«استهلاك» الثقافة

الاستهلاك جزء مهم من حياة الإنسان اليومية، وهو مكون أساسي في جميع نظريات الاقتصاد على مستوى الأفراد والشركات والمؤسسات، وعلى مستوى الوطن ككل. ومع أن الاستهلاك يشمل في مفهومه العام أشياء كثيرة إلا أن أكثر ما يرسخ في أذهان الناس هو الاستهلاك المادي، الذي تظهر أبسط صوره في الغذاء والماء والملبس وما يتبع هذه المنظومة الاستهلاكية. والاستهلاك كمصطلح يتحول في بعض الأحيان إلى صفة مدح أو ذم للإنسان، فهناك الجشع وهناك البخيل في مسيرته الاستهلاكية. والحديث يطول عن خفايا ومكونات هذه الكلمة السحرية التي قد تقود إلى التطاحن والقتال بين الأفراد والأمم.
أما الثقافة فهي المصطلح الذي يعكس النسق المعرفي الذي ينشأ من البحث والدراسة والاطلاع والابتكار والمتابعة للإنتاج العقلي الإنساني. كما أن للاستهلاك مفهوما شعبيا، فإن للثقافة هي الأخرى مفهوما شعبيا يتمحور حول الكفاءة لدى الشخص في معرفة أخبار ومصطلحات الحياة اليومية.إلا أن البعد الأدبي من شعر وكتابة وقصة هو النمط السائد والمقبول كمعبر عن الثقافة. وكلا المصطلحين (الاستهلاك والثقافة) حق لكل فرد يستطيع أن ينهل منهما ما يراه مناسباً لنفسه، على ألا يتعدى على نصيب الآخرين أو أن يصل إلى حد التخمة المضرة. وإذا كنا نتفق مع مبدأ الحق الفردي المشار إليه أعلاه، إلا أن خلط المصطلحين معا (أي استهلاك الثقافة) يُنتج - في رأيي - خلطة تضر معدة المجتمع، وقد تتحول إلى مسمومة عندما يزيد استهلاك بعض الأفراد للثقافة على الحد المقبول والمعقول أو حدود إمكاناتهم. وما نعنيه هو أن يتحول الفعل الثقافي إلى مادة استهلاكية لدى طبقات معينة ترى أن دورها في الحياة هو الاستهلاك فقط، وبالتالي لا ترى خطيئة أن تحول الثقافة إلى مادة استهلاكية تشتريها وتبيعها مثلها مثل قطعة أرض أو سيارة جديدة أو قطعة كيك شهية. إن وجود هذا التوجه لدى من يرون ويستطيعون القيام بذلك يعد كارثة تنموية وأخلاقية للمجتمع الذي توجد فيه مثل هذه الممارسات، خاصة عندما يعتقدون بقدرتهم على معالجة أي قضية وإبداء الرأي في أي موضوع.
لقد بدأت ظاهرة ''الاستهلاك'' الثقافي في البروز في مجتمعنا عندما توافرت الإمكانات المادية وأصبح الهوس الاستهلاكي مرضا ينتشر لدى معظم فئات المجتمع. وحيث إن أفراد المجتمع يتفاوتون في قدراتهم المادية فإن البعض الذين لم يعد الاستهلاك المادي يحقق الإشباع الذي يبحثون عنه، بدأوا ينقبون عن مجالات أخرى ترضي هوسهم الاستهلاكي، فكان ''استهلاك الثقافة'' بابا استهواهم طرقه، ووسيلة يمرون من خلالها إلى القيمة المجتمعية. وهنا ظهر الأشخاص الذين لديهم الإمكانات المادية والرغبات النفسية، فتلقفتهم المنابر الربحية من قنوات فضائية وصحف ومجلات وندوات تبيع الوهج الثقافي لمن يملك ويرغب، وبالتالي تحقق المثل الشهير ''وافق شنٌ طبقة''، فرأى الناس العجب العجاب واختلط الحابل بالنابل، وأصبح التمييز بين المغني واللاعب والشاعر والمفكر والعالم والناقد والكاتب والمذيع والتاجر من المعجزات، فالكل يفتي في كل شيء، ولم يعد للتخصص والمتخصصين مكان أو دور حقيقي. وامتلأ الفضاء بالصور البهية والمكياج المبالغ فيه وتراجع كثير من منتجي الثقافة الحقيقيين وحل محلهم ''مستهلكو'' الثقافة. وهنا قد يقول قائل وما الضرر في ذلك؟ ولماذا يتم طرح هذه القضية؟ والإجابة البديهية والبسيطة أن إحدى أهم ركائز ومقومات نمو وتطور المجتمعات مرتبط بما يتوافر لديها من مخزون ثقافي وتراكم معرفي، فالمجتمعات لا تصل إلى معدلات التنمية الحقيقية من فراغ، إنما من فكر ونظريات ودراسات ينتجها مبدعون حقيقيون، تقوم هذه المجتمعات على وضعها موضع التنفيذ في جوانب حياتها المختلفة من إدارية واقتصادية واجتماعية وغير ذلك من مستلزمات التطور والتقدم. إن حقيقة الحياة وتجارب الآخرين تقول إنه لا يوجد مجتمع حقق قفزاته التنموية هكذا وكأنه نبتة شيطانية ظهرت فجأة. حتى إن حصل ذلك في بعض المجتمعات لفترة زمنية محددة فإن مصير ذلك إلى الانهيار، فلا بنيان من دون وجود أساس متين يقوم عليه البناء. إن ضرر هيمنة مستهلكي الثقافة والمعرفة هو وصولهم إلى مواقع اتخاذ القرار وقدرتهم على إبهار الناس دون الاتكاء على قاعدة متينة، وبالتالي يلحق ضررهم الجميع. دعونا نكون صادقين مع أنفسنا ونضع قائمة بالأسماء البارزة في حياتنا الثقافية والمعرفية الذين تحول إنتاجهم المعرفي والعلمي إلى فعل تنموي مؤثر. كم اقتصاديا أو إداريا أو باحثا طور النظريات والدراسات ذات التأثير الإيجابي في مسيرتنا؟ وكم أديبا أو كاتبا أو عالما كان لوجهة نظره أو دراساته قيمة في تعديل المسار الاجتماعي أو الأخلاقي؟ أكثرنا لا يعرف هذه الأسماء ولا يرى ما يطرحونه على أرض الواقع التنموي السعودي. والذنب هنا ليس ذنب هؤلاء المبدعين، إنما أمام هيمنة ''مستهلكي'' الثقافة والمفتين في كل شيء وسطوتهم وعلو صوتهم لا يمكن إلا أن يتراجع ''منتجو'' الثقافة والمعرفة.
إنها دعوة صادقة لتصحيح المسار وإعادة المنجز الثقافي إلى الطريق السليم والوقوف في وجه مستهلكي الثقافة الذين أخفى وجودهم المثقفون الحقيقيون. ويجب أن نفرق بين حرية إبداء الرأي، التي هي حق للجميع، وإدارة واتخاذ القرار الذي هو حكر على المختصين. إنها معضلة تنموية تحتاج إلى علاج، وممارسة خاطئة تحتاج إلى إيقاف.

ماذا لو؟
ماذا لو أنشئ مجلس أعلى للثقافة والعلوم يتولى دعم إنتاج مبدعينا ويقدم لهم الحوافز المالية والمعنوية التي يستحقونها، ويعمل على تحويل المنتج الثقافي والمعرفي إلى فعل تنموي نراه في مؤسساتنا؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي