أوروبا والعودة للمسرح الدولي

> ما موقع أوروبا دوليا، أثناء وبعد الحرب الباردة؟ ولماذا بقيت أوروبا الغربية منكفئة داخل حدود قارتها حتى أيامنا الأخيرة؟ وما الأسباب التي أدت إلى خروجها المفاجئ من حالة الانكفاء؟ أسئلة وعدنا بمناقشتها في هذا الحديث.
انتهت الحرب العالمية الثانية، بانتقال رئيس في موازين القوة، عبر عنه بوضوح النظام الدولي الجديد الذي انبثق من رحم نتائجها. وكانت الحقائق الجديدة التي برزت على المسرح الكوني قد صاغت ملامح النظام الجديد. وأهم هذه الحقائق تبعت العالم بأسره لقوتين رئيستين مختلفتين في توجهاتهما السياسية والعقائدية والاقتصادية. والحقيقة الأخرى، بروز حركات التحرر الوطني، التي عملت على تحقيق الحرية والاستقلال لشعوبها.
وكان الإنتاج الأمريكي للقنبلة النووية، والاستخدام الأمريكي لهذا النوع من السلاح في المدينتين اليابانيتين: هيروشيما ونجازاكي، والتحاق الاتحاد السوفياتي المبكر بالنادي النووي قد فرض واقعا جديدا في الصراع الدولي. لقد تأكد أن هذا النوع من السلاح ليس له سابقة، من حيث قدراته التدميرية الهائلة. ومع تطور وكثافة إنتاجه، سادت قناعة بأن استخدام هذا النوع من السلاح يعني فناء محتما للنوع الإنساني من كوكبنا الأرضي.
لقد عنى اكتشاف السلاح النووي استحالة نشوب حرب كونية ثالثة بين القوى الكبرى. وبروز دعوات لحظر إنتاج واستخدام السلاح النووي. ومنذ بداية الحرب الباردة تكرر عقد المؤتمرات واللقاءات بين القيادات السياسية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بهدف التوصل إلى معاهدات للحد من إنتاج السلاح النووي.
ولأن التنافس والصراع هما القانون الذي يحكم العلاقات الدولية، وليس التضامن والتعايش السلمي، فإن النظام الدولي الذي برز بعد الحرب الكونية الثانية، قد أفرز استراتيجيات عسكرية جديدة، تؤمن من جهة استمرار التنافس والصراع، ومن جهة أخرى، تمنع التشابك بين القوى التي تنتج السلاح النووي. وفي هذا الاتجاه، سادت أثناء الحقبة الباردة ما أصبح يطلق عليها "الحروب بالوكالة".
وفي هذا النوع من الحروب، يشارك أحد قطبي الهيمنة الدولية مباشرة في الحرب، ويكتفي القطب الآخر، بتقديم مختلف أنواع الدعم العسكري والسياسي للقوى المحلية التي تمثل الطرف الآخر في المواجهة. فعلى سبيل المثال، دخلت أمريكا الحرب في الهند الصينية، فيتنام ولاوس وكمبوديا، ضد الشيوعيين، واكتفى الاتحاد السوفياتي بتقديم الدعم للثوار. وعن طريق الدعم السوفياتي العسكري المكثف، تمكن الثوار من إلحاق الهزيمة بالأمريكان. في الحالة الأفغانية، حدث العكس تماما، فقد احتل السوفييت أفغانستان، وقدم الأمريكيون جميع أشكال الدعم العسكري للمجاهدين. والأمثلة في هذا السياق كثيرة.
هناك نمط آخر من حروب الوكالة، لم تتدخل فيه القوى العظمى بشكل مباشر، واكتفت بتقديم مختلف أنواع الدعم لحلفائها. ولعل أبرز مثال على ذلك هو الصراع العربي - الصهيوني. حيث قاتل العرب في معظم الحروب بالسلاح الروسي، بينما اعتمد الإسرائيليون على دعم عسكري ولوجستي واقتصادي غير محدود من الغرب. وقد استمرت حروب الوكالة طيلة الحرب الباردة التي انتهت بسقوط حائط برلين، ولاحقا سقوط الإمبراطورية السوفياتية.
وعلى صعيد القارة الأوروبية، فقد انقسمت إلى نظامين سياسيين: رأسمالي في الشطر الغربي، واشتراكي في الشطر الشرقي. وقد انكفأ الشطران، داخل حدود القارة. تعهدت الولايات المتحدة بحماية الجزء الغربي، الذي انخرطت بلدانه في حلف الأطلسي. والشطر الشرقي، بقي تحت القبضة السوفياتية، وارتبط بحلف وارسو.
وكان برنامج مارشال لإعادة إعمار أوروبا الغربية، وإزالة ما خلفته الحرب العالمية الثانية من خراب ودمار، قد وضع الحجر الأساس، للاندماج الاقتصادي الأوروبي وقيام السوق الأوروبية المشتركة، والاتحاد الأوروبي. كما أسهم حلف الناتو في تحقيق الاندماج العسكري للقارة. وقد حقق السوفييت من جهتهم، المهمة نفسها في الجزء الشرقي من أوروبا ولكن بإيقاع أضعف، على الصعيد الاقتصادي، من ذلك الذي جرى في الشطر الغربي.
والنتيجة أن ملامح السياسة الدولية بعد الحرب الكونية الثانية، إلى نهاية الحرب الباردة: قد شهدت هيمنة لقوتين عظميين: أمريكا والسوفيت، واتفاق على إزاحة الاستعمار التقليدي وانكفاء أوروبي نحو الداخل، وتصاعد للحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال، وحروب بالوكالة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، واندماج أوروبي عسكري واقتصادي.
هذه اللوحة البانورامية، لم تخل من نتوءات واستثناءات. فعلى سبيل المثال، أصبح العالم عدة مرات على حافة اندلاع حرب نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، رغم إدراك القوتين العظميين مخاطر اندلاع هذا النوع من الحروب. حدث ذلك أثناء الحرب الكورية في عهد الرئيس دوايت أيزنهاور، وفي أزمة الصواريخ الكوبية أثناء تولي الرئيس جون كنيدي للحكم، وأيضا في معركة العبور عام 1973، في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون. لكن وساطات وتدخلات دولية، وتغلب الحكمة أدت إلى تراجع احتمالات الحرب.
من جهة أخرى، لم تحل الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية الأمريكية على أوروبا الغربية، دون بروز بعض النزعات الاستقلالية في القارة، وبشكل خاص في فرنسا الديجولية، التي حالت دون ارتباط بريطانيا لفترة طويلة بالسوق الأوروبية المشتركة، بسبب ارتباط الأخيرة الاستراتيجي بالأمريكيين، إلا أن هذه النزعات الاستقلالية بقيت محدودة جدا، ولم تؤد إلى خروج أي من الدول الأوروبية عن مشروع الهيمنة الأمريكي.
على أن ذلك لا يمنع من القول إن هذه النزعات الاستقلالية، بقيت كامنة منتظرة فرصتها التاريخية، لتطل برأسها بقوة بعد نهاية الحرب الباردة. ولتصيغ المقدمات لصورة أوروبا القديمة بسياساتها الجديدة، التي تتداعى بقوة في ربيع الثورات العربية.
انتهت الحرب الباردة، ومع انتهائها تراجعت الحاجة للمظلة الأمريكية التي كانت تحمي بلدان أوروبا الغربية من احتمالات ضربة نووية سوفياتية. وخلال الفترة التي امتدت من عهد الرئيس جورج بوش الأب إلى نهاية فترة رئاسة، جورج بوش الأبن، وهي فترة امتدت 20 عاما، تميزت السياسة الأمريكية بالتفرد، وفرض القرارات على المنظمات الدولية، وفي مقدمتها مجلس الأمن، والتدخل العسكري المباشر في شؤون الدول، واحتلال أفغانستان والعراق.
في السنوات الأخيرة برزت حقائق جديدة، نتجت عن فشل سياسات المحافظين الجدد، والأزمة الاقتصادية الحادة التي شهدها العالم. وجاء الرئيس الأمريكي باراك أوباما مبشرا بحقبة جديدة مغايرة في السياسة الدولية.
لقد وضعت هذه الأحداث المقدمات لخروج أوروبا مجددا للمسرح الدولي والمشاركة بفعالية في الأحداث التي تجري الآن في عدد من البلدان العربية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي