الحرب الخفية في الصومال والعجز العربي
يبدو أن الصومال بمشكلاته وأزماته المزمنة أضحى عبئا على الذاكرة العربية التي أثقلتها ثورات التغيير والإصلاح، فباتت وكأنها تناست أمر الصوماليين فتركتهم فريسة لتنافس دولي وإقليمي لا يرحم ولا يقيم لاعتبارات العدالة والأخلاق وزنا. لقد أضحت القوة الغاشمة في عصر العولمة بلباسها الأمريكي البراق هي التي تخلق الحق وتحميه. وقد سبق أن نبهنا من خلال هذا المكان وعلى صفحات ''الاقتصادية'' إلى خطورة ما تشهده الساحة الصومالية من أحداث وتطورات تؤثر لا محالة في منظومة الأمن القومي العربي في امتداده الإفريقي.
الخفي والمعلن في الحرب
على الصومال
لقد حدث تحول نوعي لافت في المقاربة الأمريكية تجاه الصومال أواخر حزيران (يونيو) الماضي، حينما شنت الطائرات الأمريكية من دون طيار أولى غاراتها على أهداف في مدينة كيسمايو الصومالية. يعني ذلك أن الصومال أضحت الدولة السادسة في قائمة الدول التي تقود فيها أجهزة الاستخبارات الأمريكية حملة جوية من خلال هذا النوع من الطائرات. إذ لا يخفى أن الإدارة الأمريكية في ظل تراجع الحرب البرية واتجاهها لخفض قواتها العاملة في كل من أفغانستان والعراق، إضافة إلى عدم وجود قوات برية كافية في مناطق أخرى أضحت تستعين بالطائرات من دون طيار المزودة بالصواريخ في كل من أفغانستان وباكستان والعراق واليمن وليبيا. على أنه تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة استخدمت من قبل هذه الطائرات من دون طيار في القيام بعمليات استطلاعية فوق الأراضي الصومالية، حيث أسقطت إحدى هذه الطائرات في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2009. ويبدو أن اللجوء إلى هذا الخيار العسكري الجوي يعني تزايد دور وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ''سي آى أيه'' في إدارة الملف الصومالي خلال السنوات المقبلة.
وعلى صعيد آخر أظهرت الاستراتيجية القومية لمحاربة الإرهاب التي تبناها البيت الأبيض في حزيران (يونيو) الماضي أن الصومال يأتي على رأس أولويات الولايات المتحدة في منطقة شرق إفريقيا. فقد نص التقرير على ما يلي: ''لقد مثلت الأوضاع السياسية العبثية والمستعصية على الحل في الصومال تحديا لبيئة الأمن في شرق إفريقيا زمنا طويلا، كما أنها قوضت دعائم الاستقرار الإقليمي وخلقت تحديا هائلا أمام جهود الإغاثة الإنسانية، وهو أمر مرشح للاستمرار في المستقبل المنظور. وبالنظر، ولو جزئيا، إلى أوضاع غياب الأمن والاستقرار فإن الولايات المتحدة تواجه تحديات إرهابية في منطقة شرق إفريقيا.. وتمثل عناصر القاعدة في المنطقة موضع اهتمام هيئة محاربة الإرهاب الأمريكية نظرا لاعتزام هذه العناصر القيام بهجمات''.
ومن المعلوم أيضا أن حركة الشباب المجاهدين الصومالية التي أعلنت ارتباطها بتنظيم القاعدة عام 2010 تعد في المنظور الأمريكي منظمة إرهابية. وترى معظم التحليلات الاستراتيجية الأمريكية أن شباب المجاهدين يمثلون اليوم أقوى وأفضل تنظيم محلي تابع للقاعدة، حيث استطاعت الحركة، بفضل أعضائها الأجانب من تنظيم القاعدة، أن تطور من عملياتها القتالية داخل الصومال، وربما يمتد نشاطها خارجه كما حدث في تفجيرات كمبالا الأوغندية العام الماضي.
على أن ثمة وجها آخر لما يحدث في الصومال. فالولايات المتحدة تقود حربا خفية غير معلن عنها، حيث أفصح بعض الكتاب الأمريكيين عن قيام جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية بإدارة معسكرات للتدريب وجمع المعلومات في الصومال. ففي مقال له بعنوان: ''المواقع السرية للاستخبارات الأمريكية في الصومال'' أشار جيرمي سكاهل Jeremy Scahill إلى أن جهاز ''سي آي إيه'' يستخدم مطار مقديشيو الدولي لتنفيذ برنامج خاص بمحاربة الإرهاب في شرق إفريقيا وهو يهدف إلى تدريب عناصر استخباراتية وعسكرية محلية تكون قادرة على مواجهة حركة شباب المجاهدين وتنظيم القاعدة في الصومال.
أضف إلى ما سبق فإن المخابرات الأمريكية تقوم بإدارة أحد السجون السرية في مقر هيئة الأمن الوطني الصومالية في مدينة مقديشو، حيث يتم احتجاز المشتبه فيهم بالانتماء لحركة شباب المجاهدين أو أعضاء تنظيم القاعدة. وقد يتم اعتقال هؤلاء في كينيا ليتم ترحيلهم بالطائرات بعد ذلك إلى الصومال، حيث يتولى مسؤولو الاستخبارات الأمريكية مهمة التحقيق معهم، وذلك وفق النمط نفسه والإجراءات المتبعة في معتقل جونتانامو الأشهر.
الصومال دولة فاشلة!
3لعل الصورة الذهنية السائدة التي باتت محل اتفاق بين جميع المحللين والمتابعين للشأن الصومالي تتمثل في غياب مفهوم الدولة، بمعنى وجود السلطة والنظام والقانون في الصومال. فوفقا لمؤشر صندوق السلام الخاص بالدول الفاشلة، الذي صدر هذا العام بالتعاون مع مجلة ''السياسة الخارجية''، احتلت الصومال المركز الأول عالميا باعتبارها دولة فاشلة، وذلك للسنة الرابعة على التوالي. فقد ظلت الصومال منذ سقوط نظام سياد بري عام 1991 نموذجا واضح المعالم لما تكون عليه الدولة الفاشلة. وهو ما أحدث رواجا في دراسات الأمن والسلم الدولي. وربما يعزى السبب وراء ذلك إلى أن الدول الضعيفة والفاشلة تطرح تحديات وتهديدات ليس فقط أمام مواطنيها ولكن أمام دول الجوار الإقليمي كذلك، الأمر الذي ينال من الاستقرار الإقليمي.
وطبقا للمؤشرات الحالية فإن الصومال لن تتخلى قريبا عن موقعها في صدارة الدول الفاشلة عالميا. وبشكل عام يستخدم اصطلاح الدولة الفاشلة ليصف أي دولة تفقد القدرة على السيطرة داخل إقليمها أو أنها لا تستطيع احتكار استخدام القوة المشروعة على أراضيها. يعني ذلك عدم فاعلية سلطات الدولة وافتقادها القدرة على فرض النظام والقانون على سائر أنحاء إقليمها.
وعلى أية حال فإن ثمة اعتراضات إفريقية على الإطار الفلسفي والأيديولوجي لمؤشرات الدولة الفاشلة. ففي حالة الصومال على سبيل المثال توجد مناطق قادرة على فرض الأمن والنظام واقعيا كما هو الحال بالنسبة لإقليمي أرض الصومال وبونت لاند. يعني ذلك أن الربط بين الدولة وتحقيق السلم، إضافة إلى الارتباط الوثيق في الأدبيات الغربية بين بناء الدولة وحفظ السلام، يحجب إمكانية البحث عن بدائل أخرى. فالتعويل على المبادرات الخارجية التي تطرحها القوى الدولية الفاعلة في الشأن الصومالي، أدى إلى الفشل في مهمة بناء الدولة، بل أفضى إلى مزيد من العنف والقتال في الصومال.
وأحسب أن مصطلح الدولة الفاشلة أصبح يستخدم كذريعة للتدخل الدولي في شؤون الدول المستقلة ذات السيادة، ولا سيما تلك التي تحظى بموقع استراتيجي مهم مثل الصومال، وذلك طبقا لدعاوى فشل هذه الدول في الوفاء بالتزاماتها تجاه تحقيق السلم والأمن الداخلي والإقليمي. وربما تكتمل معالم هذه الصورة حينما نشير إلى بعض الكتابات النقدية التي أشارت إلى أن الولايات المتحدة نفسها تمثل دولة مارقة في النظام الدولي، حيث إنها أسهمت - ولا تزال - في تمويل عديد من الانقلابات والحروب في كثير من أنحاء العالم - طبقا لكتاب وليم بلو الذي أصدره منذ نحو عشر سنوات تحت عنوان: ''الولايات المتحدة: الدولة المارقة''. ولعل ذلك يبرر ما طرحناه في صدر هذا المقال حول إشكالية القوة والمصالح الوطنية في النظام الدولي الراهن.
العجز العربي
يلاحظ أن الدور العربي يكاد يكون مفقودا تماما في المسألة الصومالية. فجميع المبادرات الدولية والإقليمية بخصوص الصومال جاءت من قبل قوى وتنظيمات دولية غير عربية مثل: الاتحاد الإفريقي الذي يحتفظ بقوات لحفظ السلام في الصومال ''أميسوم''، وكذلك السلطة الحكومية للتنمية المعروفة باسم ''الإيقاد''، فضلا عن ذلك فقد باتت دول الجوار غير العربية مثل إثيوبيا وكينيا وإرتريا هي الفاعل الأهم والمؤثر في تطور الأحداث في الصومال. إن المرء ليعجب حينما يعلم أن مجموعة الاتصال الدولية حول الصومال لا تضم في عضويتها دولة عربية واحدة، حيث إنها تتألف من الولايات المتحدة والنرويج وإيطاليا والسويد وتنزانيا والمملكة المتحدة، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي. أليس في ذلك ما يدعو إلى الدهشة والاستغراب؟!
ويمكن أن يكون لانفصال جنوب السودان تبعات سلبية على الملف الصومالي. فثمة توجه إقليمي من قبل بعض دول الجوار الإفريقية لدعم وبناء تحالفات إقليمية قوية في كل من القرن الإفريقي وشرق إفريقيا. وتشير بعض الوثائق إلى إمكانية ضم جنوب السودان بشكل رسمي والتعامل واقعيا مع بعض الأقاليم الصومالية شبه المستقلة مثل بونت لاند وأرض الصومال وجوبا لاند. وثمة دعوات متكررة تطالب بمنح جمهورية أرض الصومال الاعتراف الدولي تأسيا بحالة جنوب السودان. يعني ذلك أن الخطوة التالية بعد تقسيم السودان هي التوجه إلى الصومال وتفتيته إلى دويلات صغيرة وفقا لنمط دولة المدينة.. ومن الواضح أن بعض الكتابات الاستراتيجية في الغرب باتت تروج علانية لهذا الحل للتخلص من عبء ما يطلق عليه اسم ''المرض الصومالي''.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا يشير إلى: أين العرب من كل هذا الذي يحدث في أرض الصومال العربية؟ فالتسريبات التي أشارت إلى وجود قواعد وسجون سرية تابعة للمخابرات الأمريكية في الصومال هي انتهاك فاضح لسيادة دولة عربية وتهديد مباشر للأمن القومي العربي. ورغم ذلك لم نجد أدنى اهتمام سواء على الصعيد الرسمي العربي أو على صعيد الجماعة العلمية العربية. ويبدو أن العرب يسيرون وفقا للمثل السائد في العامية المصرية ''أذن من طين وأذن من عجين''. إننا في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى بناء رؤية استراتيجية جديدة للحفاظ على الأمن القومي العربي واتخاذ مبادرات عربية جادة للتعامل مع الملف الصومالي، وإن اقتضى الأمر إرسال قوات حفظ سلام عربية إلى الصومال حتى لا يتكرر السيناريو السوداني مرة أخرى.