صراع أمريكي ـــ روسي على سورية

قاعدة مهمة في السياسة تؤكد أن أي صانع قرار سياسي ناجح، لا بد أن يكون قد قرأ ميكيافيلي، وتعلَّم من كتابه ذائع الصيت "الأمير". وفي هذا المضمار، فإن أهم درس يتعلمه الكبار في مجال العلاقات الدولية، أن الأخلاق وقيم الحرية والديمقراطية مهمة بقدر خدمتها للمصالح الحيوية والمتطلبات الاستراتيجية، وأنه ليست هناك صداقات دائمة. القانون الدولي، ليس وحده الضامن لحسم الخلافات والتنافس بين الدول الكبرى، ولكنه صراع الإرادات. ولا يُستثنى من هذا التوصيف شرق أو غرب.
في الأحداث الدراماتيكية التي عمت عددا من البلدان العربية، حضرت من جديد نصوص ميكيافيلي بقوة. وكان صراع الإرادات قد بدأ بالميل رأسيًا بقوة، منذ سقوط حائط برلين وانتهاء الحرب الباردة لمصلحة الولايات المتحدة وحلفائها. سقط النظام الشيوعي، ومع سقوطه سقطت الإمبراطورية السوفييتية. وبرزت الاتجاهات القومية، وأعلنت جمهوريات السوفييت السابقة استقلالها الواحدة تلو الأخرى. وبالتزامن مع ذلك، تفاعلت أوروبا الشرقية مع الإعصار، فأعلنت "ربيعها"، ملتحقاقها بركب المنتصرين، وانضمامها إلى الوحدة الأوروبية وحلف الناتو.
لقد تم إلحاق تركة الإمبراطورية السوفييتية سريعا بالغرب، وخرجت روسيا الاتحادية خالية الوفاض. ولم يبقَ لديها، على صعيد القوة ما تعتد به، سوى ترسانة نووية كبيرة وأسلحة فتاكة، يحتاج تأمين صيانتها إلى دعم اقتصادي أمريكي وأوروبي مستمر. وحتى في الهند الصينية، سارع التنين الصيني لتحقيق اختراقات واسعة في تلك البلدان، وأحكم قبضته بقوة عليها، مزيحاً عنها حليفه الروسي.
في الوطن العربي، تراجع الجرف الروسي كثيرا، فاليمن الجنوبي توحد مع الشمال. ومع الوحدة اختفى عن الواجهة للأبد الحكام الذين تعلموا مبادئ الثورة في جامعة باتريس لومونبا في موسكو. وخسر الروس القواعد والتسهيلات العسكرية التي تمتعوا بها في أثناء حكم الرفاق. وكانت اليمن برئاسة علي عبد الله صالح قد بدأت مبكرًا في تطبيع علاقتها مع الغرب عموما، وفي الولايات المتحدة بشكل خاص. ومع التطبيع تراجعت العلاقة مع الروس، وتغيرت أنظمة تسليح الجيش اليمني، ولم تعد مقتصرة على السلاح الروسي.
وكانت مصر قد اتجهت باندفاعة قوية إلى الغرب، وتم طرد الخبراء الروس بطريقة مهينة في أثناء التحضير لمعركة العبور عام 1973. ومع توقيع اتفاقية كامب ديفيد في 17 أيلول (سبتمبر) عام 1978 بين مصر والكيان الصهيوني، انتقلت العلاقة بين مصر والولايات المتحدة إلى مستوى استراتيجي، كان من نتائجه حدوث قطيعة اقتصادية شاملة مع الاتحاد السوفييتي السابق، وتغيير في أنظمة التسلح. وكانت الحرب العراقية ـــ الإيرانية فرصة للنظام المصري ليتخلص من ترسانته العسكرية، السوفياتية الصنع، بتقديمها بأغلى الأثمان للعراق، وليتم استبدالها مصريًا بالسلاح الأمريكي والأوروبي. ولم يتبقَ من التحالف الاستراتيجي السابق بين مصر والسوفييت سوى علاقة دبلوماسية باردة، تكتنفها جفوات وأزمات.
ولم يكن وضع روسيا في الجزائر والسودان، وكلاهما حليفان سابقان للاتحاد السوفييتي ولروسيا لاحقاً، بأفضل من أوضاعهما مع اليمن ومصر. فقد سالت مياه كثيرة على تحالفاتهما السابقة، ولم تعودا تقدمان أي تسهيلات عسكرية.
وباحتلال الأمريكيين للعراق عام 2003، خسرت روسيا حليفًا استراتيجيًا آخر، تشعبت علاقاته معها لتشمل جميع المجالات، بما في ذلك الاقتصاد والتجارة والصناعة والتعاون في المجال العلمي والزراعي. وكان العراق، المعروف بضخامة احتياطه من النفط، يعتمد حتى تاريخ احتلاله في تسليحه العسكري واحتياجاته التكنولوجية على روسيا.
وبإعلان الثورة الليبية ضد نظام العقيد القذافي، وتدخل حلف الناتو بقرار من مجلس الأمن الدولي تحت ذريعة حماية المدنيين الليبيين، خسرت روسيا الاتحادية حليفًا رئيسًا آخر من حلفائها. وقد أخذت قيادتها السياسية أخيرًا في التعبير عن ندمها على عدم استخدامها قرار حق النقض في أثناء التصويت في مجلس الأمن على تدخل حلف الناتو جويًا في ليبيا.
الآن يجري صراع شرس في الخفاء بين الروس والأمريكيين، فالإدارة الأمريكية، الحالية كما هي حال سابقاتها، تسعى إلى تجريد روسيا من أي قدرة على الحركة، بعد أن قامت بتطويقها بشكل شبه شامل من جميع الاتجاهات. والروس يدركون أن تحررهم من نتائج الحرب الباردة لن يجعل الأمريكيين يتراجعون عن محاصرتهم. وقد أعلنوا بجلاء أن الدرع الصاروخي، الذي تعمل الإدارة الأمريكية على نصبه في أوروبا الشرقية، هو موجه ضد الصواريخ الروسية وليس لأي هدف آخر. وهم يدركون أيضًا حجم النجاحات التي حققها الأمريكيون وحلفاؤهم الأوروبيون، في حرمان روسيا من منابع وطرق النفط الحيوية في منطقة القوقاز والبحر الأسود.
ويرى الروس أن الحديث عن الحرية والديمقراطية في سورية وإدانة قمع الأمن والجيش للشعب السوري ليس سوى محاولة أخرى في مسلسل التطويق الاستراتيجي العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة ضد روسيا الاتحادية. ولهذا تبدو روسيا مصممة على رفض أي قرار دولي، يجيز للغرب التدخل في الشؤون الداخلية السورية. وإذا ما أصرت الإدارة الأمريكية وحلفاؤها على مناقشة فرض أي عقوبات على النظام السوري في مجلس الأمن الدولي، فإن الأكثر احتمالاً هو استخدام روسيا حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار مقترح بذلك.
فسورية بالنسبة لروسيا هي الحصن الأخير المتبقي في البلدان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط. وهي المكان الوحيد في المنطقة العربية، الذي تقدم فيه تسهيلات للبحرية الروسية في ميناء طرطوس. كما أن سورية هي البلد العربي الوحيد الذي لم تتأثر علاقاتها العسكرية بروسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وظلت حتى هذه اللحظة تعتمد في تسليح جيشها على السلاح الروسي.
إن حيوية العلاقة بين البلدين وأهميتها الاستراتيجية، هي التي دفعت بالروس إلى إعادة النظر في مواقفهم السابقة المترددة في تزويد سورية بالسلاح الدفاعي المتطور. وقد تضمن ذلك منظومة متطورة من الصواريخ البالستية والمضادة للطائرات وغيرهما من أنواع الأسلحة، وكانت هذه الصفقة هي ثمرة هذه المراجعة. لقد أقدمت القيادة الروسية على ذلك غير عابئة بردود الفعل الإسرائيلية والأمريكية الغاضبة.
في سياق آخر، تعزز التعاون العسكري بين البلدين في مجال العسكرية البحرية. وأعلن زيارة قائد الأسطول البحري الحربي السوري، اللواء طالب الباري على رأس وفد عسكري كبير لروسيا ومحادثاته مع القائد العام للأسطول البحري الروسي، الأميرال فلاديمير فيسو تسكي في موسكو لتطوير قدرات البحرية السورية، وميناء طرطوس ليتمكن من تقديم التسهيلات البحرية الضرورية للسفن الروسية وقطعه الحربية البحرية، التي تجوب البحر الأبيض المتوسط بهدف خلق حالة من التوازن مع الأسطول السادس الأمريكي، بعد أن تم تأهيل الميناء لذلك بدعم روسي.
تقودنا هذه القراءة إلى التداعيات والمواقف السياسية تجاه حالة الغليان التي تشهدها المدن والأرياف السورية منذ ثلاثة أشهر. فالواضح أن الروس يعملون بقوة على ضمان استمرار النظام السياسي الذي يقوده الرئيس بشار الأسد؛ لضمان احتفاظهم بالحصن المتبقي لهم قرب مياه البحر الأبيض المتوسط، بينما يعمل الأمريكيون على استثمار حالة الغليان، ليحققوا في آن معًا، جملة من أجنداتهم السياسية في سورية والمنطقة.
الأهداف الأمريكية أكثر اتساعًا من التدخل في الشؤون الداخلية السورية. فبينما ترتكز السياسة الروسية، على التصدي لحالة التطويق التي يفرضها الأمريكيون في حقهم، ومواجهة نزعاتهم التوسعية، تعتمد السياسة الأمريكية على المبادرة وسرعة الحركة. وإسقاط النظام في دمشق يحقق لها جملة من الأهداف. لعل في أعلى قائمة الأهداف القضاء على قوة حزب الله اللبناني، وإبعاد إيران عن البحر الأبيض المتوسط. وكلاهما حليف استراتيجي لدمشق. يضاف إلى ذلك، إضعاف المقاومة العراقية التي يتمركز كثير من مقراتها في دمشق.
يعتمد التحرك الأمريكي الجديد في المنطقة، على استثمار "ربيع الثورات العربية" لتحقيق ما عجز الاحتلال المباشر عن تحقيقه. وللعودة مجددًا لصياغة الخريطة السياسية لعموم البلدان العربية. إن الأسلحة التي توجه من إيران عبر دمشق إلى لبنان لدعم قوة حزب الله، والأسلحة التي تهرب عبر الأراضي السورية للعراق، لمنظمات المقاومة العراقية سيجري تعطيلها من خلال إشغال النظام السوري بمواجهة حالة الغليان التي تمر بها البلاد، تمهيدًا للإطاحة به. وتجري الآن جولة معاكسة من تهريب السلاح، فبدلاً من تهريب السلاح من خلال سورية إلى العراق ولبنان، أصبح السلاح يهرب في الاتجاه الآخر، لدعم المعارضة السورية، عبر الحدود من مختلف الاتجاهات.
ويتوقع الأمريكيون أنه إذا ما تمكنوا من إسقاط النظام السوري، سيضمنون وصول نظام حليف في دمشق، يسهل عملية التوصل إلى اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني. وسينهون وجود حزب الله اللبناني، وفي أسوأ الأحوال، سيجري تحويله من قوة عسكرية إلى حزب سياسي، شأنه في ذلك شأن بقية الأحزاب اللبنانية الأخرى. وبذلك يتمكنون من تطويق إيران.
ستتواصل لعبة القط والفأر بين الروس والأمريكان، ويستمر صراع الإرادات. أما النتائج فهي رهن لمبادرات عملية، وخطوات سريعة تقدم عليها القيادة السورية، باتجاه تحقيق المصالحة مع المعارضة والشعب. وما لم يتحقق ذلك فإن المنطقة برمتها، مقدمة على تحولات أكثر دراماتيكية.. ولن يطول بنا الانتظار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي