صندوق النقد الدولي يحدد نهاية عصر الولايات المتحدة
> جاء في كتاب "سقوط الإمبراطورية الأمريكية" ليوهان جالتونج: أن الامبراطوريات لها أشكال مختلفة. والإمبراطورية الأمريكية لها هيكل يشرحه أحد مخططي البنتاجون: "إن دور القوات المسلحة للولايات المتحدة هو المحافظة على استقرار العالم من أجل اقتصادنا والانفتاح على غزونا الثقافي. ومن أجل هذين الهدفين سنقوم بمقدار لا بأس به من القتل". بكلمات أخرى، عنف مباشر من أجل حماية العنف الهيكلي المتأصل في ثقافة عنف. إن المركز هو الولايات المتحدة والأطراف هي أجزاء كبيرة من العالم.
إن الانحدار والسقوط شيئان متوقعان كما يحدث لكل شيء بشري. من الواضح أن الإمبراطورية الأمريكية حقيقة حيوية فاعلة وليست بناء جامدا ميتا، وهي نظام معقد جدا بهذه المتناقضات الكامنة فيها. في مثل هذا النظام لا تجد خطوطا مستقيمة، والسلاسل السببية تنقطع وتتحد، أما المنحنيات فموجودة طوال الوقت. وستكرر القفزات الكمية عندما يجتمع عنصران أحدهما يتغير والآخر يبقى ثابتا. لكن يظل الانهيار متوقعا خلال 20 عاما للأنواع الأربعة من التبادل غير المتكافئ.
لا تريد الإمبراطورية الأمريكية أن تبدو كإمبراطورية إنما تريد أن ينظر إليها بأنها شيء مدعوم من قبل المجتمعات المتقدمة والمتمدنة ضد المجتمعات الشريرة والفوضوية والإرهابية.
إذ يحاول حكام البيت الأبيض تغيير مسار التطور التاريخي ويرفضون القبول بنهاية عصر الإمبراطورية. ففي يوم 25 نيسان (أبريل) 2011 فجر صندوق النقد الدولي مفاجأة كبرى للمرة الأولى في أحدث تقاريره، حيث قام بتحديد نهاية "عصر الولايات المتحدة" في عام 2016، حيث قدر أن اقتصاد الصين سيتجاوز الاقتصاد الأمريكي من حيث القيمة الحقيقية. وطبقا لتوقعات صندوق النقد فأياً كان من سيفوز في الانتخابات الأمريكية عام 2012، فإنها ستكون الفترة الرئاسية الأخيرة التي تتربع فيها الولايات المتحدة على قائمة أكبر الاقتصادات العالمية. واستخدام محللو الصندوق مصطلح "تعادل القيمة الشرائية" في حساباتهم، التي تقارن ما يقوم الناس بكسبه وإنفاقه بالقيمة الحقيقية في اقتصاداتهم المحلية.
وطبقا لهذا المصطلح فإن الاقتصاد الصيني سيتوسع من 11.2 تريليون دولار عام 2011 إلى 19 تريليون دولار عام 2016، في الوقت الذي سيرتفع فيه الاقتصاد الأمريكي من 15.2 تريليون دولار إلى 18.8 تريليون دولار في ذلك العام.
وهذا يعني أن حصة الاقتصاد الأمريكي ستتراجع عالميا إلى 17.7 في المائة بينما سترتفع حصة نظيره الصيني إلى 18 في المائة. في ساحة الصراع على النفوذ هناك ترابط وثيق بين القدرات السياسية والعسكرية والاقتصادية للقوى المتنافسة. بينما تعاند واشنطن المسار الذي سبقته إليه الإمبراطورية البريطانية حيث كانت تميز بأن الشمس لا تغرب عنها، نجد بعض حلفائها يقرون عمليا أن عهدا جديدا قد حل.
ففي 9 حزيران (يونيو) 2011 جاء في تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" أن الشركات الأمريكية تلجأ إلى أسواق المال الخارجية مع "جفاف منابعها" داخل الولايات المتحدة. واتبعت شركة واحدة تقريبا من بين كل عشر شركات أمريكية طرحت أسهمها للاكتتاب عام 2010 الإجراء نفسه خارج الولايات المتحدة. فإلى جانب أستراليا، تحولت تلك الشركات إلى أسواق الأوراق المالية في بريطانيا وتايوان وكوريا الجنوبية وكندا، وفقا لبيانات من شركتي الاستشارات المالية "جرانت ثورنتون" و"ديلوجيك".
يرى عدد من الاقتصاديين أن حصد مكاسب على حساب أزمات الآخرين، هو الإفراز الطبيعي لتمكن كيان اقتصادي سياسي عسكري من التحكم في النظام المالي الدولي والازدهار على أسس قائمة على الاستدانة من السوق الدولية، والاستغلال غير المتوازن لثروات المواد الأولية، خاصة تلك التي تأتي من الدول الموصوفة بالنامية.
بعد اتفاقيات بريتون وود سنة 1944 عوض الدولار الأمريكي الجنيه البريطاني في هيمنته على النظام النقدي والمالي العالمي باعتباره عملة تداول عالمية، ووسيلة دولية لقياس القيمة إلى جانب كونه العملة الأساسية في الاحتياطات النقدية في العالم. ومنذ ذلك الحين ترسخت سلطة الدولار في النظام النقدي والمالي العالم. وقد أصبحت الاحتياطات النقدية العالمية في أغلبها في شكل دولار الذي صار يمثل 77 في المائة من تلك الاحتياطات. وهذا يعني أن الأغلبية العظمى من المعاملات المالية والمبادلات التجارية تتم بواسطة الدولار ويقع ضبط أسعار المواد الأولية، خاصة النفط بواسطة الدولار كمعيار. لذلك فإن كل دولة أو شركة ترغب في شراء بضاعة ما من السوق الدولية تتجه غالبا إلى الدولار لتقدمه مقابلا. وهكذا فإن الحاجة إلى الشراء من السوق الدولية تخلق الحاجة إلى الدولار.
وتوفر البنوك الأمريكية تمويل الاستيراد والتصدير في شكل دولارات لنسبة كبيرة جدا من المعاملات والمبادلات الخارجية. هذا الدور الذي يقوم به النظام النقدي البنكي الأمريكي يمكنه من الحصول على "ما بين 5 و10 في المائة من قيمة التجارة في العالم. وذلك بأن يوفر تمويل الاستيراد والتصدير، وهذا ما كان يعرف بالأرباح غير المرئية".
ولأن الولايات المتحدة هي التي تتحكم في الدولار فهي بالتالي تتحكم في التجارة التي تتم بواسطته، خاصة تجارة النفط، وهذا ما جعل الدولار"عَصَب وقبضة هيمنة الولايات المتحدة على العالم". الولايات المتحدة غدت منذ عقود تستورد من السلع من الخارج أكثر مما تصدر، وهكذا تضخمت ديونها تجاه بقية دول العالم، زيادة على ذلك وعن طريق الدولار وسندات الخزانة أصبحت واشنطن مديونة للعالم بآلاف مليارات الدولارات. وهذه المديونية تضخمت خاصة بسبب آلاف مليارات الدولارات التي أنفقتها واشنطن على حروبها في العراق وأفغانستان.
هذه الوضعية الشاذة فرضت معادلة تفيد أنه إذا واجه الاقتصاد الأمريكي أزمة فإنها تنتشر عالميا وتكون آثارها السلبية متدرجة في حدتها مع درجة الترابط مع الاقتصاد الأمريكي.
والواقع أنه من أجل تصحيح هذا الاختلال على سكان الولايات المتحدة، وهم أكثر من 300 مليون نسمة، أن يعملوا وينتجوا ويصدروا من دون أن يستهلكوا لمدة تصل إلى عشر سنوات ليسددوا ديونهم لبقية دول العالم.
الأزمة بدلت من شكلها فقط رغم كل اللغط الذي أثير منذ سنة 2010 عن نهاية الأزمة الاقتصادية العالمية، تظهر التطورات أن الأمر ليس صحيحا.
فقد جاء في تقرير لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية صدر في حزيران (يونيو) 2011 "إن تراكم المخاطر والمشكلات المالية المستمرة في أمريكا واليابان وأوروبا قد يوقف النهوض الاقتصادي العالمي". وقالت المنظمة في تقريرها حول "إن النهوض العالمي بدأ فعلا، لكنه يبقى محاطا بمخاوف "والأزمة" لم تبلغ ربما نهايتها بعد". وأضاف الأمين العام للمنظمة أنخيل جوريا لدى عرض هذا التقرير "إن الأزمة لم تنته، لقد بدلت من شكلها فقط".
بينما تتفاعل وتتقاطع في واشنطن متطلبات الهيمنة مع المشكلات الاقتصادية برزت إمكانية التخلف عن سداد الديون. يوم 8 حزيران (يونيو) 2011 قال مستشار للبنك المركزي الصيني إن نوابا جمهوريين في الكونجرس الأمريكي "يلعبون بالنار" عندما يبحثون التخلف عن سداد ديون ولو لفترة وجيزة.
وكانت وكالة "رويترز" قد أوردت أخيرا تشير إلى أن فكرة تأخير سداد مدفوعات الفائدة تكتسب تأييد عدد متنام من الجمهوريين. لكن مسؤولين حكوميين ومستثمرين حذروا من أن أي تخلف عن السداد قد يزعزع استقرار الاقتصاد العالمي ويكدر العلاقات المتوترة بالفعل مع دائنين كبار للولايات المتحدة مثل الصين. وقال لي داوكوي، وهو مستشار لبنك الشعب الصيني "البنك المركزي"، إن التخلف عن السداد قد يقوض الدولار الأمريكي وإن على بكين أن تثني واشنطن عن مثل هذا المسار.
وأبلغ لي الصحافيون على هامش منتدى في بكين "أخشى أنه قد يحدث تخلف أمريكي عن السداد.. النتيجة ستكون خطيرة جدا، وآمل حقا أن يكفوا عن اللعب بالنار". والصين هي أكبر دائن أجنبي للولايات المتحدة، إذ تظهر بيانات أمريكية أن قيمة سندات الخزانة التي في حوزتها تجاوزت التريليون دولار في آذار (مارس) 2011.
ويحجم الكونجرس الأمريكي عن زيادة سقف قانوني للإنفاق الحكومي بينما يتجادل المشرعون بشأن سبل كبح عجز من المتوقع أن يصل إلى 1400 مليار دولار في السنة المالية الحالية. وقال بن وستمور محلل اقتصادات السلع الأولية لدى ناشونال أستراليا: "ستكون له تداعيات وخيمة على الاقتصاد في وقت تظهر فيه بيانات الاقتصاد الكلي ضعفا"، "إنها فكرة مروعة". وذكر مسؤول كبير في البنك المركزي العماني يوم الأربعاء أن أي تخلف أمريكي عن سداد ديون قد يتسبب في زعزعة لاحتياطيات دول الخليج العربية من الأصول الأجنبية. وأبلغ المسؤول وكالة "رويترز" مشترطا عدم كشف هويته "نناقش الأمر داخل البنك المركزي". وأضاف "قلقون بشأن احتمال عجز الولايات المتحدة عن السداد وربما يؤدي ذلك إلى هزة في الاحتياطيات في منطقة الخليج وليس في عمان فقط لأن اقتصاداتنا ترتبط بدرجة كبيرة بالتطورات المالية الأمريكية". وتربط معظم دول الخليج العربية عملاتها بالدولار الأمريكي وهي من كبار حائزي السندات وسائر الأصول الأمريكية، كما أن النفط الذي يسعر بالدولار مصدر دخلها الرئيسي.
ويحذر محللون من أن تنفيذ التهديد الأمريكي ولو لفترة وجيزة سيكبد خاصة الصين ودول الشرق الأوسط خسائر فادحة. وإذا كانت بكين تملك وسائل مساومة مهمة مع واشنطن لتقليص خسائرها فإن الآخرين ليس لديهم القدرات نفسها. بعد ساعات من تحذيرات المسؤول الصيني تراجع الدولار لأدنى مستوى في شهر أمام سلة من العملات.
وحذرت مؤسسة التصنيف الائتماني "فيتش" الولايات المتحدة من فقدان تصنيفها الائتماني الممتاز إذا لم تتمكن من سداد التزاماتها المالية ومواجهة "الإفلاس المالي الفني". وجاء تحذير المؤسسة الدولية بعد نحو شهر من تحذير مماثل أطلقته مؤسسة التصنيف الأخرى ستاندرد آند بورز عندما قالت أيار (مايو) 2011 إنها قد تخفض تصنيفها الائتماني للدين الحكومي الأمريكي البالغ 14.3 تريليون دولار. وتحتاج الولايات المتحدة إلى زيادة سقف الدين العام حتى تتمكن من اقتراض المزيد من الأموال لسداد الأقساط المستحقة على سندات الخزانة الأمريكية.
تعويض الخسائر والديون الأمريكية على حساب الآخرين لا يقتصر على دول الشرق الأوسط وأطراف غيرها تملك سندات الخزانة أو أرصدة ورقية بالعملة الأمريكية، بل يتسع ليشمل البنوك. لم تلتئم بعد جراح بنوك الاستثمار العاملة في الشرق الأوسط من الأزمة المالية العالمية بل هي في الواقع تزداد سوءا.