محنة الحق....؟
قل كل ما تريد أن تقوله عن دور الإنسان وحياته في هذه الدنيا، فهو أشرف المخلوقات وهو خليفة الله في هذه الأرض وهو المخلوق الذي بإمكانه أن يطير مع الملائكة عندما يسمو بقيمه ومبادئه ويعلو بعمله الصالح والنافع والمعمر لهذه الدنيا بكل جوانبها، وبإمكانه أيضا أن يهوي بنفسه من أعلى عليين إلى أسفل السافلين ويصبح أخس وأكثر شرا وفسادا حتى من الشياطين، وذلك عندما يعكس توجيه بوصلته ويتخلى عن إنسانيته ويختار لنفسه البعد عن النور الإلهي الذي يشده إلى الله، وهو المخلوق الذي منحته العناية الإلهية قابلية التفكير والوعي والفهم وإدراك بواطن الأمور، ولكن مع كل هذه العظمة لهذا المخلوق الذي يسمى إنسانا، (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، الآية رقم 14، سورة المؤمنون، ومع كل هذه المزايا والسمات التي منحها الله إياه ليكون خليفة له على هذا الكوكب يبقى مصيره مرتبطا بمقدار ارتباطه وتمسكه وممارسته للحق، (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، الآية رقم 8، سورة الأعراف. فقيمة الإنسان عندما يتخرج من جامعة الحياة تحدد بما عنده من حق في القول والفكر والممارسة. فبعد أن يفنى جسد الإنسان بعد الموت ليتحلل ويعود إلى أصله وهو التراب، وبعد أن تعرج روحه إلى بارئها بعد أن أدت دورها وبذلت جهدها وسعيها في شد الإنسان وربطه بخالقه لا يبقى لهذا الموجود وهو الإنسان إلا ما عنده من حق اكتسبه في الدنيا، وعندها يعطى هذا الإنسان ويجازى على قدر ما جاء به من حق جمعه في وعاء نفسه، فهناك من يأتي بوعاء وسيع ممتلئ بالحق ليتلقى عندها جنة عرضها السموات والأرضين، وهناك من يأتي بوعاء مملوء بالباطل وعندها لا بد من حرق هذا الباطل؛ لأن هذا اليوم هو يوم الحق وهو يوم الخير، وبالتالي يحترق هذا الإنسان الضال عن الحق بنيران جنهم التي اشتعلت في وعائه وليس هناك نار أشد اشتعالا وحرارة ولهيبا من نار الباطل في يوم الحق.
فليس من باب المبالغة ولا التهويل أن يقال للإنسان إن محنتك الكبرى في هذه الدنيا هي محنة الحق، والويل كل الويل من أن يموت الإنسان وليس عنده من الحق ما ينجيه من النار ويجعله من المفلحين. وليس طريق الحق هو بالطريق الهين والسهل؛ لأن دونه عقبات كبيرة وعوائق ليس بالسهل تجاوزها، ولكن - رحمة الله - الواسعة أخذت على نفسها بأن تحيط وتبارك جهود من يبحث عن الحق بصدق وإخلاص. الصدق مع النفس هو معناه الرغبة الصادقة في معرفة الحق، والإخلاص هنا يعني أن ثمن التعرف على الحق والحقيقة والإمساك بها هو رضى الله سبحانه وتعالى، ودون ذلك هو أثمان بخسة والتي قد تغري الإنسان حتى الصادق مع نفسه فينتهي به الأمر إلى القبول بالباطل والتخلي عن الحق. فلا بد لطالب الحق أن يتسلح بنفس صادقة وبروح مخلصة، فبالصدق يحمي الإنسان نفسه من الباطل والوهم الملتبس بالحق وبالإخلاص تتكفل الروح بحفظ صاحبها من أن يدخل في ظلمات الأهواء والرغبات والميول التي قد تدفعه إلى التخلي عن الحق تحت مبررات هو نفسه يعرف أنها باطلة وبعيدة عن الصدق.
فالإنسان مطالب على الدوام في البحث عن الحق وليس غير الحق، ولكل مجتهد نصيب، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)، (الآية رقم 6 سورة الانشقاق)، وهل هناك كلمة أقوى من كلمة كدح للتعبير عما هو مطلوب من الإنسان من اجتهاد وإصرار في البحث عن الحقيقة. ولكن المشكلة عند الكثير من الناس أنهم يبحثون عن الطرق السهلة والخفيفة الحمل في البحث عن الحقيقة، فهناك من يريد أن يضع للحق جينوم خاصا به؛ حتى يمكن توارث هذا الحق من إنسان إلى آخر بلا إرادة منه وبلا جهد وبلا تمحيص، وكلما كثر هذا النوع من الحق المتوارث بغير وعي ازدادت فرص الإنسان في الوقوع في غير الحق، وهناك من يريد أن يعرف الحق ويتعرف عليه بغير العقل أو بمعزل عنه، وهنا يحرم الإنسان نفسه من أعلى سلطة محايدة وغير منحازة موجودة في داخل نفسه، وبالتالي فإن هذا الإنسان المحروم بإرادته من بركات العقل لا بد من أن ينتهي به الطريق إلى غير الحق، فحركة الإنسان غير المعقلنة هي حركة تخبطية وعشوائية تصيب من الباطل أضعاف ما قد تصل إليه من الحق، وهناك من يريد الوصول إلى الحق من خلال التماهي مع الآخرين، فاستنساخ ما عند الآخرين من حق دون فحص ولا محاسبة ولا أخذ في الحسبان للظروف المحيطة بذلك الآخر هو في الكثير من الأحيان يؤدي بالإنسان إلى الأخذ بالباطل وليس الحق.
فالإنسان فعلا في حاجة إلى أن يدير محنته مع الحق، وعليه أن يمزج هذه الإدارة بالحكمة المستمدة من إيمانه بأنه ليس متروكا وحده في محنته، فهناك أولا، نور إلهي في أعماق نفسه وما عليه إلا أن يشرع أبواب نفسه ليتلقى هذا النور ليستهدي به في طريق البحث عن الحق، وهناك ثانيا، لطف إلهي يمنحه التوفيق والبركة لتكليل جهوده في الوصول إلى الحق، وأنا أعتقد هذا الإنسان المجتهد والصادق في البحث عن الحق أن بينه وبين الحق عقبات وعوائق لا يقوى على اجتيازها وحده وبما عنده من طاقات وإمكانات محدودة، وهناك ثالثا، رحمة إلهية تحيط به لتحميه من الخوف من تبعات الوصول إلى الحق، فشياطين النفس الأمّارة بالسوء لن تقعد ساكنة وهي ترى صاحبها وهو يقترب من الحق، فالوصول إلى الحق ربما يتطلب الأخذ بأشياء جديدة والتخلي عن أشياء أخرى قديمة، وهذا قد لا ترضاه النفس بسهولة، لكنها ترضخ عندما يمارس الإنسان إرادته عليها وهو يشعر بقوة أن رحمة الله به ستعينه في هذه المواجهة الصعبة مع نفسه، والوصول إلى الحق ربما يعني الحرمان من أشياء قد اكتسبها الإنسان وألف امتلاكها، وهنا تزداد محنة الإنسان، لكن المتدثر بلباس الرحمة الإلهية يشعر بالأمان والاطمئنان بما حصل عليه من حق، وسلوك طريق الحق قد يكون موحشا لقلة مرتاديه، لكن عندما يلتفت الإنسان السالك طريق الحق إلى رحمة الله المحيطة به تذهب عنه الوحشة ويذهب عنه الشعور بالخوف والوحدة، بل ترى هؤلاء الناس الملتحفين بالرحمة الإلهية في اطمئنان لا يعرفه غيرهم ولا يحس به إلا هم، (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، الآية رقم 28، سورة الرعد.
هناك الكثير مما يجب الالتفات إليه في محنتنا مع الحق، والمساحة المخصصة للمقال لا تكفي لذكرها والتعمق في شرحها وتفصيلها، وبالتالي سنكتفي بالإشارة إلى بعضها مع مناقشة مبسطة وموجزة لما نفهمه من هذه الأشياء، وهذه الأشياء هي كما يلي:
1- ليس كل الحق مطلقا: صحيح أن الحياة قائمة على مجموعة من الحقائق المطلقة التي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الزمان والمكان، لكن هناك مساحة كبيرة من الحق يشكلها الإنسان في إطار ما تحيط به من بيئة بشرط ألا تصطدم هذه الحقائق مع الحقائق المطلقة والتي لا غبار ولا غموض في صدقيتها. ومشكلة الإنسان في الغالب هي إما في توسيع دائرة الحق المطلق، وبالتالي يختلط عنده الحق بالباطل الذي ربما كان بعضه حقا وصار باطلا بسبب تغير المعطيات والبيئة المحيطة به، وإما أن يدخل في دائرة الحق غير المطلق أوهام وتخيلات بقصد أو غير قصد، ومع مرور الزمن تلبس هذه الأوهام لباس الحق وتأخذ من قدسيته ومن بعد قد نجدها وقد أخذت مكانها مع الحقائق المطلقة التي يحرم مسها أو حتى الاقتراب منها، ولعلنا نجد في كثرة ما يعتقد به بعض الناس من ثوابت وهي مشكوك في أمرها دليلا على مثل هذا التسرب للحقائق النسبية، وربما الأوهام إلى دائرة الحق المطلق.
2-للحق وجود مستقل: هناك إشكالية يواجهها الإنسان في محنته مع الحق، فهو يريد في الكثير من الأحيان أن يشخصن هذا الحق في أناس من خلال أقوالهم وكتاباتهم أو أفعالهم، فما يقوله هذا الإنسان هو الحق وما يكتبه هي الحقيقة وما يفعله هو الصواب. وتزداد محنة الإنسان مع هؤلاء الناس الذي يريدون أن يشخصنوا الحق في ذواتهم عندما يطلبوا من الناس التقديس لشخوصهم، فهناك الكثير من الألقاب والصفات التي تكرس قدسية الشخص عند الناس، وبالتالي يسهل قبولهم لما يقولوه ويكتبوه أو يفعلوه على أنه الحق وليس غير الحق، فعندما يرضى عالم ما أن ينادى بلقب كمثل حامي الدين أو حافظ الشريعة أو تاج العلماء أو غيرها من الألقاب التي تعودنا عليها في الماضي والحاضر فإن هذه الأسماء والألقاب لا تترك للإنسان العادي أن يفكر فيما يسمعه من قول من هذا الإنسان العالم إلا التسليم به على أنه هو الحق وكلام غيره هو الباطل.
3-تزاحم الحق مع المصالح الخاصة: لعل أشد ما يزاحم الحق وربما يزيحه من حياة الإنسان بالكامل هي المصالح، فربما يصل الإنسان إلى الحق ويتيقن أن ما وصل إليه وعرفه ما هو إلا الحق وليس غير الحق، لكن هذا الحق يصطدم مع مصالحه والمشكلة أن الغلبة في الكثير من الأحيان تكون للمصلحة وليس للحق. قد يستغرب الناس من أنه كيف لهذا الإنسان العالم ألا يعرف الحق وألا يقول به، ولكن لو رفع الغطاء وبحثنا في الأمر لزال العجب ولوجدنا أن المصلحة هي من أخفت هذا الحق بعد الوصول إليه أو هي من عطلت اللسان من النطق به أو هي من أقعدت الإنسان من العمل به. فذاك عالم دين يقول بأن الدين الحق هو الإسلام، ولكن المصلحة تقتضي مني أن أبقى على ديني، وذاك عالم آخر يبحث في مسألة فقهية ويكتشف أن الحق عند مخالفيه، ولكنه يقول ماذا أفعل وكل من سبقني من أساتذتي وأقراني يقولون بغير هذا الحق الذي توصلت إليه، فالمصلحة كثيرا ما تدفع بالإنسان إلى التخلي عن الحق.
أخيرا، تبقى أمور مهمة لا يكتمل الموضوع إلا بها، وهي أن إدارة الإنسان لمحنته مع الحق لا تكون فعالة إلا عندما يعيش بثقافة إنسانية، ثقافة لا تنتج له شخصية منغلقة على نفسها ومتشددة فيما تأخذ به من آراء وغير مستعدة للتواصل مع الآخرين والاستماع إلى آرائهم واحترام أفكارهم، ثقافة لا تكفر من يريد أن يتتبع الحقيقة من بداياتها أو التعرف عليها من أصولها ولا تستنكر على من يريد أن يستخدم عقله في الوصول إلى الحقيقة بدلا من أن يستنسخها من الآخرين.