العلاقات الإيرانية - التركية وخريطة النفوذ في العالم العربي
تمتاز العلاقات التركية - الإيرانية بأهمية خاصة لدى الدول العربية بسبب أنّ البلدين يشكلان حزاماً لمنطقة الشرق الأوسط، حيث تحتل إيران جغرافيا مساحة شاسعة من الجوار العربي، كما أن لتركيا الواقع الجغرافي نفسه، وأن البلدين يتداخلان بوشائج تاريخية وإثنية ودينية كثيرة مع دول الجوار العربي. وعلى هذا الأساس تتشكل العلاقات الإيرانية - التركية في إطاريها السياسي والاستراتيجي. والعلاقات الإيرانية - التركية شهدت مراحل يمكننا أن نطلق عليها مراحل ''المد والجزر'' منذ ما يقارب 500 عام. فقد بدأ الصراع الحديث بين البلدين على النفوذ في العالم العربي من خلال أيديولوجية محددة يتبعها كل طرف على حدة تحمل معها مشروعان مختلفان هما المشروع الصفوي الإيراني من جهة، والمشروع العثماني التركي من جهة أخرى، وما زال الصراع على النفوذ والتنافس بين المشروعين مستمرا منذ ذلك الوقت إلى هذه اللحظة وإن عبرت عنه المراحل التاريخية المختلفة بصور متباينة. فقد كان النفوذ في المنطقة العربية والمسألة الكردية يمثلان جوهر الصراع أو الاتفاق بين المشروعين على مر العصور.
وإذا ما أردنا تقريب صورة العلاقات التركية - الإيرانية للقارئ العربي، ما علينا إلا أن نسلط الضوء على محاور وأبعاد هذه العلاقات وما يلتف حولها من مزيج من المواقف والأطر الأيديولوجية الدينية مع خليط من الفكر القومي الذي ما زال يرسب في خلايا أفكار قادة البلدين ويعبّر عن نفسه في العديد من المواقف وإن كانت لا شعورية.
في هذا الشأن نقلت صحيفة ''أور آسيا'' الصادرة في العاصمة الأذربيجانية باكو في تقرير مفصل لها حول العلاقات الإيرانية - التركية، تشير فيه إلى أنّ ربيع العلاقات بين البلدين سيتحول وبسرعة إلى خريف أسرع مما يتصوره البعض، وذلك يعود أساساً إلى حدة التنافس بين البلدين غير العربيين على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، وسيصل مستوى التنافس إلى مرحلة الصراع، حسبما تشير الصحيفة في تحليلها، وأنّ الصدام في العلاقات الثنائية عبارة عن ''نار تحت الرماد''، وسيؤصل هذا الأمر، أي حدة التنافس، الفجوة الراهنة بين البلدين. وبشأن أهم مصادر القلق الذي يثار حول مستقبل العلاقات الثنائية بين طهران وأنقرة يمكن الإشارة إليه عبر المحاور والقضايا التالية التي تمثل خلافات جوهرية بينهما:
المحور الأمني والاستراتيجي
تتمسك أنقرة، رغم التباين في مواقفها وسياساتها الدولية والإقليمية مع طهران، باتفاقيتها الأمنية الموقعة مع طهران التي تعتبر أراضي البلدين خالية من وجود معارضين لهما، وفي هذا الإطار يتعاون البلدان في قضايا مثل محاربة الأحزاب الكردية (بيجاك: الجناح الكردي الإيراني المعارض) و(ب ك ك: حزب العمال الكردي التركي المعارض)، كما أن لتركيا دورا أمنيا وسياسيا في الماضي القريب خلال قيامها بدور الوسيط على صعيد الملف النووي الإيراني سعياً إلى حله كيلا تتحول إيران إلى ساحة جديدة من الصراع مثلما شهدته العراق، وذلك خشية على المصالح والأمن القومي التركي.
المحور الاقتصادي
تحتفظ تركيا بعلاقات تجارية ضخمة مع إيران، حيث تشير مراكز اقتصادية مختصة إلى أن تركيا تطمح إلى رفع مستوى تعاونها على الأصعدة التجارية والاقتصادية والصناعية مع جارتها الشرقية ليشمل مجالات النفط والغاز والتجارة كي يرتفع حجم التبادل الاقتصادي بين البلدين من 6.5 مليار دولار إلى 20 مليار دولار خلال الأعوام الخمسة المقبلة. وإذا ما أخذنا في الاعتبار الموقع الجغرافي المتميز لتركيا كونها تقع ممراً لأوروبا ومستهلكاً للطاقة الإيرانية من الغاز والنفط كذلك، هذا ما يزيد أهمية تركيا بالنسبة لإيران.
إن تركيا تعتبر المتنفس المهم لإيران بسبب العقوبات المفروضة عليها، حيث إنّ القرب الجغرافي المباشر بين البلدين سيترتب عليه انخفاض ملحوظ في نفقات النقل والتأمين على حركة السلع والأفراد بينهما، ومنفذا للهروب من الحصار الخانق، كما أن السوق التركية تبحث عن موطئ قدم للمنافسة مع بقية الدول التي تتصارع على هذه السوق التي تشكل أرضية خصبة بسبب عدم مواكبتها المنافسة الدولية وللسوق التركية القدرة التنافسية العالية.
المحور النووي الإيراني
تحاول طهران جاهدة التوصل إلى حيازة التكنولوجيا النووية وتبذل في هذا الإطار مساعي حثيثة كي تتحول إلى قوة نووية في المنطقة، حيث سيضاعف امتلاكها الطاقة النووية من مكانتها الإقليمية ويمنحها مناعة للوقوف في وجه طموحات منافسيها، وتتحول إثر ذلك إلى قوة لا يمكن ردعها، وأيضاً استخدام السلاح النووي كورقة ضغط وتهديد ضد تركيا والدول العربية، ففي حال حدوث أي نزاع يمكن لإيران استخدام هذه الورقة لتعديل كفة الميزان لمصلحتها إثر شعورها بالضعف بسبب المشكلات الداخلية وضعف اقتصادها، وكذلك معاقبة الغرب لها بسبب التخوف من العمل على برنامج ذي طابع تسليحي، وهذا ما يشارك فيه تركيا الغرب والعرب، وتسعى تركيا إلى البحث عن حلول للمشكلة قبل فوات الأوان.
القضية العراقية
يمثل العراق صلب الخلاف الإيراني - التركي من الناحية السياسية العقائدية وكذلك الاستراتيجية، حيث تسعى طهران إلى بسط نفوذها بين الشيعة كي يمسكوا بزمام الأمور، ويسعى هؤلاء بدعم إيران إلى تهميش السنة الذين يبدون ارتياحاً أكثر للدور التركي منه للإيراني، من هذا المنطلق تحاول تركيا إرضاء أكراد العراق باعتبارهم يشكلون درعاً واقية أمام المد الصفوي الإيراني في هذا البلد، وتساند منحهم حكومة محلية يطمحون إليها وبناء تحالف بينهم وبين السنة العرب في غرب العراق وشماله كي يقفوا في وجه ما تعتبره تركيا خطراً طائفياً يدهم حدودها الجنوبية تدعمه طهران وتديره جماعات موالية لها تحمل أجندة الحرس الثورة الإيراني في هذا البلد العربي الذي كان قبل احتلاله 2003 بمنزلة ''بيضة قبان'' وبوابة العرب الشرقية أمام المثلث الإيراني التركي - الإسرائيلي في المنطقة العربية.
إنّ الآفاق المستقبلية للعراق ستتحدد معالمه بصورة أوضح بعد خروج القوات الأجنبية، حيث يمكن لهذا الحدث أن يدخل العلاقات الإيرانية - التركية إلى نفق مظلم بسبب التطلعات التي ترسمها استراتيجية كلا البلدين في بلاد الرافدين، حيث ترغب إيران في دولة شيعية تستمد شرعيتها من الحوزات الدينية في قم والنجف، وتحاول تركيا أن تتولى زمام الأمور في هذا البلد حكومة ائتلافية تضم جميع الأطياف، وهذا ما صدر مرات عدة من قبل المسؤولين الأتراك عند لقائهم العراقيين وزيارتهم هذا البلد. من هنا فإن العراق سيظل جزءا مهما من المعادلة الإقليمية في الشرق الأوسط بالنسبة لإيران وتركيا على حد سواء.
القضية السورية
تحوّلت سورية في ظل أحداث الثورة التي استمرت أكثر من ثلاثة أشهر إلى قضية مفصلية أظهرت حجم التخبط في اتخاذ القرارات بسبب ما تربط الدول المحيطة بسورية من علاقات سابقة مع النظام السوري، كما هو الحال بالنسبة لإيران، التي دعمت بكل ما تملك النظام القمعي في سورية، حاولت حكومة أردوغان استثمار الثورة في سورية لمصلحتها، ما دفع تركيا لاتخاذ قرار يتعارض وتحالفها السابق مع طهران بدعمهما الإصلاحات في سورية، رغم أن هذه الإصلاحات لا تلبي رغبة الشارع السوري الثائر ضد حكومة بشار الأسد.
