الربيع العربي.. حيوية الدولة ضرورة للتعامل مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية
لن تعود الساعة إلى الوراء، وما كان صالحا وممكنا بالأمس لم يعد ممكنا اليوم، فلكل ظرف طقوسه وآلياته السياسية، ولا يمكن محاكمة المتغيرات وفقا لنظرية سياسية تقليدية قديمة أثبتت الأحداث عدم جدواها في التعامل مع المستجدات السياسية، فالمجتمعات والدول الحية تلد أطرها وآليات تواصلها وتفاعلها الجديدة وترفض أن تحكم بنمطية اللاحوار والرتابة المملة والقاتلة للإبداع، وتؤمن بأن الحوار وبقاء قنوات الاتصال الاجتماعي السياسي أسلوب أفضل للحياة والتجدد والحيوية في الدولة والمجتمع، وهو ما يؤكده علماء السياسة بالقول إن النظام الذي لا يقبل بالدورة السياسية النظامية process political، مدخلات ومخرجات وقرارات وتغذية راجعة وتقييم وتقدم للأمام نظام عقيم غير قابل للاستمرار وإن انفجاره الداخلي Internal explosion أمر متوقع، أما النظام التفاعلي Interactive system فإنه يسهم في صناعة بيئة إنسانية متسامحة متفاعلة ودينامية نشطة تملك القدرة على الاستجابة والاستشراف المستقبلي، ولديها أدواتها التي تتحسس بها المتغيرات، وهي نظم غير رتيبة ونمطية، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم قائمة على الثقة بإمكانية العيش المشترك ليس في المأكل والمشرب، إنما تعايش في الأهداف والآمال التي ترغب الجماعة في خلقها وجعلها قيما مشتركة وأداة للتطور والتحديث والطموح لتحقيق الغاية السياسية، فهذه النظم تفوض كثيرا من صلاحياتها لإداراتها السياسية والتنفيذية وتشرك النخبة في صناعة القرار ضمن أشكال عديدة.
وفيما يتعلق بالموضوع السوري نحاول أن نرصد صدمة القرار السياسي التي انعكست سلبا على قدراته في التفاعل مع المعطيات الجديدة الداخلية والخارجية، غير أننا نرى أن أنظمة الربيع العربي جميعها سقطت في امتحان الممارسة المدنية أو العاقلة، أو على الأقل التنبؤ بالأحداث وكيفية إدارتها دون مخاطر، والسبب أولا غياب نقاط الاتصال والحوار والممارسة المدنية كجزء من شخصية الإدارة السياسية، وبهذا لا يمكنها أن تتعلم ممارسة التكنيك السياسي بين ليلة وضحاها، إنما تحتاج إلى فترة من الزمن لتصبح لديها قابلية لاحترام القانون وحدوده الشرعية وجعله نطاقا لأعمالها، وغالبا ما تسقط هذه الدول في الامتحان لسببين مهمين: الأول غياب الثقة بالإصلاحات والتطبيقات من جانب المحتجين، والآخر عدم جديتها الفعلية في التغيير وتلمس جادة الصواب انطلاقا من رؤية تفيد بأن ما يجري أزمة تاريخية في بنية النظام، وأن النظام بات في حاجة ماسة إلى التغيير والتجديد من الداخل قبل أن يأتي من الخارج، وأن تبحث عن حلول حقيقية وليس البحث عن مبررات (مؤامرة خارجية)، إنما البحث عن حلول لأزمة داخلية، بيئة تعيش حالة من التراكمات الممتدة من التحول الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والمعرفي وعلى علاقة بتحولات عالمية مثل ثورة المعلومات والإعلام والاهتمامات الإنسانية العالمية، إضافة إلى ما يترتب من نواتج لهذه السلطة كغياب القانون والمحسوبيات والفساد على اختلاف أشكاله والتقية السياسية (الازدواجية) وجه حقيقي للتعاملات ووجه مزيف لما تطلبه السلطة.
هذه النتيجة تقرأها وتقرها مراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية، بخاصة الدراسات الأنثروبولوجية، وتقرها أنقرة أيضا، التي ترصد الحراك في دائرة القرار الرسمي والشعبي في المنطقة وتقيم على أساسها سلوكها السياسي، ولهذا وجدنا شعبية أردوغان في أوساط الرأي العام العربي تزداد إعجابا واهتماما بالسياسة التركية والنموذج التركي يتمدد فيما يمد الأتراك خطوط اتصالاتهم لنقاط القوة الحيوية في المجمع السياسي (المهملة) من لدن هذه الأنظمة، وبدلا من أن تستوعب الدولة التحولات تلك وتعكسها في مجموعة من التغييرات البنيوية في نظامها السياسي، فإنها تزداد حضورا أمنيا وحساسية من كل موضوعات الحرية والحوار والاتصال والتمثيل السياسي، وتلجأ إلى الاعتقال وتكميم الأفواه وتتضاعف معالم سلطة الفساد ليصبح في حالة تزاوج مع السلطة السياسية، غير أن النظم السياسية الفاقدة الحيوية تجهل في أحايين كثيرة مصالحها هي، فلو لديها محركات قياس لأمكنها تلافي هذه المعطيات بالاستجابة لها وفقا لخياراتها بدلا من أن تصبح مجبرة عليها، وهناك فروقات كبيرة بين السياسات الجبرية والاختيارية.
وقوانين الأزمات تفيد بأنها كما العوامل الانشطارية كلما تضاعفت زادت حرارتها وصعبت السيطرة عليها، فهي عندما تأتي لا تستشير أحدا ولا تمنح صانع القرار السياسي الفرصة لالتقاط الأنفاس والتفكير بموضوعية، وتطورها أيضا قد يفوق قدرته على التعامل معها دون مزيد من الأخطاء القاتلة، ولهذا نستغرب قيام مختلف أنظمة الربيع العربي تقديمها تنازلات في الوقت الضائع تكون فيه صورتها قد اهتزت وتجاوز الشارع خطابها، وحصد كثيرا من الشرعية مقابل تآكل شرعية السلطات، فكان التنازل أو الهرب حلا، أو اللجوء إلى العنف والدماء خيارا مميتا، بينما الخيارات المدنية أصبحت غير ممكنة لأنها لم تأت في توقيتها المناسب
ودمشق تحاول أن تتعامل بمختلف الأوراق لإدارة محتويات الأزمة الداخلية والخارجية وعلى صعد مختلفة أمنية وسياسية ودبلوماسية وعسكرية وحوارات ومعارضة ورأي عام محلي وعالمي، وربما هناك رغبة إقليمية ودولية في التغيير في سورية تشكل عاملا مؤثرا في الحراك السوري الذي يستند إلى رصيد تاريخي من العنف الأمني، ومن غياب الحريات ومن سلطة الطبقة واستئثارها بالمصالح وسيادة الفساد على أنواع مختلفة، لدرجة أن بعض المحللين يرون أن الأنظمة الفاسدة يصعب إصلاحها ولو منحتها ألف عام للقيام بالإصلاح، لأن الهيكل العام شكله الفساد والمصالح وتزاوج مع السلطة والأمن.
هل يعني ذلك أن سورية متجهة فعلا نحو التغيير؟ وأي تغيير تتجه إليه فعلا؟ ومن باب تحليلي نرى أن العامل الداخلي حاسم في التغيير باتجاهين: الأول كيف تتعامل الحكومة مع الأزمة وكيف تديرها وكيف تقرأ حركة المتغيرات والمؤثرات ومصادر التهديد المختلفة؟ كيف تقدم تنازلات رئيسة تؤدي فعلا إلى تغيير رئيس في بنية النظام السياسي، ومدى تقييمها الحقيقي لعوامل الاستجابة أو التحدي، أو تترك هذا الجانب وتلجأ إلى إدارة الأزمة داخليا وخارجيا مرة بالقوة ومرة باللين والصدمات، وهذا النوع من الإدارة يعمل بنظام شراء الوقت لا حل حقيقيا لها، كما أن تراكم الصدمات مكلف ومؤثر ويفقد الحكومة السورية المصداقية في الحوار، ويجعل قواعد اللعبة غير متوازنة وليست في مصلحتها، فالمطالبون بالتغيير يحتكون بالحكومة وأدواتها يوميا، وشدة الاحتكاك تزيدهم قوة وحضورا، واحتكاك السلطة بالمحتجين في أحايين كثيرة يكون احتكاكا بلا رؤية سوى قمع المحتجين، غير أن اللجوء إلى منهج القوة في فرض السيطرة دفع إلى تعدد أنواع الاحتجاج وانتشارها وإحراج السلطة السياسية ودفعها قسرا للاستجابة الإعلامية، وعندما تستجيب من وجهة نظرها ترتفع سقف المطالب الشعبية لدرجة تعتقد الحكومة أنها وصلت إلى مرحلة الخط الأحمر بالنسبة لها لأنها سلطة لم تمارس الحرية ولا تعرف لها سقوفا، وبالتالي فإنها ترى أن هذا هو السقف الممكن تقديمه من تنازلات، غير أن القوى المحركة والمحرشة تدرك تماما أن أي تنازلات عرضية ستبقى شكلية وسرعان ما تستعيد الحكومة سلطتها وقوتها ومن ثم تفرغ العملية السياسية من محتواها وتعود حليمة إلى عادتها القديمة، ولهذا فهي غير متشجعة على الحوار بقدر رغبتها في تغيير يشمل بنية وهيكلية النظام السياسي برمته ويكون هذا تحت رعاية أو رقابة دولية.
والمعارضة وهي تطرح هذا المنطق تمتلك قوة دفع داخلية متمثلة أولا في حالة الصدمة الشديدة التي تعيشها الحكومة ومخاوفها من ضخامة وجسامة التعامل الأمني، وقوة حركة الاحتجاج وتطورها وتبلورها إلى معارضة هادفة ومنظمة، وأيضا تطور العامل الخارجي على مستوى الدول أو المعارضة الخارجية، في ظل ظواهر سياسية يستدعى التفكير بها، خاصة تلك الشرعيات الخارجية التي أخذت مكانة الدولة وتم الاعتراف بها على حساب الحكومة الأصلية، وهذا يطيل شرعية الحكومة ويعزز عوامل الانقسام الداخلي ويزيد الحكومة قلقا وارتباكا، هذا عدا عن احتمالية قيام منطقة عازلة لغايات إنسانية قد تكون موطئ قدم للمعارضة ونقطة ضغط مركزية على عصب الحكومة السورية، وهناك مؤشرات تفيد بأن سلسلة الضغوط السياسية الدولية وضغوط الرأي العام تفيد بوجود قرار دولي ناحية التدخل لحين تكامل عناصر الاحتجاج والمعارضة ولحين تهيئة البيئة والمسرح الدولي لقبول التدخل العسكري، ونلاحظ ذلك تحديدا في الموقفين التركي، الذي بدأ رئيسا في الأزمة السورية وعلى تماس رئيس بالقرار السياسي السوري، والموقف الروسي وتحولاته، خاصة بعد زيارة وفد المعارضة السورية إلى موسكو وتصريحات ميخائيل مارجيلوف المبعوث الروسي لإفريقيا، الذي قال علنا: تربطنا علاقات مع الشعب السوري، أما القادة السياسيون فهم يتغيرون، غير أن اللافت للانتباه أن دمشق ما زالت تتعامل مع الموضوع عن طريق الدعاية السياسية والتشهير بمارجيلوف واتهامه بأنه على علاقة بإسرائيل ووزير الخارجية أفيغادور ليبرمان وأن دوره في السودان وليبيا كان واضحا غير أن الأكثر وضوحا هو قوة مارجيلوف في السياسة الروسية ودوره أيضا في الملف السوري، وهي حالة تعبر عن تطور في المنهج السياسي الروسي.
وشكلت عمليات القتل والاعتقال والتعتيم الإعلامي عوامل مهمة في تشويه صورة الحكومة السورية، وظهرت معالم ازدواجية السلطة، سلطة مدنية لديها رغبة في انتقال سورية للديمقراطية والتعددية، وسلطة تتعامل مع المتغيرات جميعها وفقا لمنظور أمني بحت، والأكثر من ذلك فهي لا تستجيب لما تعبر عنه السلطة الأولى ورغبتها في إدارة الأزمة بالحوار ما يظهر وجود خلاف حول طبيعة التغييرات الممكنة والحدود المسموح بها، فالأولى تستجيب للعوامل الدبلوماسية والثانية قطعت صلتها بعالم الدبلوماسية وتعمل على تعقيدات الموقف الداخلي لجعل منتجات الاحتجاج طفيفة وشكلية حتى إن دفعت سورية لأجل تحقيق الاستقرار المنشود وفقا لرؤيتها تكلفة بشرية واعتبارية عالية، التي ستنعكس سلبا على قوة النظام السياسي برمته.
كل المؤشرات تفيد بأن الحكومة السورية فوجئت بالأحداث، وكانت المفاجأة الكبيرة ضعف القدرة على ضبط تفاعلاتها، وكانت المفاجأة الكبرى أن دولا كبرى دخلت على خط الأزمة السورية وباتت المعارضة السورية والرأي العام ورقة رابحة ومهمة في معادلة الاستقرار السياسي وعدمه ولا يمكن تحقيق ذلك دون تكلفة، وهذه المفاجآت جعلت الحكومة السورية تستعير الأسلوب نفسه في إدارة الأزمات في دول الربيع العربي بلطجية وحبوب هلوسة وشبيحة وجرذان وجراثيم وخونة وعملاء للخارج وسلفية وقاعدة وكلها تهم ذات أهداف خارجية، فجميع الدول (مصر، تونس، واليمن) حاولت إثارة مخاوف الغرب والمنطقة من وجود تطرف ديني، وأن هذا التطرف إقصائي وطائفي، لكنها في غمرة الدعاية السياسية تلك لم تلجأ إلى معاينة ومعالجة حقيقية للأزمة، ولم تمتلك القدرة على إطفاء الاحتجاجات والعمل على تبريدها وتهدئتها وإبعادها قدر الإمكان من أن تكون أزمة لها علاقة بالإقليم، فدفعت الحكومة السورية بعض اللاجئين الفلسطينيين لاختراق الحاجز الأمني في الجولان بغية إيصال رسالة إلى إسرائيل تفيد بأن الأمن والاستقرار الإسرائيلي مرتبط بالأمن والاستقرار في سورية الأسد، وهذا ما عبر عنه صراحة رامي مخلوف لـ ''نيويورك تايمز'' في الوقت الذي كان من الطبيعي أن يكون الاحتكاك عبر حزب الله بدلا من أن تنعكس الدعاية سلبا على الحكومة السورية لتظهر الانتقادات في الشارع السوري بعد 40 عاما من الصمت والسكون الأسد يتذكر الجولان ويفتح الحدود، وهذا يؤكد وجود معالجة مرتبكة طالما أن النتيجة التي ستصل إليها الاحتجاجات واضحة المعالم وكان من الممكن لو تعاملت الحكومة باستعجال على ناحيتين: الخيار الأول اتخاذ إجراء مدني غير أمني مع أحداث درعا والاستجابة لدعوة نائب الرئيس السوري فاروق الشرع بمحاكمة رجال الأمن وقيام الرئيس بزيارة أهالي درعا والإعلان عن الإصلاحات من هناك تؤدي إلى تغيير في بنية النظام السياسي لصالح الحرية والتعددية والانتخابات البرلمانية وتعديل الدستور وإنهاء احتكار البعث ومحاربة قوى الفساد، وهذا كان مكمن الصعوبة بالنسبة للحكومة، والخيار الآخر أن انعدام الثقة وانعدام الخيار الجيد والوطني لحل الأزمة دفع المحتجين إلى رفع سقف مطالبهم وتوحدها في إطار وطني عام وتوزيع نطاق المشكلة، بحيث طالب المحتجون بتغيير نظام الحكم كاملا، وبات الحديث الدولي عن فقدان الشرعية متاحا، وعمد المحتجون إلى جر الحكومة إلى المواجهة المسلحة والمكلفة كخيار أمني، لأنه خيار ينفي إمكانية اللجوء إلى الخيارات الدبلوماسية ويعزز من هوامش انعدام الثقة، حتى لو دعت الحكومة أقطاب الطريق الثالث في المعارضة السورية الداخلية للحوار غير أن ترجمة المطالب والوعود هو المشكلة كما عبرت عنه أنقرة، وكما قلنا إن المشكلة أصبحت في القرار السياسي وتقييمه حركة المتغيرات الداخلية والخارجية وقوتها، وأيضا أصبحت الحكومة متورطة في تبني سياسات محددة لا يمكن التراجع عنها بسهولة وتأخرها في الاستجابة لمطالب المحتجين ضاعف من الضغوط المختلفة وبلور موقفا دوليا ضد سورية.
اللافت للانتباه أن السياسة السورية تتسم بالعمومية وعدم الوضوح في معالجة الأزمة الداخلية، مع بقاء الخيار الأمني وأن الخطاب السوري تقييمه للمتغيرات أقل من المتوقع، وهذا يستدعي آلية التعامل الدولي مع صدام حسين فقد استنزفت المفاوضات قوة السلطة ومعالم تأثيرها لصالح سلطة وحضور المعارضة، فالأزمات تحتاج إلى تحديد الأسئلة والإجابة عنها بصدقية، وتحتاج إلى الاستجابة العاجلة للمطالب الشعبية مع الإحساس والإدراك العام بأن نظام الحزب الواحد انتهى، وأن النظم الجمهورية ممنوع فيها التوريث، فالاستجابة تقلص حجم الاحتكاكات وتضاعف مصادر قوة النظام، لكن هل قررت الحكومة السورية قولا وفعلا الاستجابة للمطالب أو حل الأزمة دون استفحالها وتداخلها؟ وهل امتلكت فعلا رؤية وتقييما لما يجري؟ نعتقد أنها لم تعدم الوسيلة لتقييم المشهدين الداخلي والخارجي، لكن هناك خصيصة تشابهت في أنظمة الربيع العربي وهي غياب قنوات الاتصال الحقيقية، جعلت المعارضة ترفع شعارا مهما لا حوار في ظل العمليات العسكرية والأمنية، فهذه النظم لا يجرؤ فيها أحد على قول الحقيقة ووصف ما يجري بدقة ووضع الحلول الحقيقية للمشكلة قبل استفحالها، فهي بذلك تلجأ إلى الأسلوب ذاته في المعالجة، الذي يتسم دائما بالاعتداد بالنفس والعلوية والفوقية وتوصيف ما يجري بأنه مجرد ألعاب نارية وإثارة لمجموعات من الشباب الذين تلقوا تمويلا من الخارج، أو شباب الفيسبوك، وكأن هذه المعطيات ليست جزءا من عالم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل الدولة وليست جزءا من حركة التحولات في السلوك السياسي العالمي، ومشكلة الحكومات أنها لا تقرأ حركة المتغيرات ولا تشتق وسائل جديدة للتعامل مع المعطيات الجديدة، فهي لا تؤمن بالحوار أصلا وليس جزءا من أركان عملها، لهذا فهي لا تجيده ولا تعتمده أسلوبا لها، وعليه فإن من اعتاد التعسف وفرض الرأي لا يمكنه أن يصبح ديمقراطيا ومؤمنا بالتعددية وبالحوار واحترام الرأي والرأي الآخر بين ليلة وضحاها، وهو ما دعا الرئيس الأسد للقول: لا نستطيع الاستجابة للمطالب خلال أسبوعين.
هذه الحالة تقودني إلى حالة أخرى في تاريخ الدكتاتوريات العربية، ففي أحد السجون في شمال العراق نهاية الثمانينيات وجد عدد من قيادات المعارضة العراقية من الأحزاب اليسارية مسجونين لمدة تزيد على 35 عاما، وعندما أفرج عنهم لم يستطع السجناء العيش في الحرية وفي الهواء الطلق وبعضهم كان يعتقد أثناء خروجهم أن الزعيم عبد الكريم قاسم قد هزم فهم لا يعلمون أي تفاصيل عن العالم الخارجي منذ سجنهم، ولهذا فضلوا مجتمع العبودية والسجون على مجتمع الحرية الذي كانوا ينشدونه وعادوا إلى السجن طوعا، ولهذا عندما تصغي إلى تجربة بعض السجناء العرب في السجون السورية، فأحدهم يروي أنه طوال 24 عاما من السجن لم يتقدم إليه أحد بالسؤال أو التحقيق ولولا مكرمات الملك فهد ودهاء الأسد الأب لظل قابعا في السجن حتى اليوم، بينما على الجانب الآخر تشهد الملكيات حالات من العفو العام وحالات تبييض للسجون، وتقبل الملكيات طلب الرحمة والمرحمة وتدخل أهل الخير وتعير اهتماما لذوي السجناء وتتسامح معهم، وبعضهم يصبح مسؤولا كبيرا في الدولة، وتفتح نوافذ بيوت حكمها للسؤال والنقد، ولهذا فإن الاختلاف في حيوية الدولة والمجتمع والحفاظ على قنوات الاتصال والحوار سالكة وحية ضروري لأي نظام سياسي وضروري حتى في الأسرة والشركة، وهنا تبرز إلى الوجود تقييمات مهمة للأنظمة الملكية في عالمنا العربي، فأغلبية هذه الأنظمة تمتلك سمات واضحة ومحددة، ولعل من أبرزها قدرتها على استيعاب المستجدات الاجتماعية والثقافية وقدرتها على التوظيف وقدرتها على الاتصال والتواصل وقدرتها على الاستجابة والتنازل وقدرتها على التسامح، ولهذا فهي نظم تعيش التطور والتغيير من داخلها وتشعر الجميع بأنها لهم ولخدمتهم.