حول الترجمة والأخلاق

الترجمة وإشكالياتها هي قدر من يتصل بالفكر والمعرفة، ولا بد أن يردها، إما من خلال قراءة الأعمال المترجمة وإما من خلال ممارسة فعل الترجمة. وتشكل الترجمة إحدى الركائز الأساسية لكل مشرع تنموي وحضاري بما تمثله من حلقة وصل تؤدي إلى التفاعل والتبادل والمشاركة بين الثقافات عبر ما تقدمه من فرصة للتعرف على ما يحمله الآخر ويطرحه من أفكار وقضايا.
وباقتضاب شديد نلاحظ أن الترجمة في العالم العربي مرت بمراحل تاريخية مهمة، الأولى ويمكن تسميتها مرحلة الانطلاقة والازدهار، التي استمرت ما يقارب 400 عام، اتسمت بدقة التنظيم ووضوح الأهداف ونتج عنها الإسهام في إشعاع الثقافة العربية والإسلامية وبناء جسور متينة بين الجماعات والمجتمعات في ذلك الوقت، ويعتبر بيت الحكمة من أبرز النماذج المضيئة لتلك الفترة، واللافت أننا ما زلنا نستحضر هذا البيت الذي يمكن تصنيفه كأشهر بيت في تاريخ العرب، ومع ذلك لم تتم الاستفادة من تجربته وهيكلته وتنظيمه الدقيق الذي جعل منه نموذجا للعمل المؤسسي المكتمل، وذلك بما احتواه من أقسام تشمل الترجمة والتأليف والعناية بالمؤلفين والميزانية والندوات، وهذا ما لا نجده اليوم في كثير من مشاريعنا الحديثة.
المرحلة الثانية، وهي إن جاز التعبير، مرحلة السبات العميق التي تلت سقوط بيت الحكمة والبيوت الأخرى في أرجاء العالم العربي والإسلامي (المغرب، قرطبة واستمرت أكثر من 800 عام).. وإذا تجاوزنا بعض المحاولات الفردية لبعض العلماء والمهتمين في بعض البلدان العربية خلال هذه المرحلة، مع التوقف عند الجهود التي قامت في مصر (مدرسة الألسن) ولبنان في القرن التاسع عشر، نجد أن الترجمة أُهمِلَت وأصبح عدد الكتب المنقولة إلى العربية مثارا للتهكم والسخرية ومضربا للمثل في التقاعس وعدم الوعي.
أما المرحلة الراهنة وهي ما نشهده منذ عقدين من الزمن من حراك ووعي بأهمية الترجمة في التواصل والتفاعل الحضاري المتمثلة في عدد المشاريع المهمة في معظم أقطار العالم العربي من ضمنها المملكة، التي ذهبت إلى تأسيس جائزة رائدة في مجال الترجمة تحمل اسم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وتهدف إلى تقوية التواصل الفكري ودعم الحوار بين الثقافات، الذي يعتبر أحد الاهتمامات والمشاريع الأساسية التي يؤمن بها ويدعو إليها خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز.
الإشكالية تكمن في أنه ومن خلال تجربة ترجمة مجموعة من الكتب من وإلى اللغتين العربية والفرنسية في إطار المشروع الذي تتبناه وزارة التعليم العالي ممثلة في الملحقية الثقافية في باريس بدا أن هناك حاجة ملحة إلى التوقف طويلا عند احترام النص المترجم ومدى اقترابه من النص الأصلي مع الأخذ في الاعتبار أننا يجب أن نتسم بالواقعية وألا نطالب بنصوص متطابقة وأن نقبل كما قَبِل غيرنا بعد الكثير من الدراسات أننا عندما نمارس الترجمة فإننا نتواجد دائما حول المعنى، وقلما توجد ترجمة تنقل المعنى في اللغة الأخرى بكل مكوناته الثقافية والمعرفية.