القضية اللبنانية والفلسطينية
حاولت تركيا العدالة والتنمية في السنوات الماضية تعزيز علاقاتها مع الدول العربية كافة واستخدام القضايا العربية للظهور كلاعب رئيس في هذه القضايا التي تعتبر قضايا العالم الإسلامي الأولى، من هذا المنطلق أوجدت تركيا لها موطئ قدم في هذه البلدان بسبب دورها القيادي ومواقفها الشفافة من القضايا المطروحة، ما جعل هذا البلد في حالة منافسة شديدة مع إيران وحالة إرباك في علاقاته مع إسرائيل بسبب علاقاتها المنفتحة وغير المؤدلجة مع جميع الفصائل والحركات في لبنان وفلسطين، هذا ما رفع دور تركيا إلى مرحلة متقدمة بين الشعوب العربية والإسلامية، ما جعل البعض يتهم أردوغان بأنه يتبنى أيديولوجية تسمى العثمانية الجديدة ''يني أوسمانلي'' لغرض استعادة الهيبة العثمانية وأمجاد الإمبراطورية التركية من جديد.
القضية الليبية
كشفت الثورات العربية الوجه الحقيقي للدول، من هنا يظهر تباين المواقف الإيرانية - التركية حيال ما يجري في المنطقة العربية للعلن والانسيابية في المواقف طبقاً للظروف ومعطيات الأحداث، فقد قامت تركيا بالسماح لقوات الناتو بضرب مواقع القذافي رغم أنها تعتبر الحليف الأكثر علاقة للنظام السابق، لكن طهران ظلت متخبطة في مواقفها تدور في حلقة مفرغة، فمن ناحية تصف معارضي القذافي الذين تدعمهم الحكومات الغربية بالثوار، ومن ناحية تستنكر وتقف في وجه التدخل العسكري في ليبيا وتسميه عدواناً وحماقة كبرى. من هنا ظهرت للعلن وللعرب على وجه التحديد الازدواجية السياسية وعدم وضوح الرؤية عند النظام الإيراني.
التعامل مع دول الخليج العربي
أحد أهم الأسباب التي جعلت طهران تحول أنقرة من صديق حميم إلى خصم منافس تطور العلاقات التركية - العربية بشكل متميز، خاصة دول الخليج العربي، وعلى رأسها المملكة، وهي الدولة الأكثر خصومة لسياسات طهران الإقليمية التوسعية. حيث كانت دول الخليج العربية ولا تزال تنظر إلى سياسات طهران الإقليمية بشك وريبة بسبب النهج الطائفي المتبع من قبل طهران حيال هذه الدول، وهذا في حد ذاته أصبح دافعاً لدول الخليج لأن تحسن علاقاتها الجيدة أصلاً مع تركيا وتفتح باب الاستثمار في وجه هذا البلد الصاعد ''اقتصادياً ''و''سياسياً'' على المستوى الإسلامي والإقليمي والدولي.
وقفت تركيا في مسافة واحدة مع قضايا العرب، وذلك على النقيض من طهران، خاصة فيما يخص ''أزمة'' البحرين الأخيرة، ولم تبدِ معارضتها على دخول قوات خليجية إلى هذا البلد، ما جعل الموقف الإيراني في عزلة بسبب التوجه التركي المساند لموقف الدول العربية في الخليج. إضافة إلى ذلك كانت تركيا قد دعت السعودية للمشاركة في مناورات جوية تحت اسم ''صقر الأناضول''، إلا أن هذه المناورات تعتبر تحدياً واضحاً للموقف الإيراني المعارض بقوة للسماح بصعود الدور العربي الإقليمي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
خلال مقارنة بسيطة سنجد تركيا وبسبب نموذجها الديمقراطي وممارستها الحكم الرشيد محط أنظار الكثير في منطقة الشرق الأوسط والعرب خاصة، حيث هناك في تركيا تعددية حزبية وديمقراطية مشهودة، فهناك من يحمل الفكر الديني، وهو الآن يمسك بزمام المبادرة في البلاد المتمثل في حزب العدالة والتنمية، كما أن هناك أحزابا قومية تدعو لدعم الفكر القومي التركي في الدول التي توجد فيها قومية تركية تتطلع إلى تأسيس دولة لهم مثل أتراك إيران الذين يشكلون أكثرية قومية ملحوظة.
إن نهج تركيا الاعتدالي حيال قضايا سياسية وأيديولوجية في المنطقة ونموذجها الديني الرافض للتطرف، أفقدا طهران مكانتها التي تطمح إليها في المنطقة، لأن إيران تسعى جاهدة إلى تصدير ثورتها الطائفية المتطرفة من أجل الهيمنة على الدول العربية من خلال فرض نموذجها الديكتاتوري المستبد.