الجمعة, 2 مايو 2025 | 4 ذو القَعْدةِ 1446


المنشآت الصغيرة لا تحتاج إلى هيئة

قبل عقد من الزمن نظمت الغرفة التجارية الصناعية في الرياض ندوة متميزة لتناقش سبل إنماء المنشآت الصغيرة وأهم قضاياها في السعودية. وخرجت تلك الندوة، التي رعاها وتحدث فيها حينذاك محافظ هيئة الاستثمار الأمير فيصل بن تركي، بمقترح بارز وهو إنشاء هيئة للمنشآت الصغيرة. وأحسب أن دور المحافظ في ذلك الوقت لم يقتصر على التأييد، بل تجاوزه إلى أكثر من ذلك بكثير. ومنذ ذلك الحين والمنتديات والورش والندوات تنادي بهذا المطلب، فضلاً عن كثير من الكتابات والدراسات والمقالات والأطروحات العلمية والعملية التي أوصت بشدة بإنشاء جهاز متخصص ومتفرغ لرعاية المنشآت الصغيرة.
أجزم بأن الدولة تدرك اليوم الأهمية البالغة للمنشآت الصغيرة، فهي إحدى الركائز الأساسية للتنمية الاقتصادية، وإحدى المنافذ لتوسيع القاعدة الاقتصادية وتنشيط الحركة التجارية، كما أنها أهم المحاضن لتوفير فرص العمل للمواطنين، إضافة إلى كونها تمثل رافداً أساسياً في زيادة الصادرات ونمو الناتج المحلي الإجمالي.
في اليابان تمثل المنشآت الصغيرة نحو 99 في المائة من عدد المشروعات، وتشغل نحو 70 في المائة من اليد العاملة. وفي أمريكا تقوم المنشآت الصغيرة باستيعاب نحو 53 في المائة من القوى العاملة، كما توظف 70 في المائة من العمالة الجديدة، وتسهم المشروعات الصغيرة بما نسبته 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، وتصل هذه المساهمة إلى 43 في المائة في كوريا الجنوبية و56 في المائة في تايوان و60 في المائة في الصين و70 في المائة في هونج كونج، في حين تبلغ نسبة المنشآت الصغيرة والمتوسطة في السعودية نحو 94 في المائة، كما لا تتجاوز مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي 30 في المائة.
وعلى الرغم من توافق الاقتصاديين والممارسين على أهمية دور المنشآت الصغيرة فلا توجد في السعودية جهة معينة موحدة ومتفرغة لهذا القطاع. وما يلفت الانتباه أن الجدل في أوساط المهتمين بالمنشآت الصغيرة وريادة الأعمال قد طال وهو ينصب نحو الحديث عن تبعية الجهاز إلى الحد الذي يؤدي إلى رفض الفكرة أو تعطيلها عندما ينتمي إلى جهة أو أخرى. وهي ممارسة إدارية سلبية حاضرة في كثير من القرارات التي يشهد لها التاريخ الإداري الإصلاحي بحسرة. وأرى أنه من الحكمة ألا يؤدي رفض الوسيلة إلى تعطيل الغاية، كما أن الأجهزة الإدارية قد تمرض وتضعف يوما ما، لكنها لا تموت، وتعود إليها الحيوية والنشاط عندما يقودها رواد مؤسسيون يتوجهون بالإنجازات ويتمتعون بسرعة الحركة من أجل إنجاز الأعمال.
كما أنه ليسعنا ما وسع الدول المتقدمة والناجحة في هذه المجالات، فأمريكا على سبيل المثال استحدثت إدارة مستقلة هي بمنزلة وزارة فيدرالية ضخمة لدعم وإنماء المشروعات الناشئة ورواد الأعمال. وفي كندا هناك إدارة متخصصة تتبع وزارة الصناعة تقدم مختلف الخدمات المساندة بما في ذلك تحديث تصنيفات المنشآت الصغيرة ومتابعة التشريعات والأنظمة الخاصة بها. أما الهند القوة الاقتصادية القادمة فقد أنشأت جهازاً قومياً عاماً يتولى وضع السياسات والخطط والبرامج لإنماء القطاع وتعظيم دوره الحيوي في الاقتصاد القومي. وفي كوريا الجنوبية فقد تم إنشاء هيئة عامة مستقلة لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة تتولى إنشاء المدن الصناعية والحدائق العلمية والبرامج التأهيلية والاستشارات والتوجيه نحو التصدير العالمي.
وفي السعودية أمامنا اليوم خيارات عدة أهمها، في نظري، خياران أساسيان هما: إنشاء هيئة خاصة بالمنشآت الصغيرة، والآخر أن تكون هناك وكالة وزارة للمنشآت الصغيرة تتبع وزارة التجارة والصناعة. وفي رأيي المتواضع فإن إنشاء هيئة مستقلة يعترضه عدد من الصعوبات الكبيرة، التي منها على سبيل المثال للحصر صدور القرار الرسمي وما يتطلبه هذا القرار من قناعة كافية لم تنجح منذ سنوات. ومنها أيضاً أن الهيئات عادة تختص بالأنظمة والتشريعات العامة والمتابعة والمراقبة التنظيمية، في حين أن الحاجة الملحة في هذه الحقبة التطويرية هو وجود استراتيجيات شاملة وبرامج داعمة وأنشطة فاعلة توجد الحراك التغييري في مسيرة المنشآت الصغيرة وريادة الأعمال. ومن العوائق أيضاً أن وجود هيئة مستقلة وإن تم دعمها رأسياً فلن تتمكن من أداء مهامها وفرض وجودها أفقياً في ظل تشتت المسؤوليات وتداخلها بين الوزارات المتعددة وستكون الحلقة الأضعف في حال التنسيق والتكامل، وشواهد تعثر الهيئات كثيرة في تاريخنا الإداري فكما قيل:
وكل يدعي وصلاً بليلى .. وليلى لا تقر لهم بذاك.
ومن العوائق أن إنشاء هيئة في هذا الوقت سيستغرق وقتاً طويلاً للتأسيس والإنشاء، مما سيبطئ عجلة اللحاق بركب الدول المتقدمة في هذا المجال. وأخيراً، فإن التدرج في الاستقلالية له فوائده الإدارية العديدة، ولعل مثال هيئة الإسكان أحد الشواهد البارزة التي كانت من إيجابياتها القليلة ترسيخ تجربة التدرج في استقلالية الكيانات.
أما إنشاء وكالة وزارة تختص بالمنشآت الصغيرة وتكون ضمن هيكل وزارة التجارة والصناعة فله إيجابياته العديدة، التي منها أولاً: إمكانية الإسراع في اتخاذ القرار الإداري مقارنة بإنشاء الهيئة. وثانياً أن الوضع الطبيعي للمنشآت الصغيرة كنشاط اقتصادي أن ترتبط بوزارة التجارة وتنظيماتها وقوانينها. ثالثاً أن وزارة التجارة تمتلك إدارات ومعلومات مستفيضة عن المنشآت الصغيرة ونموها وعوائقها، كما لديها خبرة متراكمة في أوضاع المنشآت الصغيرة ومتطلباتها. رابعاً أن الغرف التجارية الصناعية التي يعول عليها أن تلعب دوراً كبيراً في مساندة أي جهاز يعنى بالمنشآت الصغيرة وريادة الأعمال ترتبط وتتكامل مرجعياتها مع وزارة التجارة. وأخيراً فإن وزير التجارة الحالي من أكثر الوزراء الذين مروا على الوزارة حماساً وتأييداً للمنشآت الصغيرة، وأجزم أن هذه الوكالة ستجد دعماً واهتماماً كبيراً ومباشراً منه، ما سيمهد لها طريق النجاح للقيام بدورها المأمول. وأخيراً لقد تأخرنا كثيراً في إنشاء هذا الجهاز الإداري المهم ولن تتمكن المنشآت الصغيرة من أداء دورها في المساهمة في التنمية الاقتصادية لهذا الوطن وحالها مشتت بين وزارة داعمة وأخرى معيقة، وجهة متحمسة وأخرى مثبطة. وعندما نتأخر كثيراً سيصعب تدارك تنظيمها من جديد، ووضع الخطط التنفيذية الفاعلة المترجمة للخطط القومية الطموحة التي تدعو بكل وضوح للاهتمام بالمنشآت الصغيرة وريادة الأعمال والاقتصاد المعرفي لكنها تتعثر بعد ذلك. إننا نتطلع ونأمل من صناع القرار التفاتة حقيقية عاجلة للنظر في حال هذا القطاع المظلوم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي