العمل التزام لفظي وإنجاز
في حديث مع زائر غربي للمملكة في مهمة علمية، حيث إنه مرتبط بإحدى الجامعات، سألني عند زيارته لي في المكتب باستغراب: لماذا الإنتاجية منخفضة لدى العاملين في الجامعات، وفي مختلف المستويات الوظيفية؟ حتى تكون إجابتي عن سؤاله بشكل دقيق، ومن دون تأثير من الميكانزم الدفاعي الذي يتحرك لمجرد الدفاع، وليس لإبراز ومعرفة الحقيقة، سألته: ماذا تعني بانخفاض الإنتاجية؟ وكيف توصلت إلى هذا الاستنتاج؟
أجابني بأنه لم يجر دراسة ولم يطلع على وثائق حول هذا الشيء، لكنه من خلال الملاحظة التي استمرت لأشهر عدة، ومن خلال مناقشته من يعمل معهم في الجامعة التي جاء للمملكة من أجلها لاحظ أن لديهم ميلاً واضحاً للحديث وإضاعة الوقت، كما وجد أعمالا روتينية كثيرة تعوق العمل، وتجعل من العمل البسيط عملاً صعباً في نظر العاملين ولا يمكن إنجازه إلا في مدة طويلة وتمثل عذراً لمن لا يرغب في العمل.
هذه الفترة التي قضاها الأستاذ الجامعي الغربي في المملكة وفي جامعة من جامعاتها أتاحت له فرصة الملاحظة المباشرة لكثير من الأمور الإيجابية والسلبية، خاصة أنه أجنبي ومختلف في تنشئته وثقافته، لذا يسهل عليه ملاحظة الأشياء وإدراكها بسرعة خلاف من يكون جزءاً من المجتمع ومتشرباً بالثقافة ومعتاداً عليها، إذ إن هذه الحالة تحول الفرد إلى حالة تكيف وقبول للوضع مهما كان هذا الوضع، ومهما كانت تفاصيله، حيث إن الوضع الروتيني في تعامل الفرد مع مكونات الثقافة لا تحول بينه وبين ما قد يوجد فيها من مكونات ذات طابع سلبي إلا ما ندر في بعض الحالات. من الأمور اللافتة لنظر صاحبنا كثرة الإجراءات والتفاصيل في بعض الأمور الإدارية، لكنها لكثرتها تأخذ وقتاً وجهداً كبيرين، تعوقان الفرد عن القيام بأمور أهم منها.
في محاولة لتفسير ما لاحظه هذا الزائر الأجنبي اتخذت معه أسلوب طرح الأسئلة، حيث سألته: إذا ما كان يعتقد أن السبب نفسي، وإذا كان نفسيا .. فما الأسباب النفسية الكامنة وراء ذلك؟ أجابني أن السبب النفسي قد يكون أحد الأسباب، وليس كلها، ومن الحالات التي تعامل معها تبين له أن الرغبة في عدم تحمل المسؤولية تكون النتيجة لذلك قلة الإنتاج وكثرة الإجراءات، وضرب مثلاً لذلك حين أشار إلى أمور بسيطة جداً تناط بعميد كلية أو ذي منصب عال في الجامعة في حين أن مثل هذا الأمر في بلده تقوم به السكرتارية دون حاجة إلى الرجوع للمسؤول الأعلى وإشغاله بمثل هذه الأمور.
قلة الإنتاجية عللها أيضاً من خلال افتقاد التوصيف الدقيق لإنجاز بعض المهمات والأعمال، وهذا يترتب عليه تأخير العمل، أو تنفيذه بصورة خاطئة، وفي كلتا الحالتين يتطلب الأمر إعادة العمل مرة أخرى، وفي هذه إضاعة للوقت ومزيد من الجهد، وخسارة قد لا تكون منظورة لكنها موجودة ومتحققة. زاد صاحبي بالقول إن الجميع غير راض عن الأداء، والكل يتذمر من كثرة الإجراءات والروتين، لكنه مع ذلك لا أحد يتجرأ على تغيير الواقع حتى إن الفرد في محيطه الصغير المتمثل في إدارته وقسمه الصغير لا يقدم على التخلص أو التقليل على أقل تقدير من الروتين، وكثرة الإجراءات، وهذه الملاحظة ربما تؤكد عدم الثقة بالنفس وعدم القدرة على تحمل المسؤولية، فكل واحد لا يرغب في تحملها، بل يفرح في إحالتها على الزملاء الآخرين.
لمزيد من الإيضاح حول هذه الإشكالية المزمنة سألته مرة أخرى: هل تعتقد أن للأمر علاقة بالثقافة الاجتماعية بما في ذلك الثقافة الإدارية والثقافة العامة؟ فجاءت إجابته بأن ما استرعى انتباهه كثرة استخدام عبارة - إن شاء الله - والغريب كما يقول إن هذه العبارة يساء استخدامها من البعض الذين تعامل معهم، حيث لمس أنها تستخدم لتأخير المعاملات وعدم الالتزام للطرف الثاني بأي شيء، وذلك تفادياً للوم والمساءلة والعتب من صاحب الشأن أو من المسؤول الأعلى فيما لو استفحل الأمر، ذلك أن البعض يستخدمها وبكثرة كعذر يبرر به عدم قيامه بواجبه، حيث إنه لم يعط وعداً قاطعاً لإنجاز العمل.
ما من شك أن من محاسن الثقافة الدينية ذات القيمة التربوية استخدام عبارة إن شاء الله، لكن على ألا يساء استخدامها وألا تكون سبباً للتسويف وإضاعة المصالح، ذلك أن هذه الممارسات تحدث خللاً في حياتنا وأعمالنا اليومية، كما أنها تسيء إلينا كمسلمين، حيث تعطي صورة غير حسنة، لأن المشيئة الإلهية تقتضي جهداً من الفرد، وذلك كما ورد في الحديث الشريف: ''اعقلها وتوكل''، وكما ورد في الأثر ''إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة'' .. فهل نجعل من هذه العبارة محفزاً لنا لحسن العمل وجودته بدلاً من أن تكون سبباً في التهرب منه ووسيلة للتسيب؟!