حتى يقوم المركز السعودي.. كيف نحل مشكلة التحكيم؟
التحكيم التجاري لدينا مشكلة، في كل دول العالم أو أكثرها يلجأ المتنازعون أو المتخاصمون إليه لعدة أسباب على رأسها، وربما يكون أهمها، عامل الوقت، لأن المحاكم تستغرق وقتاً أطول للنظر والفصل في الدعاوى. في المملكة لدينا العكس، قضايا التحكيم تأخذ وقتاً طويلاً وغير معقول. قضاياه أصبحت وكأنها درجة ثالثة أو رابعة من درجات التقاضي. الموضوع مهم وحيوي وكبير، فالتحكيم هو إحدى الوسائل لتخفيف العبء على المحاكم والبحث عن خبرات متخصصة في مجال حل النزاع، بل إنه إحدى القنوات لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية للوطن.
التطورات الاقتصادية هائلة في ظل العولمة وتدفق المعلومات، التجارة الدولية والمحلية زاد نطاقها واتساعها وحجمها، الشركات العالمية متعددة الجنسيات أصبحت حاضرة بقوة في المشهد التجاري العالمي والمحلي، لذا ظهرت الحاجة إلى النص على نظام يعهد إليه الفصل في القضايا الناجمة عن حركة التجارة الدولية، هذا النظام لا بد أن يتسم بالسرعة والمرونة التي تمتاز بها التجارة العالمية والمحلية، كذلك تميزه بالدقة وقلة التكاليف. ومن هنا تظهر الحاجة إلى آلية التحكيم لتلبي تلك التطورات المتلاحقة. بعيداً عن التقيد بالإجراءات والخطوات التي ينهجها القضاء العادي.
المملكة أدركت منذ وقت مبكر هذا الواقع، ألغت المواد من (493 إلى 497) المتعلقة بالتحكيم التي كان يتضمنها نظام المحكمة التجارية الصادر بالمرسوم الملكي رقم 32 في 15/01/1350 هـ. وضعت نظاماً للتحكيم بمقتضى المرسوم الملكي رقم م/46 في 12/7/1403هـ ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم 7/2021 ليواكب أنظمة التحكيم الدولية. التحكيم في عرف الفقهاء قضاء استثنائي بديل للقضاء المعلوم ويمتاز بتبسيط الإجراءات وسرعة الفصل في المنازعات، هو لا يتقيد بالإجراءات الشكلية المنصوص عليها في نظامي المرافعات الشرعية ونظام الإجراءات أمام المحاكم الأخرى التي تتقيد بها المحاكم.
الأحكام القضائية لها صلة وثيقة بأسبابها وعللها وجوداً وعدماً، النظام يجب أن يرتبط بالهدف المنشود منه سلفاً، والهدف الآخر من نظام التحكيم هو اقتصاد النفقات وتبسيط الإجراءات والتحرر من الشكليات التي تؤخر الفصل في القضايا مع مراعاة قواعد العدل والإنصاف. الواقع العملي لآلية التحكيم في المملكة خلاف ذلك، المتحاكمون يشكون من بطء الإجراءات المتبعة أمام هيئات التحكيم. هذا مدعاة لتأخير البت في النزاعات ورد الحقوق إلى أصحابها، الأسباب الجوهرية لتأخير الفصل في القضايا التحكيمية هي كثرة الخطوات التي لا بد من اتخاذها قبل انعقاد جلسات هيئة التحكيم وارتباط هذه الخطوات بالقضاء، وطريقة مراجعة القضاء لأحكام التحكيم أو ما يسمى الطعن في أحكامه.
إجراءات الطعن في أحكام التحكيم حافلة بالاستفاضة والتوسع الكبير في الرقابة القضائية على قرارات وأحكام هيئات التحكيم. المادة (18) من نظام التحكيم أجازت اعتراض الخصوم على أحكام التحكيم خلال 15 يوماً من تاريخ إبلاغهم بأحكام المحكمين، المادة (19) من النظام ذاته نصت على قيام المحكمة المختصة بنظر الاعتراض وتصدر الأمر بتنفيذ الحكم أو قبول الاعتراض للفصل فيه.
قبول الاعتراض طبقاً لهاتين المادتين معناه أن تنظر المحكمة موضوع النزاع التحكيمي برمته من جديد، هذا الإجراء يترتب عليه إعادة جميع الإجراءات ومناقشة جميع أدلة الإثبات والنفي وطلب جميع الدفوع والطلبات من جديد، هذا يؤدي إلى تأخير الفصل في النزاعات، الكثير يعرف أن الحكم الصادر في الدعوى يُطعن فيه أمام ناظر القضية ومن ثم محكمة الاستئناف، وقد يُعاد نظر الدعوى من جديد من أيهما أو كليهما، وهذا أمر غير مقبول ولا بد من إيجاد حل له حتى يتحقق الهدف من التحكيم وحفظ حقوق الناس. ديننا الإسلامي حثنا على صون حق العباد حيث يقول تعالى ''إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله...'' النساء (105). وسيد البشر رسولنا الكريم يحثنا في مواضع كثيرة على ذلك.
هناك أكثر من مقترح لأن يتم إنشاء مركز خاص بالتحكيم السعودي، على غرار مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي ومركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربي وغيرهما. ذلك يحتاج إلى صدور أنظمة ولوائح وتعليمات وخلافه، هو أمر قد يستلزم زمناً طويلاً ويترتب عليه ضرر على حقوق الناس، بل على اقتصاد الوطن برمته.
الحل هو تكليف دائرة أو جهة مختصة داخل كل محكمة قائمة ويلجأ إليها في قضايا التحكيم، يكون اختصاصها الوحيد النظر في مثل هذه القضايا مثل المحكمة العامة أو المحكمة الإدارية على سبيل المثال لا الحصر، يوكل إليها النظر في جميع الإجراءات الخاصة بالتحكيم بدءاً من اعتماد وثيقة التحكيم واختيار أعضاء هيئته وإيداع حكم التحكيم وسماع الطعن فيه، هذه المحكمة تتولى النظر في الإجراءات الخاصة بالتحكيم وحكم التحكيم في مرحلة واحدة، الحكم الصادر من هذه المحكمة يجب أن يكون نهائياً وغير قابل للطعن فيه بأية وسيلة من وسائل الطعن الأخرى، لأنه في ظل الوضع الراهن قد ازدادت أسباب وطرق الطعن في أحكام التحكيم ونظرها عن ثلاث درجات، وبذلك تلاشت قيمة التحكيم المرجوة منه.
يتطلب الأمر كذلك حصر الحالات التي يجوز فيها للخصوم الاعتراض على حكم التحكيم أمام هذه المحكمة. هذا يتم على ذات النهج المتبع في معظم نظم التحكيم الدولية. تلك النظم التي أجازت الطعن على حكم التحكيم متى توافرت هناك حالات محددة من بينها وجود مخالفات في إجراءات التحكيم وأن يُراعى عدم مخالفة الحكم لأحكام الشريعة الإسلامية.
الأخذ بهذه المقترحات أو أي مقترحات إيجابية أخرى ضرورة ملحة وسيفضي إلى تفعيل نظام التحكيم، وبالتالي سرعته في الفصل في القضايا والنزاعات التحكيمية. سيؤدي هذا حقيقة إلى إزالة المخاوف لدى بعض المستثمرين والشركات الأجنبية من أن التحكيم السعودي يشوبه البطء ولا يلبي الاحتياجات المتسارعة لتلك الجهات. هذا أمر من شأنه أن يساعد على تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية للمملكة لتسهم في دفع عجلة الاقتصاد والتنمية الوطنية. ويا ليتنا نبدأ ولو مجرد التفكير من الآن في هذا القطاع المهم.