حوار في الكهرباء والطاقة

اللقاء الذي أكرمني باستضافتي فيه الإعلامي المبرز الأخ طلعت حافظ على القناة السعودية الأولى بمعية كريمة من محافظ هيئة تنظيم الكهرباء والإنتاج المزدوج ومدير عام المركز السعودي لكفاءة الطاقة منحني الفرصة لمعرفة الكثير عن هاتين المؤسستين والتوجهات التي يجري العمل بها فيهما، وفي الجهات ذات العلاقة بهما. ولأن مدة البرنامج لم تكن كافية لأي من المشاركين فيه لطرح كل وجهات النظر التي يحملها كل منهم حول هذا الموضوع الحيوي، فقد رأيت أن أطرح هنا ما لم أتمكن من طرحه في ذلك اللقاء، وأجدد التأكيد على ما تسنى لي أن أطرحه فيه. مجمل هذا الطرح يأتي من حرص عميق على لفت النظر وتعليق الجرس حول هذا الموضوع المهم الذي يمثل في رأيي أحد أهم التحديات التي تواجه مسيرة التنمية في المملكة، والتأكيد على الحاجة إلى إيلائه ما يستحق من اهتمام رسمي وشعبي، والتعاطي معه بما يستحق من شمولية وعمق ونظرة بعيدة المدى. وحديثي هنا سيتناول المستويات الثلاثة التي ترتبط بقضية الطاقة والكهرباء، وهي الإنتاج والاستهلاك والتوزيع، راجيا أن يتسع صدر القارئ والمسؤول لما سأطرحه في مقالي هذا من رؤى.
أبدأ بحديثي عن مستوى الإنتاج، ولن أتوسع كثيرا فيه، إذ إنني تناولته بالحديث في مقالاتي السابقة إبان زيارتي لشركة أرامكو السعودية. وما أريده هنا هو التأكيد على خطورة النمط الحالي من استهلاك النفط لإنتاج الكهرباء، وإغفال المقاربة الجادة لدراسة البدائل المختلفة، بما في ذلك بدائل الطاقة الشمسية والنووية واستخدام الغاز، جازما بأن الأخير يمكن أن يمثل أحد أكثر هذه البدائل جدوى وفعالية، حتى لو تطلب الأمر استيراده من دول أخرى، وهو ما لا أرى أنه يمثل حاجة ملحة في ظل ما تعلن عنه شركة أرامكو من أرقام عن مخزون المملكة من الغاز، وما نشهده من إهدار لهذا المورد في تلك الشعل المتلألئة التي نراها عند آبار النفط. ما أثار امتعاضي هو ما قاله محافظ هيئة تنظيم الكهرباء والإنتاج المزدوج من أن الهيئة كلفت جهة استشارية لدراسة جدوى توظيف هذه البدائل، إذ إنني أجد من الغريب والمزعج في الوقت ذاته أن مثل هذه الدراسة تأتي في هذا الوقت المتأخر، بينما كانت الأصوات تعلو دوما بالحديث عن أهمية مثل هذه الدراسة، وخطورة الاستمرار في استهلاك النفط لإنتاج الكهرباء بهذا النمط الجائر. عندما قال المحافظ إن برميل النفط يتم احتسابه على شركة الكهرباء بقيمة دولار واحد فقط، في الوقت الذي يباع فيه هذا البرميل بأكثر من 100 دولار في السوق العالمية، أصبت بقشعريرة مرة من ذلك الهدر الهائل في الموارد المالية التي كان من الممكن أن تعود على خزانة الدولة ومسيرة التنمية بكثير من الرخاء، خاصة إذا تذكرنا أن الاستهلاك المحلي من النفط يبلغ نحو أربعة ملايين برميل، ويمكن أن يصل إلى ضعف هذا الرقم في عام 2030. ثم إن الجدوى الاقتصادية للبدائل الأخرى لا يمكن أن تأتي بمثل هذه المقارنة المخلة بتكاليف الإنتاج بتلك البدائل، إذ إن تلك الجدوى يمكن أن تبنى من خلال التوسع في استخدام تلك البدائل بما يحقق طلبا مجديا عليها، ويحقق التخفيض المطلوب في تكاليفها، خاصة عندما نعلم أن تكلفة إنتاج وحدة الكهرباء بالطاقة الشمسية انخفضت في الولايات المتحدة مثلا من 12 دولارا إلى أقل من دولار واحد خلال عشر سنوات من البحث والتطوير والتوسع في التطبيق.
وفي المستوى الثاني من مستويات القضية، وهو مستوى الاستهلاك، فإنه من الأكيد أنه لا يختلف اثنان على شيوع نمط مخل من الاستهلاك الجائر للطاقة الكهربائية على كل المستويات، ولكن تحميل المواطن منفردا هذه المسؤولية لا يمكن أن يؤدي إلى النتيجة المأمولة، ولا إلى تحقيق معالجة فاعلة لهذا الهدر. إن ما نحتاج إليه فعلا هو أن تقوم الدولة بمنظومة من المبادرات التي تقدم فيها القدوة الحسنة للمواطن في هذا المجال. ومن ذلك مثلا السعي إلى تطبيق العزل الحراري الذي تسعى وزارة الشؤون البلدية والقروية إلى فرض تطبيقه على المواطنين في المشاريع الحكومية بالدرجة الأولى. ومن ذلك مثلا تقليل استهلاك الكهرباء في إنارة المباني الحكومية في غير أوقات الدوام الرسمي، ومن ذلك مثلا تزويد المرافق الحكومية بمجسات حركية يتم ربطها بوحدات الإنارة والتكييف ليتم إطفاؤها تلقائيا بعد فراغها من المستخدمين. ومن ذلك مثلا تطبيق مبادئ البناء الأخضر في المشاريع الحكومية، وهي المبادئ التي انبرت ألسنة القائمين على المجلس السعودي للأبنية الخضراء في الدعوة لتبنيها بشكل فعال بعيدا عن التنظير والتعاطف الشكلي. ما وجدته في ذلك اللقاء أن مجمل الجهد القائم من تلكما المؤسستين في مجال ترشيد استهلاك الطاقة الكهربائية منصب على مجال التكييف. ومع أن هذا البند يحمل أهمية واضحة، إلا أن هناك عددا آخر من المجالات التي يمكن أن يتم من خلالها تحقيق ترشيد فعال، وربما بوسائل أقل جهدا، الأمر الآخر أن وزارة الشؤون البلدية والقروية التي تسعى لفرض تطبيق العزل الحراري في البناء، غفلت في الوقت ذاته عن معالجة جوانب أخرى من ارتفاع التكلفة على المواطنين في بناء المساكن، بما في ذلك معالجة مشكلة ارتفاع أسعار الأراضي ومواد البناء، والتي يمكن بعد تحقيقها إتاحة الفرصة للمواطنين لاستثمار ذلك الوفر في تكاليف البناء لتطبيق مبادئ العزل الحراري وغيرها من مبادئ البناء الأخضر. وبشكل عام، فإن التعاطي مع جانب ترشيد الاستهلاك من قبل المواطنين لا يمكن أن يتحقق بحملات التوعية المتقطعة والمتناثرة، والقرارات الرسمية التي لا تملك أية آليات فعالة لتطبيقها في ظل غياب ممارسات الرقابة البلدية على البناء الفردي، بل إنه يتطلب مقاربات مختلفة تتبنى مفاهيم التحفيز والتشجيع على تبني تلك المبادئ.
وفي المستوى الثالث، وهو مستوى التوزيع، فإن الهيئة وشركة الكهرباء يمكن لهما تبني مفاهيم ومقاربات أكثر إبداعية في معالجة هذا الجانب. وعلى سبيل المثال، فإن الفارق في التوقيت بين شرق المملكة وغربها الذي يبلغ نحو الساعة يمكن أن يتم توظيفه لتعديل ساعات الدوام في المدارس والجهات الحكومية لتحسين توزيع استهلاك الكهرباء وتقليل الطلب في ساعات الذروة، خاصة أن هذا التوجه يحقق انسجاما مع الطبائع الاجتماعية لسكان تلك المناطق. أما في جانب التعرفة، فإن الحديث عن العبء الذي تتحمله شركة الكهرباء نتيجة تقديمها الطاقة الكهربائية للشرائح السكنية بتعرفة منخفضة تبلغ في معدلها ثماني هللات لوحدة الكهرباء مقابل تكلفة تبلغ 15 هللة هو حديث يجانب الصواب. وفي رأيي أن هذا الدعم الذي تقدمه الدولة لهذا القطاع هو في حقيقته دعم يفتقر إلى الكفاءة. والوسيلة الأكثر كفاءة هي أن يتم تمكين شركة الكهرباء من بيع الكهرباء بتعرفة مجزية، مقارنة بتكلفة الإنتاج، وتقديم الدعم لمن يستحق من المواطنين عبر وسائل وقنوات أخرى مباشرة وغير مباشرة، بما في ذلك وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الإسكان على سبيل المثال. ومن جهة أخرى، فإن التعاطي مع أرقام تكلفة الإنتاج كأمر واقع يتطلب كثيرا من المراجعة، خاصة أن شركة الكهرباء يمكن لها أن تحقق خفضا كبيرا في تلك التكلفة فيما لو تبنت البدائل المتاحة لإنتاج الطاقة بالتوسع المطلوب الذي يحقق الجدوى الاقتصادية المستهدفة، حتى ولو تحقق ذلك على المدى الطويل، خاصة في ظل الكم الهائل من القروض الحسنة التي تتلقاها الشركة من الدولة على حساب مشاريع التنمية الأخرى، التي لم تخصص الشركة منها ولو نزرا يسيرا للاستثمار في جهود البحث والتطوير لتطوير وسائل الإنتاج وتخفيض تكاليفه عوضا عن الاستمرار في ذات النمط المتهالك من وسائل الإنتاج.
أختم حديثي بما ختمت به حديثي في ذلك اللقاء، وهو الدعوة لتأسيس مجلس أعلى للطاقة يضم جميع الجهات الحكومية والخاصة ذات العلاقة بموضوع النفط والطاقة والإنتاج والاستهلاك الكهربائي، يكون على غرار المجلس الاقتصادي الأعلى، ويتمتع بسلطته وموقعه في قمة الهرم، ليضع السياسات والاستراتيجيات المركزية الشمولية للتعاطي مع هذه القضية الحيوية، ويحقق التكامل المنشود بين جهود تلك الجهات. هذه الدعوة تتطلب نظرة جادة بعيدا عن التباطؤ والتأخير، فمستقبل الأجيال على المحك في ظل ما نشهده من إهدار للمورد الرئيس لميزانية الدولة الذي حبا الله به هذه البلاد، خاصة إذا تذكرنا ذلك التوجيه الملكي الكريم بالمحافظة على مقدرات البلاد لمصلحة أجيال المستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي