مشاهدات من داخل «أرامكو السعودية»
أعترف بأنني لم أكن أعرف الكثير عن شركة أرامكو السعودية، وأجزم بأن الكثيرين من أبناء وطني هم أيضا كذلك. كل ما نعرفه عن هذه الشركة يقتصر على اختصاصها بأعمال التنقيب والإنتاج والتسويق للمنتج الذي يمثل المصدر الأول والرئيس لموارد الدولة المالية، علاوة على ما نسمعه عنها بين الفينة والفينة من أخبار محلية وعالمية، بما في ذلك تلك الأخبار عن خلافاتها مع شركات التطوير العقاري، وشركات صناعة الأسمنت، وغيرها من القطاعات التي تتعارض أجنداتها مع أجندات هذه الشركة. والحقيقة، أن شركة أرامكو السعودية تبنت دوما استراتيجية إعلامية متحفظة، فابتعدت عن إطلاق التصريحات والبيانات الصحافية، وآثرت الصمت في معظم الأحيان حيال ما يدور حولها من جدل، وما تنشره الصحف ووسائل الإعلام حولها من أخبار. كثيرون هم من كانوا ينظرون إلى هذه الشركة وكأنها دولة مستقلة داخل الدولة، تعمل وفق أنظمة وآليات تختلف عما يجري في كل مؤسسات الدولة الأم، وتتمتع بمساحة واسعة من حرية التصرف وقوة التأثير، حتى أنها تضم نمطا مختلفا من أنماط الحياة الاجتماعية داخل أسوارها الحصينة. وفي الأسبوع الماضي، تسنى لي أن أحظى بفرصة لزيارة هذه الشركة والتعرف عليها من الداخل، وخرجت من هذه الزيارة القصيرة المركزة بالكثير من الانطباعات والمعلومات التي وجدت لزاما علي أن أنقلها للقارئ الكريم.
أول الانطباعات التي خرجت بها من هذه الزيارة هو ما رأيته من ممارسة احترافية لفكر العمل المؤسسي. فـ ''أرامكو السعودية'' لا تقوم على قدرات الأفراد ولا على توجهاتهم وخططهم وأفكارهم الفردية، ولا تتغير استراتيجياتها ومناهج عملها بتغير قادتها ومديريها. كل القيادات الذين تسنى لي مقابلتهم في هذه الزيارة هم جنود مجهولون، لا أحد يعرفهم ولا نسمع عنهم في أروقة الإعلام. مع أنهم يعملون على إدارة دفة القيادة في شركة تحمل مكانة الريادة العالمية، وتقوم على إدارة شؤون المورد الأول والرئيس لخزانة الدولة. الأمر الآخر المبهر في هذا الكيان هو تبنيه لأنشطة البحث والتطوير في مجالات عمل الشركة، وسعيه الدؤوب لتطوير التقنيات والمعارف والعلوم التي تسعى من خلالها لمعالجة المشكلات التقنية التي تواجه عمليات الإنتاج والتكرير والنقل وغير ذلك من عمليات الشركة. وفوق ذلك، فهي تضم مركزا للبحث والتطوير تقوم من خلاله باحتضان جهود العلماء والباحثين الأفراد، وتدعم جهودهم البحثية للمساهمة في تحويل أفكارهم واختراعاتهم إلى منتجات حقيقية. ومع أن هذا المركز لم يبلغ من العمر أكثر من عشر سنوات، إلا أنه أنتج عددا من براءات الاختراع التي يفوق عددها كل براءات الاختراعات التي أنتجتها بقية المؤسسات البحثية، بما في ذلك مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية. ومن ناحية أخرى، فإن هذه الشركة عرفت بسعيها إلى ترسيخ ولاء موظفيها وانتمائهم لها، وذلك عبر توفير بيئة عمل مريحة ومحفزة للإنتاج، فهي توفر لهم المساكن ببرامج تمويل مريحة، وتوفر لأبنائهم برامج تعليمية مميزة، وتوفر لهم ولأسرهم خدمات صحية متقدمة. أكثر ما أبهرني في هذه الزيارة هو مراكز وغرف العمليات التي يتم من خلالها إدارة كل عمليات الشركة، وهي التي صنفت إلى مسارين رئيسين، الأول للعمليات التحتية التي تختص بأعمال التنقيب والحفر والإنتاج وما يتعلق بها، والثاني للعمليات الفوقية التي تختص بالتخزين والشحن والنقل وما يتعلق بها. وفي كل تلك العمليات، تقوم الشركة باستخدام وتوظيف أحدث التقنيات والتجهيزات الفنية والآلية، علاوة على أفضل القدرات البشرية من علماء وباحثين وموظفين وعمال. مشهد غرف العمليات التي أشرت إليها ذكرني بتلك المشاهد التي نراها في الأفلام والبرامج الوثائقية عن غرف عمليات ''ناسا'' و''جوجل'' و''مايكروسوفت''، وغيرها من الشركات العالمية المتقدمة.
كل هذا ليس إلا غيضا من فيض مجالات التميز التي شاهدتها في زيارتي لهذه الشركة، زيارة خرجت منها مملوءا بمشاعر الفخر والحبور. ومع ذلك، فقد اختلطت هذه المشاعر بشيء من مشاعر الحسرة والخذلان تجاه بقية المؤسسات والشركات في بقية القطاعات في المملكة. كل تلك المميزات التي رأيتها في ''أرامكو السعودية'' تفتقر لها معظم الكيانات والشركات العاملة في المملكة، بما فيها مؤسسات القطاع الحكومي. فغياب الفكر المؤسسي وسيطرة الفكر الفردي في العمل ظاهرة مستشرية، والقائد في الأغلب الأعم هو صاحب السطوة في القيادة وتوجيه دفة العمل، ودائما ما نرى خطط تلك الإدارة واستراتيجيات تلك الوزارة تتغير بتغير قادتها، وهو ما يوقع كثيرا من الهدر والخلل في أداء تلك الأجهزة. كما أن الموظفين هم في العادة في ذيل قائمة الاهتمامات، ولم أسمع عن أية مؤسسة حكومية أو خاصة تبنت أية برامج لخدمة الموظفين كتلك البرامج التي رأيتها في ''أرامكو السعودية''. والأمر ذاته ينجر على بقية الجوانب، فما من اهتمام بالبحث والتطوير وتنمية الإبداع واحتضان المبادرات، ولا من جهود حقيقية لتوطين التقنية وتوظيفها توظيفا فعالا. كنت دوما أستغرب وأستنكر تكليف شركة أرامكو السعودية بالإشراف على بعض المشروعات التي تحمل أهمية خاصة، وهو ما كنت أرى فيه تعبيرا فاضحا عن قصور الجهات القائمة على تلك المشروعات، علاوة على الحياد بتلك الشركة عن مهامها الأساسية، وتحويلها إلى ممارسة نشاط إدارة المشاريع الذي يفترض بغيرها القيام به. والسؤال هنا، ألا يمكن أن تكون كل شركاتنا وأجهزتنا الحكومية على غرار ''أرامكو السعودية''، ولماذا لا تؤخذ هذه الشركة نموذجا يحتذى في جودة الأداء ورقي العمل.
ومع كل هذه الانطباعات الإيجابية التي خرجت بها من هذه الزيارة، إلا أنني لمست أيضا شيئا من أوجه القصور التي يمكن لهذه الشركة أن تعمل على معالجتها لزيادة فعالية دورها المجتمعي. وأول هذه الجوانب هو في الحاجة إلى زيادة المشاركة المجتمعية من قبل الشركة، وزيادة جرعة برامج المسؤولية الاجتماعية فيها. كلنا يتطلع إلى أن تخرج ''أرامكو السعودية'' من هذه القوقعة، وتزيد من كم تفاعلها مع محيطها الجغرافي، فتنشر ثقافة العمل الممارسة فيها في ذلك المحيط، ربما عبر دورات تدريبية وبرامج توعوية تنظمها. أحد هذه البرامج يمكن أن يكون برنامجا تتواصل فيه الشركة مع المؤسسات التعليمية بجميع مستوياتها للمساهمة في تطويرها والارتقاء بها. الأهم من ذلك، هو ما يمكن أن تقوم به الشركة لمعالجة المشكلة الأفدح التي نشهد معالمها، وهي مشكلة نزيف الطاقة. وما يمكن أن تقوم به الشركة في هذا المجال متعدد الجوانب، بدءا من التواصل مع المؤسسات الحكومية ذات العلاقة، ومرورا بأداء دور توعوي إعلامي مركز يبرز حجم المشكلة ويسهم في معالجتها، وانتهاء بالتواصل مع المؤسسات التشريعية كمجلس الشورى ومجلس الوزراء لصياغة القوانين والتشريعات اللازمة لدرء هذا الخطر المحدق.