنئة موسوي بالفوز قبل الإعلان الرسمي عن النتائج النهائية.
ومما أثار الدهشة فوز نجاد في أماكن ولادة المنافسين الآخرين، يحظى فيها المرشحون بتأييد كاسح. بما يؤكد الشكوك في حصول عمليات تزوير لنتائج الانتخابات.
وكان موقف المرشد الأعلى، على خامنئي قد فاجأ الجميع بانحيازه للرئيس نجاد، خاصة أن ذلك جاء بعد موجة من الاحتجاجات. وكان المؤمل من المرشد أن يقف على الحياد، وأن يطالب بتشكيل لجان للتأكد من نزاهة الانتخابات. ومن بين المفاجآت إعلان كتلة خط الإمام أن النتائج المعلنة لا تتطابق والإرادة الشعبية التي تمثلت في الانتخابات، وحيرتها من الإعلان عن فوز نجاد. وأصدر آية الله صانعي فتوى حرمت التعامل مع حكومة نجاد، ووقفت جمعية رجال الدين المجاهدين المحافظة، ومن ضمنهم ناطق نوري وهاشمي رفسنجاني، ضد نتائج الانتخابات.
هل كانت الأزمة تتراجع للخلف لو صحت فرضية انتصار المرشح الإيراني موسوي في الانتخابات الأخيرة، وتم تتويجه رئيسا للجمهورية؟ سؤال افتراضي، لكنه مع ذلك منطقي ووجيه. والإجابة عنه بالنفي، من خلال قراءة تجربة الانتخابات في إيران خلال العقود الثلاثة المنصرمة. إن المعضلة تتمحور بشكل جوهري في ولاية الفقيه، ليس غير. فهذه الولاية، هي مكمن الداء، حيث تصادر الرأي والرأي الآخر، وتقصي المعارضة، وتفرض نهج الاستبداد، وتصبح المناصب الأخرى، ومن ضمنها رئاسة الجمهورية، ومجلس الشورى دون معنى، لأن القرار الحاسم، في يد المرشد الأعلى للثورة الإسلامية.
لقد دخل محمد مهدي خاتمي، المقرب من الزعيم الروحي، حسين منتظري، معركة انتخابات عام 1997، ببرنامج إصلاحي. وفاز بنسبة 70 في المائة من الأصوات، وهي نسبة ساحقة وبموجبها أصبح الرئيس الخامس للجمهورية. لكنه لم يتمكن من التقدم قيد أنملة صوب تحقيق برنامجه الإصلاحي. لقد كان المرشد الأعلى للجمهورية واقفا له بالمرصاد. فقد استخدم الولي الفقيه الصلاحيات الممنوحة له، بموجب الدستور الإيراني، لفرض فيتو على كل خطوة يتخذها الرئيس خاتمي، باتجاه توسيع دائرة المشاركة في صنع القرار. وفي ذلك الحصار، استخدم المرشد مجلس الشورى الإيراني، كما استخدم المراجع الدينية الأخرى، وسلطة القرار الأوحد الممنوحة له لمحاصرة الرئيس المنتخب.
ولم يكن وضع المرشحين الآخرين، ليختلف عن وضع رئيس الجمهورية خاتمي، فقد تبوأوا هم أيضا، مراكز مهمة في السلطة. فالمهندس مير حسين موسوى، كان رئيسا للحكومة. وبالمثل كان المرشح مهدي كروبي، رئيسا للبرلمان الإيراني. ولم يستطع أي منهم المضي قدما في تحقيق برامج الإصلاح التي طالبوا بها لاحقا.
المتوقع لو تمت الأمور، وفقا لتمنيات قوى الإصلاح، وفاز المهندس مير موسوي، أن يعاود الولي الفقيه، محاصرة مركز الرئاسة، ويفرض هيمنته على مؤسسات الدولة كافة، كما كان دائما. وستستمر اللعبة بين شد وجذب، بين قوى الإصلاح والمحافظين. ولن يكون حال المواطن الإيراني، أفضل مما هو عليه الآن. مكمن الأزمة كان ولا يزال في النظام، والمطلوب معالجة الأزمة في جذورها، وإقامة نظام وطني يستمد مشروعيته من علاقة تعاقدية بين الحاكم والمحكوم.. علاقة تستمد مشروعيتها من الدستور، لا من التيه في التاريخ السحيق والغابر، أو من سنن ما أنزل الله بها من سلطان. وما لم يتحقق ذلك، فسوف تبقى إيران إلى مدى غير منظور فوق فوهة بركان.
بقي علينا أن نتحدث عن مستقبل هذا الصراع، وإلى أين تتجه بوصلته؟ الإجابة عن هذا السؤال، تقتضي تحقيق رصد سريع للخريطة السياسية كما هي الآن. وإذا ما بدأنا من قمة الهرم، نزولا إلى الأسفل، إلى سفح الهرم وقاعه، فسنجد في الأعلى مجموعتين تتصدران قيادة حركة الإصلاح، هما مجموعة البازار والمجموعة المستنيرة بالمؤسسة الإكليركية. ويبدو أن الصراع بين هذه المجموعات وبين مؤسسة الولي الفقيه لا يسير باتجاه واحد أو مسافة واحدة. فبعض هذه المجموعات يمكن أن ينعطف بشكل حاد، باتجاه معارضته للنظام، وبعضها الآخر يمكن أن ينتكس، ويجري بعض المقايضات بما يؤدي إلى تأهيلهم مجددا ليكونوا جزءا من ماكينة المرشد الأعلى، الولي الفقيه.
القوى التي لن تقبل بالتراجع عن مشروع الإصلاح هي البازار. فكل المؤشرات تؤكد أن طلاقها نهائي من الولي الفقيه. لن تقبل هذه القوى أبدا العودة إلى المربع الأول، وستدفع بمطالبها، في المشاركة الفعلية بصناعة القرار، وتداول السلطة، وستقيم تحالفاتها السياسية على قاعدة تعزيز المطلب الديمقراطي. ولن يكون مستبعدا أن توسع من قاعدة تحالفاتها مع جبهة تحرير إيران والجبهة الوطنية والقوة المستنيرة في المؤسسة الدينية.
في كل الأحوال، نحن أمام تغيرات دؤوبة ومتسارعة تجري على المسرح الإيراني، وقريبا جدا من هرم النظام وفوق سفوحه، لتصل تأثيراتها المباشرة إلى قاع المجتمع. لن تستمر طويلا حالة الكر والفر، بشكلها السلمي في الغالب، المصحوب بالعنف في بعض الأحيان.. وسننتقل إلى وضع يكون العنف والتصفية الجسدية والسياسية سادة الموقف والقانون العام. ولن يطول بنا المقام لانتظار هذه اللحظة. ولن ندخل، في هذا المضمار، في تفاصيل محددة وقراءات معقدة، فخريطة الاصطفافات في البنيان الفوقي الإيراني أصبحت معروفة، وتعرض يوميا في الفضائيات وأجهزة الإعلام.
في القلب من الهرم، تنشط الطبقة المتوسطة، وضمن هذه الطبقة تنشط أحزاب سياسية حديثة مدنيةتتراوح من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن ضمنها حركة تحرير إيران والجبهة الوطنية وحزب تودة ومجاهدي خلق، وتجمع هذه باختلاف توجهاتها على خيار تداول السلطة ورفض فكرة الولي الفقيه.
وربما تمثل الأزمة فرصة ذهبية لهذه الأحزاب، لإعادة ترتيب أوراقها، ومراجعة برامجها وتطوير هياكلها. وسيكون بإمكان هذه الأحزاب، في ظل حالة استرخاء نسبية، تحقيق قدر كبير من الاختراقات وسط الاتحادات النقابية والحركات الاحتجاجية ومؤسسات المجتمع المدني، إذا ما امتلكت الإرادة والقدرة. وربما تمكنت من خلال تحالفاتها مع حركة الإصلاح التي يقودها موسوي وكروبي وخاتمي، من قيادة عصيان مدني واسع يتحول في نهاية المطاف إلى ''ثورة ناعمة'' تطيح بنظام الولي الفقيه، وتقيم على أنقاضه نظاما يستند إلى عناصر بديلة.
في الأسفل من الهرم تقع القاعدة العريضة من الشعب الإيراني. وتنقسم في ولاءاتها إلى أتباع للبناء الفوقي بشقيه المحافظ والإصلاحي، حيث يتعزز وجود أتباع المنهج المحافظ في الأرياف والقرى، بينما يتعزز أتباع المنهج الإصلاحي في المدن الكبرى. ويتبع جزء من هذه الشريحة الأحزاب السياسية المدنية الكبرى الممثلة للطبقة المتوسطة.
والواقع أن أعدادا كبيرا من القاعدة العريضة للجمهور الإيراني لا تتبع أيا من الاتجاهات التي أشرنا إليها، كونها غير منتظمة في الأحزاب والحركات السياسية القائمة، لكن ذلك لا يعني عزلة الجمهور عن الأحداث. بل لعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن الانطلاقات العفوية كانت ولا تزال ملهما كبيرا لكثير من القوى السياسية. ولذلك يجري تنافس حاد على استقطاب هذه الجموع. وفي يقيننا أن هذه الجموع ستكون أقرب لمن يتبنى مصالحها، ويوفر لها متطلباتها الأساسية، من عمل ومأوى وعلاج وتعليم وما إلى ذلك، وأيضا الاستجابة للتطلعات المشروعة في الحرية والانعتاق.
على الجانب الآخر، جانب المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، الولي الفقيه، والمؤسسة الحاكمة، من المتوقع أن تقوم حكومة الرئيس أحمدي نجاد بمبادرات لتخفيف حالة الاحتقان، كالعمل على تلبية الحاجات الأساسية للمواطنين، وإطلاق سراح القيادات الإصلاحية من السجون، وبعض المقايضات مع القوى الإصلاحية، التي لم تحسم أمرها تجاه مشروع الإطاحة بالنظام القائم. وهي أمور لا نجزم بقدرة النظام على إنجازها، حتى وإن توافرت لديه النيات لتحقيق ذلك، نتيجة لحدة الأزمة السياسية والاقتصادية التي يواجهها. ولأن تحقيق ذلك يتطلب انكفاء نحو الداخل، وتقليصا للدور الذي تلعبه الحكومة الإيرانية في الخارج، وبشكل خاص في العراق ولبنان وفلسطين واليمن والخليج العربي. ولا نعتقد أن نظام الولي الفقيه في وارد التخلي عن أوراقه في هذه البلدان.
الخلاصة إن إيران ستبقى في الأمد المنظور فوق فوهة بركان، معبأ بمختلف الاحتمالات.