صيغة التمويل بالإجارة الموصوفة في الذمة تنطوي على مخاطر تعاقدية
أشار راشد الغنيم، المحامي والمستشار في المصرفية الإسلامية إلى أن التمويل بصيغة الإجارة الموصوفة في الذمة يعد من التطبيقات الحديثة للمصرفية الإسلامية، وأوضح للاقتصادية بأن هذه الصيغة تنطوي على جملة من المخاطر التعاقدية والتي يمكن تخفيفها لضمان القدر المعقول من الأمان والشفافية عن طريق الصياغة الاحترافية للاتفاقيات، وأشار الغنيم إلى أن هذا العقد يقترن غالبا بعقد استصناع يبرم بين المؤجر (المموِّل) ومطور عقاري، حيث يكون موضوعه إنشاء وحدة عقارية بالمواصفات المتفق عليها ذاتها في عقد الإجارة الموصوفة في الذمة مع العميل المتمول، وقد عرف الغنيم الإجارة التمويلية الموصوفة في الذمة للعقار بعبارة بسيطة بأنها عقد تأجير عقار على الخريطة، بناءً على أوصاف محددة في العقد، وينقلب هذا العقد إلى عقد إجارة معيَّن فور تسليم العقار المتعاقد عليه، وينتهي عقد الإيجار بتمليك المستأجر للعقار.
أشرتم إلى اقتران هذه الصيغة في الغالب بعقد استصناع.. ما أهم العلاقات التعاقدية في مثل هذه الحالة؟
عند تحليل العلاقات التعاقدية لهذه الصيغة يمكن أن نقول إنها تستلزم - في غالب صورها - وجود نوعين من العقود:
الأول: علاقة تعاقدية بين المؤجر (المموِّل) والمطور العقاري من خلال صيغة عقد استصناع موضوعه إنشاء وحدة عقارية، وقد أوجد التطبيق العملي لهذا العقد نوعين من عقد الاستصناع تبعا للجهة مالكة الأرض التي ستُقام عليها الوحدة العقارية، وهما عقد استصناع بين الممول والمطور العقاري على أرض يملكها المطور (عقد بيع على الخارطة) أو عقد استصناع بين الممول والمطور العقاري على أرض يملكها الممول (عقد مقاولة) ولكل عقد من هذين العقدين مرجعية قانونية خاصة به.
الثاني: علاقة تعاقدية بين الممول والعميل من خلال صيغة عقد إجارة موصوفة في الذمة موضوعه تأجير وحدة عقارية بذات المواصفات المحددة في عقد الاستصناع.
وتبعا لهذا التقسيم يمكن تحديد الإطار المرجعي الشرعي والقانوني لهذه العلاقات التعاقدية.
ما الإطار الشرعي والقانوني للإجارة الموصوفة في الذمة؟
كما ذكرنا آنفا، فإن صيغة الإجارة الموصوفة في الذمة للعقار تفترض وجود نوعين من العلاقات التعاقدية، ولكل علاقة منهما أحكامها الخاصة، الشرعية والقانونية:
فمثلا يتشكل الإطار المرجعي الشرعي والقانوني لعقد الاستصناع بين الممول والمطور العقاري من عنصرين، هما: المبادئ الفقهية العامة التي تحكم عقد الاستصناع: وهي مبسوطة في المصادر الفقهية، كما تمّ تبويبها وعرضها بشكل منهجي في معيار خاص صادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (المعيار الشرعي رقم 11)، وفي القرار الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي برقم 65 (3/7) بشأن عقد الاستصناع ، فضلا عن العديد من الفتاوى والقرارات الصادرة عن المجامع والهيئات الفقهية المتخصصة بالتمويل الإسلامي، وتسري جميع هذه المبادئ على جميع أشكال عقد الاستصناع بغض النظر عن مالك الأرض التي ستُقام عليها الوحدة العقارية.
والعنصر الآخر هو الضوابط المتعلقة ببيع وحدات سكنية أو تجارية أو مكتبية أو خدمية أو صناعية على الخارطة الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم (73) وتاريخ 12/3/1430هـ ولائحتها التنظيمية الصادرة بقرار وزير التجارة رقم (982) وتاريخ 2/2/1431هـ، ويقتصر سريان هذه الضوابط على عقد الاستصناع المتعلق بأرض يملكها المطور العقاري، وبالتالي يخرج عقد الاستصناع على أرض يملكها الممول من نطاق أحكام هذه الضوابط.
أما عقد الإجارة الموصوفة في الذمة بين الممول والعميل: فيخضع هذا العقد أيضا لنوعين من القواعد الفقهية والقانونية، وهي المبادئ الفقهية العامة التي تحكم عقد الإيجار التمويلي (أو الإيجار المنتهي بالتمليك) بشكل عام، والإجارة الموصوفة في الذمة بشكل خاص، ومعظم هذه المبادئ منظمة في المعيار الشرعي رقم (9) الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، كما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي قرارات عدة بخصوص أحكام الإجارة المنتهية بالتمليك منها القرار رقم 13(1/3) والقرار رقم 44( 6/5) والقرار رقم110(4/12)، وتسري على صيغة الإجارة الموصوفة في الذمة ذات الأحكام الخاصة بإجارة المعيَّن باستثناء أحكام خاصة تنفرد بها صيغة الإجارة الموصوفة في الذمة، ومنها جواز عقد الإجارة الموصوفة في الذمة مع المستأجر قبل تملك العين المؤجرة، وقبل توقيع عقد الاستصناع مع المطور العقاري، خلافا لصيغة إجارة المعيَّن؛ وبذلك لا تحتاج هذه الصيغة إلى نموذج الوعد بالاستئجار أو اشتراط تسديد العميل دفعة ضمان الجدية، إضافة إلى جواز اشتراط بدء العميل بالسداد فور توقيع العقد، أو منحه مدة سماح إلى حين تسليم الوحدة العقارية المستأجرة، وفي جميع الأحوال لا تُستحق الأجرة إلا باستيفاء المنفعة أو التمكين منها، بمعنى أن الإيجارات التي يسددها العميل خلال فترة البناء وقبل التسليم تكون في حكم الأمانة لدى المموِّل. وكذلك، فإن هذه الصيغة ستخضع للقواعد النظامية التي تضمنها مشروع نظام الإيجار التمويلي: ويعالج هذا النظام الأحكام الموضوعية والإجرائية لنشاط الإيجار التمويلي، والتي تسري بطبيعة الحال على إجارة المعيّن والموصوف في الذمة.
ما أهم مجالات تطبيق صيغة الإجارة الموصوفة في الذمة مع الاستصناع باعتبارها صيغة تمويل؟
يمكن تطبيق هذه الصيغة في تمويل جميع أشكال الإنشاءات والوحدات السكنية، مثل تمويل بناء فيلا أو شقة ضمن مشروع مجمع سكني قائم على أرض يملكها المطور العقاري (أي التمويل المرتبط بمشاريع عقارية جماعية) ومثل تمويل تملك أرض وبناء فيلا عليها، وكذلك يمكن تطبيقها في بعض حالات التمويل الفردية (أي تمويل الوحدات السكنية التي لا تدخل ضمن نطاق مشاريع التمويل العقاري).
ما مزايا صيغة الإجارة الموصوفة في الذمة للعقار؟
تحقق هذه الصيغة كامل مزايا عقد إيجار المعيَّن وهي احتفاظ المموِّل بملكية المسكن طوال مدة العقد؛ مما يوفر للممول ضمانة مالية كبيرة، ويسهل بالتالي إجراءات بيع المسكن في حال تعثر العميل، وكذلك فإن هذه الصيغة توفر للممول بديلا شرعيا للصيغة التقليدية لبيع الديون، وذلك عن طريق نقل ملكية الأصول المؤجرة بعد إتمام بنائها إلى طرف ثالث محملة بحقوق والتزامات عقود التأجير وذلك في إطار عملية التسنيد أو التوريق Securitization، وبالتالي الاستفادة من مزايا السوق الثانوية، إضافة إلى إمكانية زيادة الأجرة أو تخفيضها خلال فترة التمويل بما يتناسب مع تذبذب أسعار الفائدة، وذلك بربط الأجرة بمؤشر مالي (كمؤشر سيبور أو ليبور مثلاً) مما يوفر تحوطا للممول من مخاطر أسعار الفائدة، وبالتالي ينعكس على المتمول على شكل انخفاض في تكلفة التمويل. كما أن وجود مدونة قانونية متكاملة وواضحة تنظم الأحكام الموضوعية لعقد الإجارة التمويلي بشكل عام - سواء أكان العقد واقعا على عين معينة أو موصوفة في الذمة ممثلة في مشروع نظام الإيجار التمويلي - ستعتبر ميزة لهذه الصيغة تخفف من مخاطر التقاضي الناشئة عن تفاوت الأحكام والتكييفات القضائية لهذه الصيغة التعاقدية.
وماذا عن أهم مخاطر صيغة الإجارة الموصوفة في الذمة للعقار؟
تحيط بمنتجات التمويل بصيغة الإجارة الموصوفة بالذمة مجموعة من المخاطر التعاقدية وأستطيع أن أوجز أهم هذه المخاطر وسبل تخفيفها وإطفائها على النحو التالي:
أولا: مخاطر ناشئة عن العقد مع المطور العقاري كتأخر المطور في مواعيد التسليم أو عدم تنفيذه للمباني محل التعاقد أو التنفيذ بشكل مخالف للمواصفات أو إفلاس المطور وتعثره ماليا.
وهناك عدد من الحلول التعاقدية والإجراءات التي يمكن اتباعها للتخفيف من هذه المخاطر عن طريق الضمانات التعاقدية التي تحمي المموِّل من تبعة تأخر المطور مثل غرامات التأخير، إضافة إلى منح المموِّل حق التعاقد مع مطور آخر لإكمال أعمال البناء على حساب المطور المتعثر، وأيضا خطاب ضمان بنكي لصالح المموِّل يضمن حسن الأداء، ويمكن أيضا تنظيم آلية السداد على مراحل زمنية، حيث يكون تسليم كل دفعة بعد التحقق من مطابقة الأعمال المنجزة للمرحلة السابقة للأوصاف المتفق عليها، كما يمكن منح الممول الحق في فسخ العقد واسترداد كامل الدفعات المسددة، وذلك عند تعذر التنفيذ كليا، ومما يخفف المخاطر كذلك ضمان المطور للصيانة الأساسية للمبنى لمدة معتبرة بعد التسليم وترتيب آلية قانونية لنقل ضمان المطور لأعمال الصيانة الأساسية والتشغيلية للمستأجر مباشرة. ويمكن تدعيم ذلك باشتراط تعاقد المطور العقاري مع طرف ثالث لتنفيذ أعمال الصيانة الأساسية لمدة معتبرة بعد التسليم، ويكون ذلك على نفقته، إضافة إلى الاستفادة من الضمانات التي قررتها ضوابط البيع على الخريطة لصالح الممول مثل قواعد حساب الضمان.
ثانيا: مخاطر ناشئة عن عقد الإجارة المبرم مع المستأجر، ومن أهمها عدول العميل عن العقد أثناء أعمال البناء وقبل تسليم المسكن: والأصل أن عقد الإجارة (معينا كان أو موصوفا في الذمة) هو عقد لازم، فلا يحق للمستأجر العدول عنه، ويمكن - مع ذلك - التحوط من هذا الخطر بإلزام العميل بسداد عربون يستحقه المموِّل في حال عدول العميل عن العقد قبل التسليم، سواء أكان العدول صراحة أو ضمنا (وصورة العدول الضمني هي امتناع العميل عن سداد أقساط الأجرة قبل التسليم) ومن المخاطر تعثر العميل في السداد أثناء أعمال البناء وقبل تسليم المسكن: ففي هذه الحالة إذا اختار المموِّل تنفيذ التبعة الناجمة عن التعثر (وهي فسخ عقد الإجارة) فيلزم برد الدفعات كافة الإيجارية التي استوفاها من العميل؛ إذ لا يقابلها انتفاع بالعقار، وهذا ما يعني خسارة كبيرة للممول، ويمكن حل هذه المشكلة باتباع إجراءات عدة، منها إلزام العميل بسداد دفعة إيجارية مقدمة عند توقيع عقد الإجارة تغطي الفترة الإيجارية الأولى كاملة أو جزءا كبيرا منها ويكون جزء من هذه الدفعة عربونا كما بيّنا سابقا، مع النص في العقد على اعتبار مماطلة العميل بالسداد بمثابة عدول ضمني عن الإجارة يترتب عليه استحقاق الممول لكامل العربون والذي من المفترض أن يغطي حسابيا تكلفة التمويل خلال فترة الإنشاءات.
لكن ماذا يمكن فعله في حال تعثر العميل عن السداد؟
هنا يكون أمام المموِّل خياران، إما فسخ العقد مع العميل واستحقاق مبلغ العربون أو الاستمرار في عقد الإجارة وعدم فسخه، على الرغم من تعثر العميل، حيث يستمر المموِّل في أعمال البناء حتى ينتهي المسكن، ومن ثم يمكّن العميل من الانتفاع به، إلى أن تنقضي الفترة الإيجارية الأولى التي استوفى المموِّل أجرتها، عندها يفسخ الممول العقد ويستحق كامل أجرة الفترة الإيجارية الأولى ويمكنه حينها بيع العقار أو إعادة تأجيره لعميل آخر.