فوكوياما يستعرض تطور المؤسسات السياسية في العالم عبر التاريخ
تأخر فرانسيس فوكوياما. وقد اتفقنا على اللقاء في ''روست''، وهو مطعم إنجليزي نمطي يقع في سوق بورو، على بعد خمس دقائق فقط من مكاتب ''فاينانشيال تايمز'' في لندن. ووصلت في الوقت المحدد الساعة 12.30 ظهرا، وأخذوني إلى طاولة هادئة نسبيا. وبعد مرور عشر دقائق ساورني القلق، فربما أن الأستاذ فوكوياما توقع أن يقابلني في المكتب. وعليه، هاتفت مكتب الاستقبال في ''فاينانشيال تايمز''، وشعرت بالارتياح حينما عرفت أنه لا ينتظرني هناك، فأرتشف الماء وأنتظر.
يصل فوكوياما، وهو شخص نحيل، وقصير القامة، ويرتدي بذلة رمادية أنيقة وربطة عنق، متأخرا نحو 20 دقيقة، ويبدأ بالاعتذار كثيرا، ويقول إن وكيله الإعلاني لم يكن يدرك كم سيستغرق الأمر للوصول إلى المطعم. وهذا الكاتب والأكاديمي الأمريكي موجود في لندن للترويج لكتابه الجديد ''أصول النظام السياسي The Origins of Political Order''، الذي يتمحور حول تطور المؤسسات السياسية عبر التاريخ. (إنه موضوع كبير للغاية بحيث إن فوكوياما يتناوله في مجلدين، ويتناول المجلد الأول عصور ما قبل البشرية حتى الثورة الفرنسية).
أعرف شخصيا فوكوياما، البالغ من العمر 58 عاما، منذ فترة من الوقت. وفي عام 2006، قدمت سلسلة من المحاضرات له في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة هوبكنز في واشنطن العاصمة، حيث كان أستاذ اقتصاد السياسة الدولية قبل انتقاله العام الماضي إلى جامعة ستانفورد.
اتفقنا على أن نطلب طعام الغداء، واختار هو طبق الدجاج وفطيرة البيكون، بينما اخترت فعليا طبق اليوم الخاص، قطعة لحم من حمل كامل مشوٍ.
بدأنا الحديث عن نبأ اعتقال دومينيك ستروس - كان الذي انتشر لتوه. ويقول فوكوياما: ''أليست هذه قصة مذهلة؟.. وحتى لو كانت فخا من نوع ما، فإن الطريقة التي استجاب بها، حتى كانت بعيدة عن الحقيقة إلى حد بعيد، لا يمكن تصديقها''.
يصل الطعام سريعا، وأغوص في قطعة لحم الحمل الرائعة، بينما يأكل فوكوياما ببطء أثناء تفكيره في إجاباته. (فيما بعد، ما زال هناك طعام أمامه بعد فترة طويلة من انتهائي، ولكنه يشير إلى النادل لكيلا يزيله من أمامه).
إن أكثر مصادر شهرة فوكوياما هي كتابه ''نهاية التاريخ، وآخر رجل'' (1992) الذي صرح فيه بأن الديمقراطية الليبرالية هي الطريقة الوحيدة لإدارة دولة حديثة. ويتكون لدي انطباع بأن دعمه للديمقراطية مشروط الآن على نحو أكثر مما كان يعتقد في ذلك الحين.
ويقول فوكوياما في هذا الصدد: ''ما أشعر به الآن تحديدا هو أنها مسألة ما زالت مفتوحة من حيث أي نظام سيكون أداؤه أفضل في الفترة التالية - نظام استبدادي عالي النوعية، أم نظام ديمقراطي مغلق ومشلول بوجود الكثير من الضوابط والموازين؟ وفي الأجل الطويل، سيكون من الأسهل المحافظة على نظام بوجود ضوابط وموازين، والسبب تحديدا هو أن الضوابط والموازين تسمح بالتعديل، إذ بإمكانك أن تتخلص من قائد سيئ''.
ويقول كذلك: ''بعدئذ، أعتقد أن البعد المعياري يلعب دورا؛ لأن الدولة الاستبدادية لا تعترف بكرامة مواطنيها. ومن شأن ذلك أن يجعلني أكره النظام، ولكن الأهم من ذلك، فإن ضعف النظام هو ما أكرهه لأنه، في مرحلة معينة، سيتدفق غضب الشعب بسبب معاملته بهذه الطريقة''.
على الرغم من ذلك، يمضي قائلا: ''من نواح عديدة، كان لدى البلدان الآسيوية، ليس الصين فقط، وإنما كذلك سنغافورة، وفي الفترات الأولى اليابان وكوريا الجنوبية، حكومات كانت تبدو مثل مجلس إدارة الشركات على نحو أكثر؛ لأنه لم تكن هناك محاسبة بالاتجاه الأسفل من أي نوع. وليس عليك أن تتعامل مع دوائر انتخابية... فأنت تدير البلاد برمتها وكأنها شركة، وأعتقد شخصيا أن تلك هي ميزتهم في اللحظة الراهنة''.
لدى تحول الحديث نحو الصين يقول فوكوياما: ''إن إحدى المزايا التي يتمتع بها شكل النظام الاستبدادي الخاص بهم هو أنهم استنتجوا بعد ماو أنهم لن يسمحوا على الإطلاق مجددا لشخص وحيد بممارسة ذلك النوع من الهيمنة على نظامهم؛ ولهذا السبب لديهم فترات حكم محددة. ولهذا السبب يجب اتخاذ القرارات بشكل جماعي. ولكن في النهاية، سيعاني هذا النظام كذلك من عدم الكفاءة''.
مع ذلك، يتضح سريعا أنه لا يعتقد بأهمية النظام السياسي الأمريكي كذلك. ويقول: ''ما عليك سوى أن تنظر إلى الطريقة التي تملك بها مجموعات المصالح في الولايات المتحدة حق الفيتو على أبسط أنوع الإصلاحات. ونحن نسمح بتخفيض معدل الفائدة على القروض العقارية بغض النظر عن مدى تكلفة المنزل. فلماذا الحال كذلك؟ لأن لدينا صناعة عقارات تقول ’إياك أن تفكر بتغيير ذلك‘''.
السؤال الذي يطرحه فوكوياما في كتابه الجديد هو كيف ظهرت الدولة الحديثة. ويحدد فوكوياما مثل تلك الدول بثلاث خصائص مميزة: المؤسسات البيروقراطية الرسمية، وسيادة القانون، والمساءلة. ويتجاهل ثقافة العصور القديمة الكلاسيكية ويبدأ بدلا من ذلك بظهور الدولة البيروقراطية الصينية. لماذا يفعل ذلك؟
يقول: ''إن المشكلة بالأسلوب الكلاسيكي الذي يأخذ بوجهة النظر الأوروبية هو أن النموذج الأصلي الذي كنا نستخدمه، تاريخ إنجلترا، عبارة عن تجربة غريبة. ولا أعتقد شخصيا أنه يجب النظر إليه على أنه نموذج''.
بناءً عليه، ما الذي يجعل تاريخ الصين فريدا؟ يجيب قائلا: ''إنه ليس فريدا، فالجميع يصل في نهاية المطاف إلى هذا الشكل من الدولة البيروقراطية الحديثة. ولكن الصينيين اخترعوا اختبار الخدمة المدنية الموجود فعليا في القرن الثالث قبل الميلاد''. ووصلوا إلى الدولة الحديثة أولا.
إذا مشينا سريعا في الزمن إلى الأمام، ما الذي يفسر هيمنة الغرب خلال القرنين الماضيين؟ هل كان ذلك مصادفة للتاريخ الحديث نسبيا، حسبما يجادل المؤرخون الثوريون، أم هل يعكس مزايا أطول أجلا؟ يميل فوكوياما إلى المدرسة الأخيرة الأكثر تقليدية. ويقول: ''إن سبب ذلك هو اختراع الأسلوب العلمي، ومأسسته في الجامعات، وابتكار نظام مستمر لاستكشاف الطبيعة، ثم تحويل نتائج كل ذلك لاستغلالها تجاريا. وهو بمثابة تقاطع للأفكار والمؤسسات الاجتماعية التي تصلبت في أوروبا في فترة ما خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر''.
بناءً عليه، أسأل قائلا: بما أن الصين تلحق بالركب سريعا الآن، فهل ستسهم كذلك بشكل متناسب في المخزون العالمي من الابتكارات؟
ويقول فوكوياما في هذا السياق: ''يصل بنا ذلك إلى عالم الأفكار أكثر بكثير مما يتضمنه كتابي. ولكن هناك شيئا واحدا يذهلني دائما وهو أنه لا يوجد مستوى عالٍ من التجريد في الديانة الصينية، أو الفكر الصيني. وإن الفكرة بوجود قوى خفية عالمية، مثل الجاذبية التي تنطبق على العالم برمته، هي فكرة غربية للغاية. والديانة الصينية ديانة تهتم بالتفاصيل. وأعتقد شخصيا حتى هذا اليوم، إذا فكرت في نظرية عالية المستوى، ما زالت الأفكار لا تأتي من آسيا''.
انتهى أخيرا من تناول الفطيرة. وأحجم عن تناول البودينج، ونطلب بدلا من ذلك قهوة إكسبرسو كبيرة لي، وشايا أخضر له في الوقت الذي تم فيه تنظيف الطاولة سريعا.
أشير إلى أنه لدى الغرب وجهة نظر معاكسة بشكل متزايد لوجهة النظر التقليدية الصينية حول السلطة الفكرية. وفيما يتعلق بمواضيع عديدة - التغير المناخي، على سبيل المثال - فإننا نعتقد أن وجهات نظر الغالبية العظمى من الناس لها أهمية أكثر من مجرد وزن الرأي العلمي. وليست للسلطة أهمية في الغالب.
يتفق معي بهذا الشأن، ويقول: ''إنها فعليا مشكلة كبيرة في الإدارة العامة الغربية؛ لأنني شخصيا أعتقد أن الإدارة الجيدة هي نوع من الظاهرة الارستقراطية. كما أننا لا نحب احترام الخبراء، ولا نحب تفويض السلطة إلى الخبراء. وبناءً عليه، فإننا لا نقيدهم بجميع هذه القوانين، ونحد من حرية اختيارهم لأننا لا نثق بهم. وأصبح المرض أكثر تفشيا في الولايات المتحدة'' ويبدو أن وجهة نظره هي أن العالم عالق بين القليل للغاية من الديمقراطية في الشرق، والكثير للغاية منها في الغرب''.
نتحول إلى الحديث عن المجلد الثاني المقبل من كتاب فوكوياما، والذي يجلب الرواية إلى وقتنا الحاضر. ويقول: ''هناك قضايا عدة أريد التعامل معها. وتتمثل إحداها بالقضية التي نتحدث حولها، تاريخ الفساد في الحكومات. وإذا نظرت إلى الإدارة العامة في الولايات المتحدة، أو بريطانيا، في مطلع القرن التاسع عشر، فإنها كانت سيئة للغاية مثل العديد من البلدان النامية في يومنا هذا، وتطورت الإدارة العامة في الولايات المتحدة بطريقة ما إلى أشكال غير شخصية إلى حد كبير من الحكومات. وبناءً عليه، فإن هناك شيئا واحدا أريد الحديث عنه وهو التاريخ الكامل للكيفية التي حدث بها ذلك''.
أشير شخصيا إلى تطور آخر كبير، وهو رد الفعل تجاه النخبة التي كنا بصدد مناقشتها الآن، وهو رد فعل قوي للغاية في الولايات المتحدة. ويقول: ''هذا صحيح، وله الكثير من الجذور المختلفة، لكنه دون أدنى شك الأعمق في الولايات المتحدة. وينبثق حزب الشاي من هذا التقليد الذي بدأه أندرو جاكسون. وتم انتخاب أندرو جاكسون عام 1828. ويقول ’فزنا بالانتخابات، فلماذا نجعل هؤلاء النخبة يديرون البلاد؟‘ وتجد أصداء حديثة لهذا الأمر مع سارة بالين التي حظيت بالشعبية لأنها لم تذهب إلى جامعة هارفارد تحديدا، وهي تواجه رئيسا لم يذهب إلى جامعة هارفارد كذلك. وفي كل بلد أوروبي تحديدا، بما فيها البلدان الاسكندينافية النظيفة بشكل صارخ، هنالك الآن أحزاب شعبوية يمينية''.
ويقول فوكوياما كذلك: ''الجزء الآخر المهم من هذا الأمر، ليس ما يتعلق بتطور المجتمعات الغربية فحسب، وإنما المجتمعات الأخرى كذلك؛ لأنه بعد مائتي عام من نهاية المجلد الأول (من كتاب أصول النظام السياسي)، فإن جميع هذه المؤسسات المتطورة على نحو جيد في الغرب تتصادم مع المؤسسات التقليدية في كل منطقة أخرى من العالم. ومن المهم للغاية أن نفهم لماذا خرج بعض بلدان العالم غير الغربي من هذا التصادم دون مساس، وهي في واقع الأمر تبلي بلاء حسنا، مثل شرق آسيا، وفي المقابل تم تقويض مناطق أخرى من العالم تماما''.
ويضيف قائلا: ''إن اليابانيين، على سبيل المثال، الذين كانوا سباقين في التكيف الأكثر نجاحا إزاء هذا التصادم مع الغرب، لم يفعلوا ذلك ببساطة بأخذ المؤسسات الغربية. بل حافظوا فعليا على تقاليدهم الخاصة''.
ويضيف أيضا: ''إذا نظرت إلى دولة مثل باكستان، وهي المكان الأكثر خطورة في العالم في الوقت الحاضر، ونظرت قليلا تحت سطح هذه المؤسسات التي من المفروض أن تكون ديمقراطية، فإن ما ستراه هو هذه السلسلة الهرمية من الأقارب التي يتزعمها سادة إقطاعيون لديهم رقيق يعملون على أراضيهم. ويديرون هذه البلاد بشبكات الرعاية. ولهذا السبب لم تنجح الديمقراطية جيدا هناك. وبناء عليه، فإنه بلد تقليدي بشكل متطرف في هذا المعنى - بلد تعتبر فيه الرعاية والقرابة قصة السياسة''.
أشير إلى أنه في منطقة جنوب الصحراء الإفريقية يتعلق الأمر كذلك بدول ليست لها جذور تاريخية. ويجيب قائلا: ''إن الأمر أسوأ من ذلك؛ لأن المستعمرين الأوروبيين، على النقيض من أماكن مثل هونج كونج، أو الهند، لم يعطوهم مؤسسات قوية. وقرروا أن ينفذوا أهدافهم الاستعمارية بتكلفة رخيصة الثمن. وأنشأوا نظام الحكم غير المباشر الذي يعطي الصلاحيات إلى العديد من الرجال المحليين الأقوياء، ثم غادروا بعد فترة قصيرة نسبيا، كما حددوا للبلدان الجديدة حدودا غير منطقية''.
أتحول إلى الحديث عن الحدث السياسي الكبير في يومنا هذا: الثورة العربية. إلى أي حد هو متفائل بشأن ذلك؟ ليس كثيرا، حسبما افترض.
ويقول فوكوياما في هذا الصدد: ''حسنا، قبل كل شيء، إنني شخصيا مسرور فعليا لأنها حدثت لأنك لن تحصل على الديمقراطية ما لم يكن لديك حشد شعبي. وكان الجميع يعتقد أن العرب لن يتمكنوا إلى حد ما من فعل هذا الأمر، وأثبتوا الآن أن بإمكانهم ذلك. ولكنني شخصيا أعتقد أن الأمر سيستغرق بعض الوقت لتأسيس المؤسسات، وفي الوقت الحاضر، فإن الأشخاص الذين يتطلعون إلى الخارج، والديمقراطيين، والمتسامحين، والليبراليين غير منظمين بشكل جيد. وليست لديهم خبرة. وكان المجتمع المدني مقموعا، وبناءً عليه، فإن جميع هذه الأمور التي تدعم المؤسسات الديمقراطية القوية ليست موجودة''.
في المقابل، تتحرك الصين سريعا باتجاه اقتصاد حديث، وأسأل فوكوياما كيف سيؤثر الازدهار على نظامها السياسي؟
ويجيب قائلا: ''أعتقد أن ذلك يمثل أحد الدوافع الكبيرة للديمقراطية التي أخطأها الشعب الذي نظر لتوه إلى الظروف الاقتصادية. فإذا كنت فلاحا فقيرا، فإن كل ما تقلق بشأنه هو الحصول على طعام على مائدتك لعائلتك. ولكن حينما تحصل على المزيد من التعليم، فإن بإمكانك أن تقلق بشأن أمور مثل، ’هل ستسمح لي حكومتي بالمشاركة؟‘ عندئذ، فإن آفاقك العالمية ستتغير بناءً عليه. وليس هناك سبب لعدم حدوث ذلك في الصين''.
يساورني القلق بأن الوقت ينفد، لكنه يؤكد لي أن وكيله الإعلاني سيأتي ليقله حينما ينتهي وقتنا. ويستطرد قائلا: ''أعتقد أنك محق بأنه حينما يكون هناك بلد بأكمله يضم 800 مليون شخص من الطبقة الوسطى وحاصل على تعليم جامعي، فلا يمكنك أن تديرها بطريقة أبوية للغاية، من الأعلى إلى الأسفل. والمشكلة الكبرى هي أن هؤلاء الأشخاص أنفسهم يمكن أن تحفزهم الوطنية - وهناك العديد من الوسائل الأخرى لحشد الشعب''.
ويضيف ملاحظة أكثر كآبة: ''إن ما يخيف هو أن العسكر لديهم هذه القصة المختلفة تماما من القرن العشرين، التي تضعهم في مركز الوطنية الصينية والهوية الصينية، ويبدو أنهم يدفعون السياسة الخارجية بشكل متزايد''.
وأرد عليه بمناقشة الوضع في الولايات المتحدة التي يوجد فيها سياسيون شعبيون. إنني أرى أن أوباما شخص معقول وعقلاني ومتواضع، وهو بدرجة الطيبة التي يمكن أن تتمناها. لكنني أقول إنه ليس من الصعب تصور أن يأتي شخص للسلطة- وخاصة إذا لم يتعاف الاقتصاد بشكل ممتاز، وهو أمر ممكن جدا - لديه أجندة مختلفة جدا.
ويقول معلقا: ''هذا صحيح. لكنني أعتقد أنه سوف يعاد انتخاب أوباما'' ولكن عندها، حان موعد الانتهاء. فأغادر وهو يتوجه للقاء وكيل الدعاية والإعلان الخاص به.