إن الحراك الذي يعيشه العالم العربي اليوم في مجال الترجمة حراك معتل كونه لم يول الاهتمام الكافي والمطلوب لموضوع تفعيل أخلاقيات مهنة الترجمة، أي تلك القواعد والمبادئ التي يتم الاتفاق عليها والتي ترمي إلى الالتزام بالدقة في عملية النقل واحترام المحتوى. ومن يتاح له الوقوف على ما يحدث في عالم الترجمة في العالم العربي يكتشف أن معظم دور النشر تمارس عملية ''خذوه فانشروه'' دونما أي جهد يرمي إلى إخضاع النص إلى أي عملية تدقيق تتعلق باللغة والمصطلحات وتقارب النصين. إن غياب تفعيل هذه الأخلاقيات أدى إلى ما نلاحظه ونعيشه من واقع مجموعة كبيرة من المترجمين على رأسهم بعض من يطلق عليهم كبار المترجمين الذين سمحوا لأنفسهم بممارسة عمليات (بروكستيه) تشمل التقطيع والحذف والإضافة .. والشواهد كثيرة لعل أشهرها ما تابعناه حديثا من ردة فعل مترجم إحدى الروائيات العالمية الحائزة جائزة نوبل .. فعندما سُئِلَ المترجم عن سبب حذف بعض المقاطع والفقرات.. أجاب بأنها لا تتسق مع الذائقة الثقافية العربية .. ولا يخفى على الجميع أن جواب المترجم المشهور أربكنا جميعا، حيث ذهبنا نتساءل: هل نحن أمام مترجم أم حارس للفضيلة؟
الترجمة الآلية تعتبر نموذجا صارخا أيضا فيما يتعلق بموضوع الترجمة والأخلاق وما يترتب على هذه الممارسة على الرغم مما لها من جوانب إيجابية إلا أنها تشكل بامتياز، خصوصا في المجالات الفكرية، أسوأ عملية تعد وانتهاك في حق المؤلفين والمفكرين الذين أمضوا ما أمضوا في التفكير والبحث والتأمل لطرح أفكارهم ورسائلهم ومن ثم يأتي أحدنا ويوكلها إلى ''جوجل'' ليمسخها ويخرجها من دائرة الفكر والمعنى.
إشكالية الترجمة والأخلاق موجودة في الغرب، لكن الفرق أن هناك متابعة بشكل عام تترقب تطبيق ضوابط أخلاقيات المهنة ومحاسبة الذين يتجاوزن هذه الضوابط.. وعلى سبيل المثال لما يوليه الغرب من أهمية قصوى لهذا الموضوع.. عندما أراد أحد الكتاب الإسبان إحداث صدمة كبرى لدى المترجمين ولفت انتباههم إلى قضية أخلاقيات مهنة الترجمة وأن ما يمارسونه من تجاوزات تشكل أخطاء جسيمة بقوله إنه ''يستغرب لم لا يُزج ببعض المترجمين إلى السجون والمعتقلات كونهم يكذبون.. ويزيفون.. ويتعدون على أفكار وحقوق الآخرين''.
المأمول أن يصاحب حركة الوعي بالترجمة في العالم العربي وعي آخر يشمل تفعيل أخلاقيات هذه المهنة.. وأن تقوم المؤسسات المعنية بدورها بالمحافظة على احترام المؤلفين واللغات المنقول منها وإليها.. وأن يتسم المترجمون بالتواضع أمام المؤلفين الأساسيين وفقا لما عبر عنه في مساء رحلته مع الفكر والترجمة أندريه ميكيل في آخر مداخلة له في منظمة اليونسكو.
لوزارة الثقافة والإعلام دور مركزي في بحث هذه الظاهرة والعمل على تناول الترجمة من جانبها الأخلاقي ووضعها في إطار لغوي وسوسيوثقافي يهتم بهذه المهنة وينميها ويضبط مسارها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي