التصفية الحكمية خيار اقتصادي
تعتبر التصفية الحقيقية (التنضيض الحقيقي) الأصل في شراكة المضاربات والاستثمار، ويقصد بالتصفية الحقيقية (تصيير المتاع نقداً ببيع أو معارضة)، فالتصفية الحقيقية للاستثمار تعني تحويل جميع الأصول المملوكة للمشروع سواء ما كان منها أصولاً ثابتة كالمباني والتجهيزات، أو متداولة كالأوراق المالية والديون وغير ذلك، إلى نقد. وفي ظل الاستثمارات المعاصرة حيث تصعب تصفيتها بشكل دوري فإنه قد يتعذر الأخذ بالتصفية الحقيقية، لذا لم يعد لهذه الطريقة دور يذكر في الاستثمارات المصرفية أو الأرباح السنوية لحصص الشركاء المختلفة، وأصبحت التصفية الحقيقية تعمل في بعض الحالات المحدودة، ومع قيام هذه الفكرة عن التصفية الحقيقية فإن بعض الفقهاء في الفقه الإسلامي تمسكوا بها كخيار وحيد استناداً إلى أن الأساس الذي ترتكز عليه طريقة التصفية الحقيقية هو القياس الفعلي وأن أي قياس آخر يعتبر باطلاً. لأن الفقهاء يقررون أن القسمة التي يراد منها الشريك تسلم الربح لا تكون إلا بعد التصفية الحقيقية للمضاربة وتقاسم المال ثم بعد ذلك ينشأ عقد جديد، وبالتالي إذا أودعت مبلغا ماليا في أي شركة استثماراً وكانت لدى الشركة استثمارات طويلة الأجل وأراد مساهمٌ التصفية فلا يمكن إعطاؤه أي مبلغ إلا بعد الانتهاء، وإن أي مبلغ يعطى قبل ذلك يكون غير معتبر من الناحية الفقهية، وهناك رأي فقهي بجواز المحاسبة وقسمة الربح مع بقاء المضاربة واستمرارها، فإذا تبين خسران في رأس المال بعد ذلك فإنه يجبر مع الربح السابق ما دامت المضاربة باقية بحالها.
ومع تطور النظام المصرفي وأحوال الاستثمار نشأت فكرة التصفية الحكمية، وهي التي يقصد بها تقويم أحوال المضاربة في نهاية الفترة المتفق عليها (كسنة أو شهر أو أقل من ذلك أو أكثر) واعتماد ذلك التقويم أساساً لتوزيع الربح ورد رأسمال من يرغب من أرباب المال من دون تصفية فعلية للمضاربة، وربما تكون تلك الأصول استثمارات في مشروعات مختلفة، أو سلعا، أو منشآت عقارية، أو ديوناً)، وهذه الطريقة هي الأكثر استعمالاً في المصارف عموماً سواء في ودائعها الاستثمارية، أو في الصناديق الاستثمارية التي تديرها، وكذلك استثمارات الشركات الخاصة، والأمر الذي اقتضى الأخذ بهذه الطريقة هو طبيعة عمل المصرف، كونه وسيطاً مالياً يواجه هدفين متضادين في آن واحد: فهو من جانب الخصوم بمعناها المحاسبي لا بد أن تكون استثماراته قصيرة الأجل، فالمودعون في الحسابات الاستثمارية لا تجتذب أموالهم لمثل ذلك إلا إذا توافرت لهم السيولة، وعند اطمئنانهم إلى أن بإمكانهم سحب تلك الودائع في مدة معقولة، ما يجعل المصرف مستعدا دائماً لقبول الودائع أو تصفيتها.
وفي الجانب الآخر - جانب الأصول - لا بد أن تكون استثماراته طويلة الأجل لا تتحقق فيها الأرباح إلا بعد تخطي المشاريع مراحل التأسيس التي ربما استمرت سنوات، حتى في الأحوال العادية فإن الأرباح لا توزع إلا في نهاية العام.
ولا ريب أن هذا الوضع يولد مصاعب كثيرة حتى ضمن صيغة العمل المصرفي التقليدي، إلا أنها في النظام المصرفي الإسلامي ـ حيث يقوم على صيغة المضاربة ـ تولد مصاعب إضافية، ذلك أن الربح في فقه المضاربة لا يتحقق إلا بالتصفية وسلامة رأس المال والقسمة، ومن المحال أن يجري المصرف تصفية حقيقية كل أسبوع، فكان المخرج من ذلك هو التصفية الحكمية (التقديرية).
والجواب عن الإشكال الفقهي القائم لدى بعض المختصين أن الأخذ بطريقة التصفية معتبر شرعاً، ولا يتعارض مع ما قرره الفقهاء في فقه المضاربة، وفق شروط وضوابط، ومستند ذلك أمران:
الأول: أن التقدير معتبر شرعاً في مسائل كثيرة، إذا تعذر العمل بالجزم والقطع.
الآخر: ما ورد عن بعض الفقهاء ـ بخصوص المضاربة ـ حيث جوزوا قسمة الأرباح اكتفاء بالتصفية الحكمية التقديرية التي تقوم مقام التصفية الحقيقية.
وفي هذا الباب يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية أصل هذه الفكرة بأن الحاجة قد تجعل الحكم يصار إلى البديل المناسب، خاصة إذا كان هذا البديل يمكن ضبطه وتقديره بحيث يعالج المشكلة القائمة، ويقول في بيع العرايا: (قد ثبت أنه أرخص في العرايا يبتاعها أهلها بخرصها تمراً، فيجوز ابتياع الربوي هنا بخرصه، وأقام الخرص عند الحاجة مقام الكيل، وهذا من تمام محاسن الشريعة).
ويؤكد هذا بعض الآثار عن الصحابة والتابعين ومنها ما ورد في مصنف أبي شيبة عن أبي قلابة - رحمه الله - أنه قال: (هما على أصل شركتهما حتى يحتسبا).. أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يبلغنا شهر رمضان، وأن يعيننا على صيامه وقيامه واغتنام أوقاته.