مصطلح التسامح .. نموذج للتفضل والفوقية
يدخل مصطلح التسامح ضمن دائرة المصطلحات والمفاهيم التي تعنى بالعلاقة بين الأنا والآخر. ويتفق معظم المهتمين بدراسة العلاقة البينية بين أولئك الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة أن هذا المصطلح نشأ وتم تداوله بشكل أكبر في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي على إثر دعوات بعض الكتاب الغربيين الذين اهتموا وناضلوا من أجل عملية التسامح ضد التعصب وخاصة التعصب الديني.
وتأتي من وجهة نظري الدراسة التي قدمها الدكتور عبد الملك المصعبي حول مصطلح التسامح والتي عنونها بـ''في مفهوم التسامح: أفكار أولية'' كإحدى أهم وأعمق الدراسات التي تناولت المصطلح من عدة زوايا شملت ظروف نشأة المصطلح في أوروبا كما تعمق في مفهومه الاصطلاحي في العالم العربي والإسلامي إضافة إلى استعراض معانيه المتعددة وأولئك الذين أيدوه ودعوا إليه في القرن العشرين. كما ضَمَّنَ الدكتور المصعبي دراسته بعض الحيثيات التي أدت ببعض المفكرين إلى النفور وأخذ المسافة تجاه المصطلح وذلك من منطلق أن ''هذا المفهوم أساسه تسامح القوي مع الضعيف وبالتالي اعتبروه مفهوما يكرس عدم تكافؤ العلاقة وعدم المساواة بين أطرافها ويثير شعور التكبر أو شعور التفضل والتصدق من قبل المُسامِح...''. وفي نهاية هذه الدراسة يقدم الدكتور المصعبي بعض الإيضاحات المهمة لمضمون المفهوم مشيراً إلى أن من ينتقد المضمون ويطالب باستبداله ببعض المصطلحات من الموروث الإسلامي مثل ''لتعارفوا'' لم يقدموا من وجهة نظره المبررات الكافية.
من جهة أخرى، لفتَ مجموعة من الكتاب والباحثين الانتباه - وعلى حد علمي - بشكل عابر إلى حقيقة أن مصطلح التسامح لا يوجد له أثر في الثقافة الإسلامية ولم يرد لا في القرآن ولا في السنة النبوية بمعناه المتعلق بالتعامل والسلوك مع الغير وإنما وردت بعض المصطلحات والمفاهيم الأخرى التي تدور في حقله الدلالي مع اختلاف هذه المصطلحات في الدلالة إلى حد كبير.
ومن الضروري الإشارة إلى أن ما يعنينا هنا ليس التسامح بمعنى العفو أو السماحة وإنما التسامح من منظور المثاقفة، وكأحد المصطلحات والمفاهيم المهمة والمركزية المستخدمة في تناول العلاقة بين أولئك الذين ينتمون إلى أنظمة ومكونات ثقافية مختلفة.
ونتساءل هنا لماذا لم يرد مصطلح التسامح ضمن المفاهيم والمصطلحات الإسلامية التي تعنى بالعلاقة بين الأنا والآخر؟ وما هي الدلالات والمعاني التي تحملها المصطلحات والمفاهيم التي تبناها الموروث الإسلامي والتي تدعو إلى التعامل والتفاعل مع الآخر بمعزل عن لونه وجنسه ومعتقده؟ وهل تتجاوز هذه المصطلحات بدلالاتها ومعانيها الخلل الذي يعانيه مصطلح التسامح مما حدا بالبعض بأن ينفر منه ويتعاطى معه بمنتهى الحذر والشك؟
يبدو أننا نستطيع أن نقرأ من عدم وجود المصطلح في الموروث الإسلامي أن هذا الغياب يعود إلى إن الإسلام وفقا للمبادئ التي يحملها وتحكم العلاقة بين الأنا والآخر - بعيداً عن دعاة التشدد والتطرف - لا يقبل أن تكون هذه العلاقة قائمة على مبدأ المتفضِل والمتفضَل عليه، وهذا ما قد يفسر تقديم الإسلام لمصطلح ''لتعارفوا'' الذي من الممكن أن يُطلق عليه المصطلح الإسلامي المركزي الذي يُعنى بالعلاقة بيننا وبين الآخر المختلف ثقافيا.. ونستطيع أن نقول أيضا أن هذا المصطلح يتسم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دقة في الحياد وعدم التفضل والفوقية والتكرم. كما يأتي عمق وعظمة هذا المفهوم أنه ومنذ نزوله تجاوز خلل وارتباك الكثير من المصطلحات التي تعنى بالمثاقفة والتداخل الثقافي المطروحة في الوقت الراهن. فعلى سبيل المثال ثَبَتَ لدى معظم المفكرين والسياسيين الذين يتبنون وجهة نظر بعض النظريات التي يطرحها هؤلاء المفكرون والذين يحالون ضمن برامجهم السياسية إنجاح اللقاء والتواصل بين أولئك الذين ينتمون إلى أنظمة ومعايير ثقافية مختلفة أن بعض المصطلحات مثل التعددية الثقافية والعلاقة العبر- ثقافية تكتفي باستقبال الآخرين ووضع هؤلاء جنبا إلى جنب دون أن تهتم بالتفاعل والتعارف والتداخل بين هذه الثقافات والاستفادة مما تحمله من مكونات ثقافية غالباً ما تشكل إضافة إيجابية كبرى للثقافة الحاضنة.
وفيما يخص مجتمعنا فالمملكة العربية السعودية تعد نموذجا للبلد متعدد الثقافات، وتأتي كأحد أهم النماذج التي لم يتم التوقف عندها ودراستها خصوصاً فيما يتعلق بحجم عملية استقبال الآخر التي تتم على أراضيها. ورغم أنه لا يختلف اثنان على أن المملكة كبلد مهيأ وفقاً للمبادئ الإسلامية والحضارية التي يتبناها ويؤمن بها، أن يشكل نموذجا عالميا في استقبال واحتضان الآخر إلا أن الوصول إلى هذا النموذج يتطلب منا عملا كبيرا وشاقا نحو التعارف والتوقف عند هذه المجموعات الكريمة التي تعيش بيننا والتي غفلنا عنها وعن الاستفادة مما تحمله من ثراء ثقافي بما فيه الكفاية، بمعنى أنه على الرغم من وجود مجموعات كبيرة ومهمة تنتمي إلى ثقافات مختلفة على أرض المملكة، إلا أننا لم نبادر على حد علمي بالشكل الكافي إلى التقرب والتعرف إلى ثقافاتهم ومعاناتهم وخصوصاً فيما يتعلق بسلوكياتنا نحوهم، والوصول في نهاية المطاف إلى الاحترام المتبادل.
لديَّ قناعة أننا نعاني شحا وضعفا في الدراسات التي نستطيع من خلالها أن نسير نحو تقييم أنفسنا ومدى تمسكنا بفضيلة الاستقبال والتعارف ولكن ذلك لن يكون إلا بوضع تجاربنا تحت رحمة النقد.