الموقف كان واحدا
من قال إن هناك شيئا واقعيا وآخر غير واقعي؟ أنا لا أعتقد ذلك، بل أؤمن بأننا نحن من نشكل حقيقتنا الخاصة، وأن واقعنا هو ما تصنعه استجاباتنا لمواقف حياتنا.
أذكرهما جيدا '' ليلى وفريدة '' فهما صديقتان لأمي ، شاءت الأقدار أن يتشاركا ظرفا واحدا وهو موت زوج كل منهما وهما في منتصف الخمسينيات من العمر في فترات متقاربة ، الموقف كان واحدا لكن بونا شاسعا فصل بين استجابتهما له، حيث ارتدت فريدة حينها ثوب حداد أسود كست به عقلها ومشاعرها ونسيت أن تخلعه، فاستمرت لأعوام عديدة في عزف المعزوفة نفسها من التشكي والندب لحظها وظروفها وغدر الزمان ، وربما كانت تستجدي بذلك النكد شيئا من العطف ممن حولها لكنها أحدثت بتفكيرها ذلك وضعا مأساويا لازم حياتها ، فمن الطبيعي ألا ينجذب الناس لصحبة شخص ساخط ومتشائم طوال الوقت، مما أدى لخسارتها للكثير من علاقاتها، حتى أن أبناءها كانوا يقدمون على زيارتها من باب الواجب الإنساني فقط ومجاهدة النفس ، فأثبتت لنفسها بسوء اختياراتها أن الدنيا ظالمة وأن حظها بائس وأنها لن تجد شخصا يحبها ويدعمها ، كما عززت بداخلها قناعات أخرى حول ضآلة فرص العمل بالنسبة لعمرها، وبالتالي محدودية الدخل، مما جعلها تجتاز بعض مقابلات العمل بحماس فاتر وشكوك داخلية أعاقا فرصها في الحصول على وظيفة، وهكذا فقد تحققت توقعاتها السوداوية وأحدثت بسلبيتها حياة واقعية من التعاسة ، أما ليلى فمع تأثرها الشديد برحيل زوجها لكنها ومع انتهاء مدة العدة غادرت بشجاعة منطقة الألم والعجز إلى منطقة السيطرة والتحكم الشخصي، لأنها واحدة من أولئك الذين يؤمنون وبقوة أنه يمكن للفرد أن يجد منحة في كل محنة ، فتغلبت على أحزانها لتبدأ كل شيء من جديد، ورغم مواجهتها لمشكلة توقف الدخل إلا أنها اعتبرتها سببا قويا يدفعها للبحث عن وسيلة لتحقيق الدخل ، وبالرغم من مقاربتها لفريدة في العمر إلا أن طاقتها الإيجابية وقوتها الداخلية انعكستا ثقة على من حولها ، فدعمها الكثير في مساعدتها للبحث عن مصدر دخل حتى وجدت لها وظيفة جيدة في مؤسسة خيرية، وبخلاف أصدقاء فريدة فإن أصدقاءها لم يبعدوها يوما عن خططهم وما زال منزلها ملاذا دافئا تستقبل فيه أحفادها وأقاربها بكل حفاوة وطيب نفس ، ورغم الانشغالات أحرص دوما على متابعة أخبارهما من أمي لأجد فريدة ما زالت تغرق أكثر فأكثر في دوامات العجز ، وليلى تسترخي مطمئنة متفائلة في عالمها الإيجابي ، وقد أجبرت الجميع على أن يلمس إيجابية اختياراتها في تحويل أحزانها إلى نموذج طيب يلهم الكثير ممن حولها ، وشكلت حياة واقعية جدا لا مجال فيها للشك بأن التفكير الإيجابي يشدنا أقرب وأقرب لاكتشاف قوتنا الداخلية الخاصة.