العقل السياسي العربي والاستقرار في الملكيات

طرحت الاحتجاجات الشعبية العربية أسئلة حول آلية تعامل الإدارة السياسية، بين قمعي وتفضيل سياسة الأرض المحروقة، وبين نظم تمتلك القدرة على إدامة التواصل والتفاعل مع مختلف مكوناتها الاجتماعية والسياسية، فالأنظمة الملكية تعيش حالة من الاستقرار وتملك آليات وقنوات حوار دائمة غير منقطعة وتميل إلى السلام والأمن الاجتماعي السياسي بعيدا عن العنف، ولا تؤمن بالتهميش والتصفيات والإقصاء، وتمتلك القدرة على استماع الرأي والرأي الآخر، لا بل النقد والإصلاح من داخل النظام، ولهذا فهي مختلفة وقابلة للتطوير، وأكثر واقعية في تعاملاتها السياسية وفي علاقاتها الدولية، ولا تبيع منتجات أيديولوجية منتهية الصلاحية، لأنها تؤمن بالمشاركة والتنوع والتعددية، ولهذا فهي من أكثر النظم قدرة على التطوير المدني والرقي المعرفي والتعليم والازدهار التنموي والاستيعاب السياسي، وفيها وضوح للتشريعات واستقرار للقوانين، وفيها السلطات الأمنية والعسكرية أكثر احترافا ومهنية ولا تتدخل في الشأن السياسي.
وعليه، فإن الأنظمة الملكية تتميز بالعراقة وانعدام الدم في قاموس أغلب حكمها، وقابليتها للاعتراف بالآخر المختلف، وقدرتها على إحداث حالة من التوازن بين إدارة الملك وإدارة الدولة، كما عبر عن ذلك عبد الرحمن بن خلدون عندما كان يبحث عن واجب الشرف المنوط بالأمة في زمنه المنكسر.
اليوم تنهض قوى الشارع العربي الذي عاش النكبات ثم النكسات ثم الانهيارات التي جاءت بفعل عصابة العسكر الذين وصلوا إلى السلطة بوعودهم، وكان لبعضهم أن يقيموا عقودا طويلة ولم ير الناس وجوها غيرهم، حتى إن بعضهم كان يرفض تعيين نائب له على غرار التجربة المصرية، وبعضهم كان يريد نائب رئيس كقطعة أثاث جمهوري كالحالة السورية، وآخرين وفق النموذج اليمني لم نر نائب الرئيس إلا عندما غادر الرئيس.
ونتيجة لهذا الانفراد بالسلطة الذي شكل نهجا حاكما للعقل السياسي الجمهوري العربي لعقود طويلة، تعاظمت أصوات الاحتجاج التي نتجت عن التهميش والاحتقار وإفقار الناس، فجاءت ثورة تونس ومصر ثم ليبيا فاليمن وبعدها أحداث سورية، لتغير في استراتيجيات الاحتجاج العربي التقليدية في الدول التي لطالما وعدت بالتحرير والتقدم، واليوم بعد موجة (تونس، مصر، اليمن، وسورية) تتغير مناطق الاحتجاج العربي من فضاءات عامة محددة مثل شارع الحبيب بورقيبة تونس، ثم ميدان التحرير في مصر، وتتحول الجهات والأطراف البعيدة عن العواصم إلى مناطق احتجاج متجددة في الجمهوريات العربية. وعلى النقيض تشهد الملكيات العربية رشدا سياسيا قادرا على الاستماع لمطالب الجمهور وبالذات الشباب العربي الذي وجد في اللحظة المواتية فرصته التاريخية.
ولادة القوة الشبابية في الراهن العربي لمعت مع ''اجتياح غزة'' نهاية 2008 وبداية لعام 2009، وذات الحال حصل بين عامي 2010 و2011 في تونس والقاهرة، لكن الفرق هو الخصم الذي يوجه ضده الشارع العربي اليوم، بين رفض الحرب مع إسرائيل والتنديد بها، ورفض الفساد والتزوير وطلب الحرية والديمقراطية، هنا يبدو أن الحركات الاحتجاجية تأخذ موقعها الفاعل المغير في مصائر شعوب الجمهوريات العربية، وهي دعوة لخلق ثقافة جديدة تحل التنمية والعدالة وتمنح الفرص للناس، وهذا ما نجحت فيه الملكيات العربية التي ألقت ظلال التغيير عليها فأدركت الحاجة إلى التغيير لا على العكس وجدت في مطالب جمهورها فرصة جديدة لتجديد نخبها وإحداث تغيير مباشر وعبر الأطر المؤسسية الحاكمة.
قبل سنوات كان الخصم الذي توجه إليه قوى الشباب الأمركة والعولمة والصهيونية، أما اليوم فالخصم هو الوطني، الذي يواجه الشباب المحلي، الغاضب على ظروفه الاقتصادية والاجتماعية التي حولت الشباب من قوة تواجه الغطرسة الأمريكية والصهيونية إلى قوة رافضة لسياسات النظام الرسمي العربي.
يتوالى نزول الناس إلى الشارع العربي والكل يحمل معنى واحداً وإن تعددت الشعارات التي حملت صيغا عدة، منها ''رحيل النظام'' و''محاربة الفساد'' و''اخرجوا السفراء الصهاينة'' وغيرها من الشعارات السياسية التي خلقت حالة تواصلية سادت بين الجماهير العربية والإسلامية واستثمرت فيها كل وسائل الاتصال، من الاحتجاج المباشر إلى الاعتصام في الخيم إلى استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة وأبرزها رسائل إلكترونية وتطوير للعبة الرسوم الإلكترونية، والساحات الافتراضية عبر ''الفيس بوك''.
الساحات والفضاءات العامة كشفت أن البلدان العربية ذات الصفة الجمهورية عاشت الغربة بين حكامها وشعوبها وآلت إلى راهن مأزوم وحاضر عسر، وهي تواجه اليوم تبدل لعبة الخيار الأمريكي للديمقراطية، فديمقراطية حقبة أوباما، تخلت عن الفوضى الخلاقة إلى إحلال ديمقراطي عبر قوة الشباب والشبكات الاجتماعية، والشباب الذين قال الكثيرون عنهم العولمة أفسدتهم ظهروا بشكل مغاير، والحقيقة أن الشباب الذين تركوا لشأنهم من الجيل الأكبر سنا، لأن ذلك الجيل استهتر بهم واعتبرهم مائعين وحكم على سلوكياتهم بحجة أنها غير تقليدية، لما وجدوا أن العولمة لم تعمل بهم شيئا يحاول الإسلاميون اليوم الصعود على أكتافهم لتجنيدهم سياسيا لمصالحهم الشعبية.
والحركات الاحتجاجية اليوم مختلفة عن سابق عهدها، وهي تتميز بخصائص عدة أهمها اعتماد شبكة الإنترنت بأشكالها كافة، وتصاعد تأثيرها، خاصة عبر صحافة الفيدوتيوب وشبكة الفيس بوك، كما تمتاز بأنها لم تعد حكرا على جماعة واحدة، بل انضم إليها فئات جديدة وعلى رأسها الشباب الذي كان جل الناس يرون أنه غير مبال ولا يولي اهتماما للقضايا العامة، وهناك النساء والمنبوذون والأقليات التي تشعر بأنها اليوم تحررت.
وإلى جانب ذلك تحاط الحركات الاحتجاجية الشبابية بميزة الكسب والتعاطف السريع وبخاصة من منظمات دولية سياسية واقتصادية، شرعية وغير شرعية، ويضاف إلى ذلك انضمام مجموعة كبار السن للشباب ممن ينادون برفع الغبن التاريخي عنهم.
مسار الحركات الاجتماعية اختلف اليوم، والتجارب الاحتجاجية العربية متنوعة فهي ذات بعد سياسي في المغرب، لكنه مستوعب بسبب نضج القوى السياسية وفاعليتها، وأخرى لصيقة بلقمة العيش كما كان الحال مع الموجة الثالثة من الاحتجاجات المصرية، وفي تونس كانت هناك قيمة كبيرة للازدراء والاحتقار كمسبب لتنامي غضب الناس.
وعلى العكس من ذلك أبقت الملكيات العربية على حالة تواصلية بين جماهيرها وملوكها، وكانت هناك مبادرات تنموية واضحة ومحاولة لإخراج الناس من التهميش، ومثل نهج الصفح صفة ملازمة للملكيات العربية المتأثرة بتقاليد حكم راسخة وثابتة، وهذه الملكيات حافظت، رغم قلة موارد بعضها كالأردن، على كرامة الناس، وهي في دولة مثل المملكة حولت قوة الثروة إلى قوة معرفة، وصار المواطن يفاخر بنموذج دولته وتطويرها مفاهيم الرعاية الاجتماعية والحكم الرشيد، ومثل هذه السياسات تعطي الأنظمة الملكية القدرة على مواجهة التحديات، ولعل رسوخ الشرعية السياسية كان سببا مضافا لقدرتها على تشكيل منظومة من السياسات التنموية الجادة تجاه مواطنيها.
أخيرا، إن اللافت في أحداث الربيع العربي، أنها حدثت في الدول العربية الجمهورية التي لطالما كانت متأخرة في مؤشرات مدركات الفساد العالمي التي تصدر عن منظمة الشفافية الدولية، وهي: سورية، اليمن، مصر، العراق، تونس، الصومال، والسودان، في المقابل حققت دول مثل: السعودية، قطر، الكويت، الإمارات، الأردن، عمان، والبحرين مراتب متقدمة في مؤشر مدركات الفساد العالمي لعام 2010، وهذه الدول العربية تقدمت على ماليزيا وجنوب إفريقيا وتركيا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي