لا ترفع الكلفة أبدا

إذا جاءك يوما واش يحمل اتهامات ضد أحد ما ، تصرف أمامه كما لو كنت على معرفة بتلك الاتهامات، و أنك تعرف أكثر مما يعرفه بكثير، ستراه عندئذ ينطلق بالتفاصيل ليحكي لك عن اتهامات جديدة لم يكن ينوي التحدث عنها لولا حنكتك ، واحرص دوما على أن تكون لديك معلومات كثيرة عمن حولك، وتقص دوما عن أسرار الآخرين و لا تفش أسرارك لأحد.
وإذا كنت تخشى من شخص ما أن يفشي أسرارك أو ينشر ما تقوله، فتكلم أمامه عن أشياء تتعلق بك شخصيا لم تذكرها أمام أحد آخر من قبل، فإذا شاعت وانتشرت فستعرف بسهولة من خانك.
إنها إحدى الوصايا المحنكة الواردة في الكتاب السياسي الخطير " الوصايا السياسية " للكاردينال جول مازاران Jules Mazarian رئيس وزراء لويس الرابع عشر، الفرنسي الجنسية، الإيطالي الأصل والمولد، الذي نجح بقوة شخصيته وذكائه المتوقد في أن يرتقي من قاع السلم الاجتماعي إلى أن يصبح الحاكم المسيطر في بلد غير بلده و بين غير أهله، ساعده على ذلك نفسه الطموحة وكفاحه المتواصل في تحقيق ما خطط له، فأنقذ فرنسا من خراب مؤكد، وحولها من دولة ضعيفة تأكلها النزاعات و الصراعات الدينية وتنافس النبلاء و الإقطاعيين على السلطة وأطماع الدول المجاورة إلى جعلها دولة مرهوبة الجانب وسيدة أوروبا في القرن السابع عشر.
عن أساليب اكتساب المكانة عند ذوي النفوذ ينصح مازاران بأنه في حال خططت للاقتراب من أحدهم فتعرف على ميوله واهتماماته، هل يميل إلى القوة ؟ العلم ؟ الملذات ؟ الروحانيات ؟ الفنون ؟ وعندما تذهب لزيارته أشعره باهتمامك
باستشارته في أمورك وقراراتك و اتبع آراءه، ولا تطلب منه شيئا لا يرغب في منحك إياه، وكن قليل الكلام فهم يفضلون أن تصغي لهم بدلا من أن يصغوا هم إليك، وابق محترما ولا ترفع الكلفة أبدا مهما كانوا ودودين جدا وغير متكلفين معك، وباعد بين زياراتك كي يكون لها قيمة، وحضر لموضوع الحديث المتبادل بحسب ميول محدثك و ركز في حديثك معه على إبراز فضائله وخصاله الحميدة ولا تظهر له عيوبه أبدا أو تطلعه على النواقص التي ينعته بها من حوله، مهما كانت الطريقة التي يطلب منك بها ذلك، وإذا ما ألح عليك تظاهر برفضك الاعتقاد بأن له نواقص، اللهم إلا بعض العيوب الطفيفة، و اذكر حينها بعض الصفات التي كان قد اعترف بها سابقا بنفسه، لأن هذا النوع من الحقائق يترك دائما أسى وحرقة مهما كانت الوسيلة التي تستخدامها لإبراز هذه الحقائق، خاصة إذا كانت في موضعها الصحيح، وإذا تحتم عليك في بعض الأوقات توجيه النقد فلا تتعرض لحكمته وجدارته بل امدح مخططاته وعظمة أهدافه، وناقشه في الوسائل والأساليب الأفضل للتنفيذ مع لفت انتباهه بأدب إلى المشاكل التي قد تنجم في حال اختياره بعض الآليات غير الصائبة ، وحاذر من أن تستخدم مكانتك لديه للتدخل من أجل إنسان آخر إلا بصورة استثنائية جدا، لأن كل ما ستحصل عليه لهذا الإنسان سيكون كما لو أنك طلبته لنفسك.
مازال ذلك الكتاب القيم الذي كتبه مازاران في قمة مجده السياسي مملوءا بكثير من الوصايا التي جمع فيها خلاصة تجاربه، فنال من الشهرة درجة صرفت الناس عن تتبع بقية كتاباته ومذكراته ، و بغض النظر عن مدى موافقتنا لكل ما جاء فيه لكنه أراد أن يرسل من خلاله إلى الفرنسيين - الذين كانوا لا يزالون متمسكين بقوة السلاح و الفروسية العاطفية متناسين ثورة الفكر العقلاني التي بزغت في القرن السابع عشر بريادة ديكارت - رسالة محددة بضرورة نقل الدولة من عالم الولاء العاطفي و غوغائية الاستجابة إلى مرحلة الفكر والتنظيم ، ومن أخلاق الفروسية إلى عالم التحليل و التخطيط، وأن السلطة لم تعد في أيدي المقاتلين المدججين بالسلاح على أرض المعركة، بل تكمن أدواتها مسبقا في يد السياسيين الهادئين المتزودين بالاستراتيجيات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي