خواطر في مقولَتي نهاية التاريخ وبدايته
في كتابه تاريخ البشرية، يشير المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إلى أن العالم احتفل عام 1897 باليوبيل الماسي لاعتلاء الملكة فيكتوريا عرش بريطانيا. وكانت المناسبة فسحة لمراجعة الستين عاما التي خلت. فبين اعتلاء الملكة للعرش والعام الذي احتفلت فيه باليوبيل الماسي، أتم الغرب الاستعماري مهمة الاستيلاء على العالم، بعد مسيرة استمرت 400 عام. وخلالها تمكن كولومبوس من عبور المحيط الأطلسي، وغادر فوسكو ديجاما البرتغال، ودار حول الرجاء الصالح. ويرى توينبي أن دولا أنقذت استقلالها بالقبول طوعا بتبني أساليب الحضارة الغربية. ومن ضمن هؤلاء روسيا، التي بدأ بطرس الأكبر تحديثها على الطريقة الغربية، وأن اليابان نهجت ذات الطريق.
لقد أدى انتصار الغرب على شعوب العالم، إلى شيوع رؤية ترى أن تقدم البشرية محكوم بانتهاج الطريق الذي اختطته أوروبا لبناء حضارتها، وأن ذلك هو النموذج الأمثل والأخير للبشرية.
في عام 1922، بعد أقل من ربع قرن من اليوبيل الماسي البريطاني، صدر كتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبير. وفيه تحدث عن العقلانية القانونية باعتبارها قمة ما وصلت إليه البشرية. وتنبأ بتبني شعوب العالم للنظام الرأسمالي والعلاقات التعاقدية.
وإثر انتهاء الحرب الباردة كثر الحديث عن نهاية التاريخ وعصر الأيديولوجيات، وأن مرحلة جديدة بدأت، تتميز بالبراجماتية وغياب التعصب العقائدي وسيادة العقلانية القانونية.
وكان الانتشار الساحق لكتاب نهاية التاريخ وخاتم البشر لفرانسيس فوكوياما وما أثاره من جدل صاخب على النطاق العالمي هو أكبر دليل على التفاؤل الذي عمّ العالم بأن البشرية تتجه حثيثا نحو تبني النموذج الغربي في قيادة الدولة والمجتمع. لقد توقع الكتاب المذكور أن يؤدي المنطق الاقتصادي للعلم الحديث والتطورات التي حدثت في مجال التقانة المعلوماتية إلى انهيار النظم الاستبدادية وإقامة الديمقراطيات الرأسمالية الليبرالية، بما يؤدي إلى خلق مجتمع إنساني مستقر.
ولا نحسب أن القول بنهاية التاريخ، تعبير دقيق لتوصيف واقع الحال؛ لأن التاريخ في مجمله هو وصف لمسيرة الإنسان. ولأنه كذلك، فإن القول بنهايته يشير بمعنى آخر، إلى القول بنهاية الإنسان، وهو أمر نجزم أن الكاتب لم يقصده.
إن استمرار الحياة الإنسانية، يعني استمرارية الأحداث التي تشكل في سلاسل متعاقبة ماضي الإنسان. وأحلام البشرية في قيام مجتمع مثالي ليست بجديدة. فمنذ الفلسفة اليونانية، كتب أفلاطون عن تصور خاص لجمهوريته، واستمر الحلم.. ووُجِد دائما منظرون عند بداية كل حقبة يبشرون بقيام مجتمع إخاء تلتغي فيه الحروب، ويقضى فيه على الأمراض والمجاعات، ولكن تحقيق ذلك بقي بعيدا عن المنال. فالتاريخ صيرورة، تحكمها قوانين الصراع والمصالح. وما ينتج من أنظمة وقوانين ودساتير وسلوكيات ليس سوى انعكاس لواقع موضوعي وانتقال في مراكز القوى، وتعبير عن تطور نوعي في مستوى الوعي والإرادة عند الشعوب.
ومن هنا تبرز قيمة الحدث التاريخي، بعد ربطه بالحلم والمستقبل، فتصبح العلاقة صميمية بين التاريخ، كمعطى لتجربة إنسانية، وبين الفلسفة التي تستخرج من ذلك الحدث عبرتها، بعد أن تقوم بدراسة وتحليل أسباب وقوعه، وصولا إلى اتخاذ موقف شامل من الكون يمد بقواعد من السلوك. ولذلك قدس كانط وهيجل وفلاسفة آخرون العقل واعتبروه سيد العالم.
والقول بنهاية التاريخ، قريب الشبه بالقول ببدايته؛ ذلك لأن ما يدل على الأحوال هو الخبر عنها، وأن كل شيء غير معلوم هو بحكم المعدوم. وهكذا فحين نقول ببداية التاريخ فإننا نتكلم عن معرفة نسبية بعوارض وحوادث. والتاريخ العام على هذا الأساس هو مجموع الأحوال التي عرفها الكون حتى اللحظة. وما يعنينا فيه ليس سكونه، بل حركته وصيرورته وإسقاطاتهما على منظومة قيمنا ومعارفنا، نستنبطها من خلال القراءة والتقييم والملاحظة.
ولذلك جعل القدماء من التاريخ مدرسة تابعة للسياسة والأخلاق، منطلقين من أن القدرة على الترجيح والاختيار ملازمة للملاحظة والاستنباط. وما دامت الأمور دائما نسبية سيبقى الفرق قائما بين الإشارة والمشار إليه وبين الرمز وما يرمز إليه، وبين الاستنباط وواقع الحال.
وهنا تواجهنا معضلة جوهرية، تتعلق بشرط كتابة التاريخ. هل من الجائز أن يكون الباحث جزءا من اللحظة التاريخية للحدث، ونحن ندرك أن معايشة الحوادث تعطي دورا، والدور لا يقوم إلا على موقف، والموقف لا يتأتى إلا عن اقتناع، والاقتناع في الغالب يستند إلى رأي، والرأي بدوره انحياز، وهو ما يناقض الحياد الذي يفترض أن يكون أحد الشروط الموضوعية في إصدار الحكم التاريخي. لكن سؤالا يطرح في المقابل ضد هذا الرأي، هل صحيح أن المعرفة التاريخية لا تكون إلا بنبذ الذات؟
ربما تساعد هذه المقدمة حول مفهوم التاريخ ودوره، في قراءة واقع الحال بعالمنا كما يبدو الآن. فمنذ صدر كتاب "نهاية التاريخ" بطبعته الأولى في بداية التسعينيات من القرن الماضي حتى هذه اللحظة، تدفقت مياه كثيرة، وشهد الكون هزات وعواصف في مختلف القارات، وتغيرت بشكل درامي ومثير الخارطة السياسية العالمية. واتضح أن ما حدث فعلا آنذاك، لم يكن سوى التصديق على شهادة الوفاة للنظام السياسي العالمي الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي دشنته نتائج الحرب ذاتها.
كان النظام العالمي الجديد قد شهد بعد نهاية الحرب مباشرة بروز قطبين رئيسين في السياسة الدولية، هما الولايات المتحدة، وقادت المحور الغربي الرأسمالي، وفي مقابلة الاتحاد السوفياتي وقد قاد المحور الشرقي الاشتراكي.
ولا شك أن غياب أحد القطبين أحدث تغيرات رئيسة وكبيرة في مختلف المجالات. فقد بهتت المقولات الاجتماعية والاقتصادية التي ارتبطت بالفكر الاشتراكي. وأصبح العالم بأسره تحت رحمة القطب الآخر، الذي أخذ يتصرف في الساحة العالمية كشرطي حراسة، معتبرا قوته القدر المقدر. والنتيجة أن غياب القطب الآخر لم ينتج عنه، كما أشيع، قيام نظام دولي جديد يسود فيه السلام والوئام في العالم. بل إن حالة الاسترخاء للنظام الرأسمالي التي سببها انعدام "الآخر" وانتفاء حالة التنافس أدت إلى انتفاء الحاجة إلى ترصين الفكر الرأسمالي. وهكذا فتحت الولايات المتحدة الأبواب مشرعة لعصر جديد من سياسة الهيمنة، ولتطلق العنان لمبدأ آدم سميث "دعه يعمل" بعنفوانه المشهود، دون حدود، والويل لمن يعترض، فتهمة الإرهاب جاهزة ومعلبة، والسيف مسلط على رقاب الجميع. وبعد ذلك، ليس مهما حجم ما تسببه تلك الحروب من معاناة وبؤس وكوارث إنسانية. فالمطلوب هو توسيع دائرة الخانعين والمستسلمين، وتحقيق عائدات ربحية أكبر. فليس هناك مكان في عقل السادة الكبار للتفكير في حجم الدمار والخسائر، ولا عدد الضحايا من شعوب العالم المقهور.
وتؤكد قراءة الأحداث في العقدين اللذين مضيا أن من المفيد وجود عالم متعدد الأقطاب في السياسة الدولية. لقد كانت حركات التحرر الوطني، والحركات المؤيدة للغرب تتلقى دعمها من أحد القطبين الدوليين. وكانت تشكل الوجه الآخر للحروب بالوكالة. فهي في الغالب متجانسة في أفكارها وسياساتها مع أحدهما، ولا تستطيع العيش وممارسة دورها دون الدعم المالي والعسكري والسياسي الذي تلقاه منهما. وقد أدى ذلك إلى ترصين واحتواء تلك المجموعات. ولذلك لم تشهد مرحلة الحرب الباردة انفلاتا في السياسة الدولية كالذي ساد في العقدين السابقين. فقد كان يكفي أن يلتقي زعماء القوتين العظميتين أو من يمثلهما، ليحسما من خلال المفاوضات والمقايضات ما يدور على المسرح العالمي من صراعات، فتتم المساومات بينهما، وتستخدم تلك الحركات لتحسين الأوراق التفاوضية. وكان اتفاقهما يعني في محصلته النهائية تخفيفا من بؤر التوتر.
إن غياب الأب الشرعي للحركات اليسارية والوطنية والأصولية، وتفرد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم، قد خلق حقائق جديدة أسهمت مباشرة في بروز الإرهاب المتبادل واتساع دائرته. فقد أصبح على معظم الحركات التي تشعر بالغبن والجور أن تعتمد على ذاتها ولا تتوقع مساعدة من أحد؛ مما غيَّب إمكانية ترصينها وعقلنتها. وقد تم ذلك في وقت لم تعد فيه الإدارات الأمريكية تشعر بالحاجة إلى خلق نماذج اقتصادية باهرة، تنافس من خلالها النموذج الاشتراكي، كتلك التي قامت في اليابان وجنوب شرق آسيا، والتي أطلق عليها بالنمور الآسيوية.
وهكذا يبدو أن التاريخ ما زال في بدايته، وأن تعددية الأقطاب في السياسة الدولية ورفض هيمنة القطب الواحد ربما تكون الملجأ الأخير للقضاء على الإرهاب، بكل مستوياته. سواء تلك التي تشنها قوى الهيمنة، أو أولئك المنفيون الباحثون عن ملجأ في الجبال والوهاد. وحتى يتحقق ذلك يبدو الطريق طويلا ووعرا ويبقى التاريخ بعيدا عن نهايته التي بشر بها فوكوياما وقال بها الفلاسفة من قبل.