اليونان .. أزمة الديون وأزمة المستقبل
ربما ليس سرا أن الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم أخيرا لم تترك بلدا إلا وناله نصيب، منها ولكن بِقدر يختلف من بلد إلى آخر، واختلف حجم تأثير تلك الأزمة وقوة ضربتها من دولة إلى أخرى، ولكن من المؤكد أن تلك الأزمة ضربت وبشدة وألقت بكل ظلالها على اليونان، فهذا البلد الفقير والصغير مقارنة بالدول الرأسمالية الكبرى المتطورة، وجد نفسه في قلب العاصفة بعد أن ربط مصير اقتصاده الوطني بعجلة الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي والعالمي، وقبوله بشكل كامل وطوعي لجميع شروط الاتحاد الأوروبي.
ومع أزمة اليونان المالية وتداعياتها الأوروبية والعالمية برزت إلى سطح التحليلات ظاهرة افتعال الأزمات على امتداد الكرة الأرضية. وبرزت أحاديث تؤكد أن الأزمة تحتاج دائما إلى قرار مسبق من القوى العالمية المؤثرة والنافذة أكثر من احتياجها إلى أسباب واقعية وعملية تدفع إلى الأزمة وتتسبب في حدوثها واشتعالها، وما زالت هذه النوعية من التحليلات تكتفي فقط - لا غير - بطرح التساؤلات المشروعة ولا تصل إلى حدود تعريف القوي للحالة اليونانية، وهي ليست هي الحالة الوحيدة الأوروبية التي تنطبق عليها مواصفات الترشح لاندلاع أزمة مالية كارثية، بل يشاركها في مواصفات الترشح نفسها العديد من الدول الأوروبية الأخرى مثل إيطاليا وإيرلندا وإسبانيا والبرتغال وغيرها، ومع ذلك فإن أحاديث الأزمة واحتدامها وتصاعدها تم فقط لا غير في نطاق الحدود اليونانية والأكثر إثارة للتساؤل أن الأزمة تركت حتى أصابت اليورو بأضرار شديدة وأثارت استفهامات جادة حول مستقبله كعملة أوروبية موحدة، عالميا بمقاييس المال والاقتصاد والاستثمار والأعمال.
وقد طرحت صحيفة ''الفاينانشيال تايمز'' نموذجا لمعقولية وعدم معقولية الأزمات الكارثية بدول العالم المختلفة، وهو نموذج يثبت بكل الوضوح أن درجة سلامة أو عدم سلامة المؤشرات الاقتصادية والمالية للدولة لا يمكن أن يفسر فقط اندلاع الأزمة وكارثيتها واعتمد التحليل على مقارنة مؤشرات الأرجنتين في عام 2001 وقت تفجر أزمتها ووصول أوضاعها الاقتصادية والمالية في أشهر قليلة إلى مرحلة الانهيار التام والكامل في ظل الانهيار المروع لسعر صرف عملتها الوطنية مع ارتفاع التضخم لأكثر من عشرة آلاف في المائة والتوقف عن سداد الديون العامة والخاصة وانهيار الصناعة والتجارة والمصارف وتفشي البطالة، وتكسير عظام الطبقة الوسطى، والاتساع المدمر للفقر، وقياسا بمؤشرات اليونان في ظل أزمتها الأخيرة فإن أزمة الأرجنتين ما كان يجب أن تحدث على الإطلاق وكأن الأزمة لا تخضع لمنطق مالي واقتصادي محدود ومرسوم يمكن أن يكون مرجعية للباحثين والدارسين ويكون علامة فارقة بين الخطأ والصواب وفقا لمعايير علم الاقتصاد بجميع تفريعاته وتفصيلاته وبكل مناهج بحثه ونظرياته ومدارسه العالمية المختلفة.
ووصل الأكاديميون والمختصون في شؤون المال والاقتصاد إلى نفق مظلم يدفعهم إلى العجز الكامل عن التحليل الصحيح وعن التوصيف الدقيق ففي حالة الأرجنتين لحظة اندلاع الأزمة كان العجز بالموازنة العامة لا يتعدى 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وهي النسبة المثالية التي حددتها اتفاقية ماستريخت للتأهل للانضمام لعضوية العملة الأوروبية الموحدة وكانت المديونية العامة 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وهي تقل عن المعدل المثالي الذي حددته الاتفاقية والبالغ 60 في المائة يضاف إلى ذلك أن معاناة الأرجنتين فيما يخص ميزان المدفوعات والتعامل مع العالم الخارجي كانت لا تتعدى 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. كما يشير إلى ذلك الدكتور أسامة غيث ''الأهرام'' في دراسة مطولة له في ''الأهرام'' اليومي.
وفي المقابل بحسب الدراسة، فإن المؤشرات اليونانية لحظة اندلاع الأزمة كانت تقول بما يفوق معدلات الأرجنتين أضعافا مضاعفة ويتعدى جميع القواعد التي وضعتها الاتفاقيات والمعاهدات الأوروبية واتفاقية ماستريخت المحددة لعضوية منطقة اليورو بأضعاف مضاعفة، حيث إن العجز في ميزانية اليونان يبلغ 13.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وحده الأقصى وفقا لقواعد عضوية اليورو 3 في المائة فقط، وهو ما يعني أن العجز اليوناني بلغ نحو أربعة أضعاف حدود الأمان الملزمة والواجبة، أما الدين العام اليوناني فقد بلغت نسبته 115 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بالمخالفة للقاعدة الأوروبية القائلة إن الحد الأقصى 60 في المائة فقط لا غير، وهو ما يعني أن المديونية العامة لليونان تبلغ نحو ضِعف الحد الأقصى الذي تضمنته اتفاقية ماستريخت، وعلى الرغم من هذه التجاوزات المالية القارضة فإن كل السلطات الأوروبية المختصة تغافلت عن الخلل وتصاعده واستمراره حتى وصل إلى معدلات قياسية تتناقص بالتمام والكمال مع القواعد الواجبة الاحترام وإلا فقدت الدولة أهليتها لعضوية منطقة اليورو العملة الموحدة لأوروبا، ويعني ذلك بكل ببساطة أن الأزمة اليونانية كان من الواجب أن تنفجر منذ سنوات طويلة حتى في ظل تزوير الحسابات القومية التي أخفت أزمة المؤشرات الأساسية مما يبرز على السطح قضية أولوية العقاب السياسي فقط لا غير.
وفي الأزمة اليونانية فإن تحليلات الإعلام العالمي الرصين والمتخصص لا تتفاءل كثيرا بخطة الإنقاذ الضخمة البالغ قيمتها 110 مليارات يورو خلال ثلاث سنوات يقدمها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، ويرجع عدم التفاؤل والحذر الشديد في الترحيب بالإصلاح إلى الشك في قدرة على الإصلاح التقليدية الصادرة عن صندوق النقد الدولي والتي تعكس وصفة يمينية محافظة تنتمي إلى الأصولية الرأسمالية ثبت عجزها على امتداد أزمات دول العالم المختلفة وخلفت مآسي اجتماعية وإنسانية واقتصادية فادحة كما حدث في البرازيل في الثمانينيات، وكما حدث في الأزمة الآسيوية وكانت أكثر الدول سرعة في التعافي هي ماليزيا الرافضة تماما لوصفات الصندوق للإصلاح والعلاج وإصرارها على تنفيذ ما يخالفها 180 درجة، وكذلك عدم نجاح روشتة الصندوق في إصلاح أزمتي روسيا والأرجنتين عام 1998 وما لحق باقتصاد الدولتين من دمار وما لحق بالمقرضين الخارجيين من خسائر بالغة الضخامة.
كما تبدي التحليلات العالمية في جانب منها تخوفها الشديد من التركيز علي الأزمة اليونانية باعتبارها أزمة سيولة مالية في الدرجة الأولى ووضع خطط الإنقاذ لتوفير المزيد من السيولة، في حين أن طبيعة الأزمة اليونانية تؤكد أنها أعمق من ذلك بكثير، وأنها ترتبط بالهيكل الاقتصادي والمالي لليونان، وتراكمات المشاكل عبر سنوات طويلة إضافة إلى اتساع نطاق الفساد والرشوة وضخامة حجم التهرب الضريبي للقطاع الخاص، وما يعنيه من نزيف مستمر للإيرادات العامة الواجبة وتحذر هذه التحليلات من أن تخفيض عجز الموازنة العامة، وما يعنيه من تخفيض الإنفاق العام مع سعي الحكومة لفرض المزيد من الانضباط الضريبي على القطاع الخاص لضمان تحصيل الإيرادات الأكثر والأوفر سيؤدي بالضرورة إلى فرض أوضاع الركود على الاقتصاد اليوناني وتخفيض معدلات النمو وتراجع التجارة الخارجية وزيادة معدلات البطالة، وهي جميعا مؤشرات سلبية لا بد وأن تتسبب في تعميق المشاكل الهيكلية للاقتصاد وفي الوقت نفسه فإن تحليلات صحيفة ''الفاينانشيال تايمز'' تشير إلى توالي ارتفاع الدين العام ووصوله إلى 148 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016، وهو ما يصل لضعفي ونصف الضعف عن معدل اتفاقية ماستريخت للدين العام البالغ 60 في المائة كحد أقصى مما يترك اليونان في قلب العاصفة ويتركها في خانة التصنيف بعدم الصلاحية للاستمرار في عضوية منطقة اليورو والأكثر خطورة أن ضخامة الدين العام، وما يترتب عليه من أقساط وفوائد كبيرة لا بد أن تضغط علي الموازنة العامة وتهدد أي إصلاحات مالية لتخفيض عجزها بالفشل، بل وقد يصل الحال إلى دفع اليونان لإعلان الإفلاس الفعلي الذي تجاوزته خلال الأزمة الراهنة.
وتؤكد التحليلات أن خطة الإنقاذ تجاهلت بشكل كامل مقتضيات الإصلاح الضرورية التي كانت تستوجب أن يتم إعادة جدولة المديونية العامة اليونانية القائمة بشكل كامل بما يضمن تخفيضها بصورة ملحوظة، خاصة أنها مرتفعة وتبلغ حاليا 115 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وتتسبب أقساطها وأسعار فائدتها المرتفعة في أعباء كبيرة تؤدي إلى زيادة عجز الموازنة وتؤدي إلى مزيد من الإقراض والاستدانة لسداد مستحقات الدين الحالي في حلقة مفرغة كان لا بد أن تضمن خطة الإنقاذ الخروج منها، كما حدث في العديد من حالات إعادة جدولة المديونية العامة للدول وما تضمنته من الاعتراف بضرورة تخفيض المديونيات الرسمية وإعادة جدولة مدد السداد وتخفيض الفاتورة، وكذلك الاعتراف بانخفاض القيمة السوقية للمديونية العامة المستحقة للبنوك والقطاع الخاص وإعادة جدولتها وفقا لهذه القيم وليس وفقا للقيمة الاسمية الصادر بها السندات أو التي تمت بناءً عليها التعاقدات واعتبار أن هذا الأسلوب هو السبيل الوحيد لتخفيض الدين العام اليوناني والمساهمة في السيطرة علي عجز الموازنة العامة. وقد أصدر البنك المركزي الأوروبي يوم 29 حزيران (يونيو) الماضي قرارا أثار الكثير من اللغط والجدل أوروبيا وعالميا بوقف التسهيلات الائتمانية المقدمة للمؤسسات المالية في دول المجموعة منذ الأزمة العالمية بشروط ميسرة لمدة عام وبفائدة 1 في المائة فقط كجناح رئيس من أجنحة خطط التحفيز بعد أن وصلت معاملات البنوك إلى درجة عالية وخطيرة من عدم الثقة وعدم الأمان ووصلت المعاملات فيما بين البنوك بعضها بعضا إلى ما يشبه التوقف على الرغم من أنها القاطرة الحقيقية لتوفير السيولة الآمنة في المعاملات فيما يسمي تقليديا الإنتربنك، وقد صدر القرار بصورة فجائية وتضمن عدم تجديد التسهيلات حال استحقاقها واستبدالها بتسهيلات لمدة ثلاثة أشهر فقط وهو ما يؤثر علي سيولة البنوك بشكل كبير؛ مما يؤثر علي قدرتها في التعامل مع رصيد القروض القائم ويقلل من قدرتها على تقديم القروض الجديدة التي يعاني الجميع من انخفاضها وعدم توافرها عند الحاجة إليها مما يؤثر سلبا علي الاستثمار والأعمال والمعاملات.
الحقيقة أن اليونان هي البداية، فالحكومة اليونانية السابقة حكومة حزب ''الديمقراطية الجديدة'' اليميني، هي التي وافقت على شروط الاتحاد الأوروبي، فهذه الشروط وهي في الواقع شروط الاحتكارات الأوروبية الرأسمالية الكبرى. إذ أرغمت اليونان على التخلي عن زراعات استراتيجية مهمة كالزيتون والحمضيات، والتخصص باستبدال زراعة هاتين المادتين بزراعة الأزهار والورد؛ لأن زراعة الزيتون والحمضيات من اختصاص إيطاليا وإسبانيا، أما تربية الماشية فهي من اختصاص هولندا، وهكذا تحت ذريعة التخصصية فقدت اليونان قطاعا حيويا من قطاعاتها الاقتصادية المهمة جدا، وتدفقت على اليونان رؤوس الأموال الاستثمارية في مشروعات تخدم في الواقع استثمارات دول رأس المال، دون الأخذ في عين الاعتبار قدرة اليونان على سداد المستحقات المترتبة عليه حيال هذه المشروعات. ولجأت الحكومة اليونانية إلى سياسة الخصخصة لجمع ما يمكن من مبالغ لسداد الديون، ووصل الأمر بالاتحاد الأوروبي أن طلب من الحكومة اليونانية أن تبيع عددا من جزرها الجميلة جدا كي تسدد ديونها البالغة كما أسلفنا نحو 408 مليارات دولار. ولكن لا الحكومة الاشتراكية حكومة الباسوك ولا الاتحاد الأوروبي يقدّران بدقة نتائج هذه السياسة التي أنتجتها سياسات الليبرالية الانفتاحية منذ عشر سنوات، ورغم جميع المحاولات لتلافي الوقوع في الأزمة ولكن السياسة الخاطئة ستكون لها نتائج خاطئة بالضرورة. ولجوء الحكومة اليونانية لبيع العديد من المنشآت الحكومية لم تساعدها على تلافي الأزمة، وكما شبه الوضع أحد الاقتصاديين الأوروبيين الكبار بقوله: إنها تشبه عملية ضخ دم لمريض ينزف دوما داخليا. وردا على إجراءات الحكومة هب المتضررون من سياسة التقشف الجائرة بإضرابات واسعة جدا شملت أكثر من 20 مدينة يونانية. ويقول المناهضون للعولمة الاقتصادية الرأسمالية: إن الحل يكمن في تغيير النهج الاقتصادي القائم وإيجاد البديل الوطني القادر على حماية اليونان من الوحش الاحتكاري الأوروبي الكبير. ويقول المحللون: إذا ما عولجت أزمة اليونان فإن دومينو الأزمة سيصل بالضرورة إلى جميع الدول الأطراف في الاتحاد الأوروبي بعد دولة المركزية، ما يهدد بفرط عقد اليورو بوصفه عنوان الاتحاد الأوروبي الذي قال ذات يوم عنه في بداية القرن الـ 20، وعندما كان مجرد شعار: إنه غير ممكن التحقيق أو سيكون رجعيا وتعسفيا في ظل الرأسمالية المتوحشة!