ماذا يجري في دمشق.. ولماذا لجأت إلى قرار الحسم العسكري؟
كل المؤشرات تؤكد أن الحوار الداخلي السوري فشل ولم يحقق النتائج المرجوة، وأن الاحتجاجات تزداد ويتضاعف نطاقها، ما يؤكد عدم الثقة والرضا عن سير الإجراءات الإصلاحية التي اتخذها الرئيس بشار الأسد، وأن الدولة أصبحت رهينة لواقع من الفوضى والحلول الأمنية الدامية، ولم تمتلك الحكومة السورية أوراقا عديدة في التعامل مع المجتمع السوري تعاملا مدنيا مع أطره الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وظل المنطق الأمني حاضرا، وبدأت دوائر الاستطلاع تؤكد أن ثمة قوة خفية تحكم سير التعاملات اليومية في سورية ولها أجندة غير الأجندة الإصلاحية، وهذه القوى هي إيران بالدرجة الأساس وحزب الله وقوى الفساد المالي والإداري ومخاوفها من أي إصلاح حقيقي، وهي بالضد من توجهات الأسد الإصلاحية.
اللافت للانتباه أن الحكومة السورية ما زالت ماضية في منهجها الأمني في التعامل مع الأزمة الداخلية التي تشتعل وتتراكم وتتطور، وتجعل الدولة في حالتين: الأولى حالة ضعف عامة سببها اقتصادي وأمني، والأخرى حالة فقدان الصواب بالتركيز على الحل الأمني فقط، وتطور الإجراءات نحو الاستخدام العسكري والدبابات وقصف المدنيين مهما كانت الذرائع، فالمحتجون في سورية ليسوا من تشكيلة واحدة، وأغلبية من يقومون بأعمال الشغب والاحتجاج غير السلمي، ينطلقون من أهداف وأبعاد عديدة، لعل الظاهر منها أنها مرحلة لتسديد الفواتير عن مراحل قمع سابقة عاشها السوريون ومرحلة لاستعادة الحرية المفقودة.
تعتبر سورية بيئة اقتصادية متنوعة، والاقتصاد السوري من الاقتصادات الحيوية، غير أن كشف الأوراق أظهر حجم الفساد الكبير في القطاع الاقتصادي وسيطرة شبه كاملة على مرافق الدولة الاقتصادية، ولعل الشارع السوري متيقن من أن رامي مخلوف ابن خالة الرئيس يسيطر على شركة الشام القابضة، وهي تضم داخلها ما لا يقل عن 80 شركة، وبخاصة القطاعات الحيوية كالاتصالات واستيراد السيارات والطاقة والعقارات والاستثمارات السياحية والبنوك، جعلت المواطن السوري يعيش حالة من الحنق الداخلي والاستعداد النفسي للتغيير مهما كانت النتيجة، وكانت الثورات العربية وربيع العرب مقدمة لتطول ألسنته دمشق قبل غيرها، حيث لم تصدق تنبؤات الرئيس بشار الأسد بأن سورية تختلف عن مصر وتونس، وأنها لن تشهد الفوضى ولا التغيير، غير أن معلومات استخباراتية وتقدير موقف استخباريا أشار إلى أن سورية كانت مرشحة للفوضى قبل مصر.
اللافت للانتباه أن المتغير الداخلي فاجأ الرئاسة السورية ولم تتوقعه مطلقا، وعند حدوثه لم تتصرف تصرفا يستفيد من معالم الأزمات التي حدثت في تونس ومصر واليمن، بل لجأت إلى الحل الأمني، ما يؤكد أن الدولة الأمنية تفتقد الآليات والإجراءات المدنية، ولا تمتلك معرفة دقيقة بكيفية امتصاص الحدث وكيفية تحويل مساراته، ويشار إلى أن نائب الرئيس السوري فاروق الشرع طلب في اجتماع خاص مع الرئيس بشار الأسد وبحضور ماهر الأسد أن تحل مشكلة درعا بما يرضي المواطنين وأن تقدم الحكومة السورية اعتذارها لهم، وأن تحاكم القيادات الأمنية، وأن يؤكد الرئيس خطوطا واضحة للإصلاح، ويقال إن الشرع وبخ من قبل شقيق الرئيس ماهر الأسد، وخرج بعد غياب ليؤكد الشرع أن الرئيس سيخرج في خطاب سياسي واضح محددا فيه معالم الإصلاح السياسي الذي ينشده السوريون، وعندما خرج الرئيس كان الخطاب مغايرا تماما لما كان يتوقعه المواطن السوري، ولا يعكس قراءة دقيقة للموقف الأمني وتداعيات الأزمة الداخلية والخارجية، وظل الإعلام السوري يؤكد أن ما يجري هم مجموعة من الخارجين عن القانون من المندسين، ومع الأسف، فإن هذا الخطاب لم يستفد من الخطاب الإعلامي والسياسي لكل من ابن علي وحسني مبارك وعلي صالح والقذافي، الذي أثار حفيظة المواطنين بدلا من الاستجابة الواعية لمطالبهم، والإصرار على عدم الاستجابة للخطة التركية لكيفية تجاوز الأزمة، ما عزز فكرة المواطنين من أن الحكومة السورية ليست لديها نية حقيقية في الإصلاح السياسي، ولم تستفد من فاعلية الحضور التركي في المشهد السوري الداخلي والخارجي، بل اتهمت أنقرة دمشق بأنها كانت وراء دعم حزب العمال الكردستاني في محاولته الفاشلة لاغتيال أردوغان قبل الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لا بل إن دمشق كانت ترى في استقالات قادة الجيش الأتراك أنها مؤشر على ضعف حكومة أردوغان وعلى عدم موافقة الجيش التركي على التدخل العسكري في الشأن السوري، ولهذا أقدمت الحكومة السورية على زيادة جرعة العمل الأمني واستخدام القوة ودخول حماه ومحاصرة دير الزور، ونقلت الصحافة عن أن أردوغان اتهم الأسد بأنه استغل الحادثة لقصف حماه.
المشهد السوري يتطور، والموقف الدولي يتطور، وهناك بلورة وإنضاج للمعارضة السورية توحيدا للفصائل السياسية كافة، وآخرها اجتماع وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بالمعارضة السورية، وتطورات الموقف الفرنسي، واستعادة اللهجة التركية الحادة نحو دمشق، ومعلومات تؤكد أن تل أبيب ليس لديها أي مخاوف من أي تغيير قد يحدث في سورية، وتسريب الصحافة الأمريكية معلومات تفيد بأن الـ ''سي آي إيه'' بدأت مراقبة المشهد السوري وإعداده لمرحلة التدخل.
كيف تتصرف الحكومة السورية في إطار الحل الأمني؟ فقد أكدت الأحداث أن الحكومة السورية يمكن أن تلعب لعبة خلط الأوراق الداخلية والخارجية واللجوء إلى مرحلة الصدام الطائفي، وكان ذلك ممكنا في حمص وحماه بين العلويين والمسلمين والمسيحيين، لكن وعي الناس والمخاوف من عدم القدرة على ضبط هذا الصدام، والتدخل الأمريكي الدبلوماسي، كان رسالة واضحة قلصت إمكانية اللجوء إلى هذه المرحلة، والمرحلة الثانية التخويف وإثارة الهواجس من تقسيم سورية والحديث عن كردستان سورية، خاصة بعد قيام إيران بالتدخل في كردستان العراق، حيث تؤكد أروقة الحكومة السورية أن الحديث عن قيام كيان قومي كردستاني يثير المخاوف التركية تحديدا، وكذلك تحذيرات أنقرة لكل من إيران وسورية بعدم العبث الأمني في أراضيها، ما يؤكد أن المخططات السورية تهدف إلى إثارة الفوضى في تركيا، وتحذيرات أمريكية للأردن بضرورة ضبط ومراقبة الحدود مع سورية مخافة أن تعمد سورية لنقل الفوضى إلى دول الجوار بمساعدة إيرانية، خاصة أن حركة حماس لها حضورها داخل حركة الإخوان المسلمين الأردنية، وأن حزب الله اخترق حركة حماس من خلال أعضاء ينتسبون لحزب الله ويعملون بإمرته، حيث من المتوقع مساهمتهم إذا ما طلب إليهم تعزيز الفوضى الأمنية في الأردن.
ولتعزيز المخاوف الأوروبية من أن الفوضى في سورية سيكون لها صدى كبيرا في أوروبا ضغطت طهران على بغداد للتأكيد على أن أجهزة الأمن العراقية استطاعت إحباط مخطط إرهابي لتنظيم القاعدة، وأن قياديين في هذا المخطط استغلوا الأزمة في سورية ولجأوا إلى المدن والقرى السورية، وأن المعلومات التي في حوزة المخابرات العراقية تؤكد أن القاعدة ستنشط في أوروبا، وكان هذا التصريح والتأكيد بعد تفجيرات النرويج بأيام، ما يشير إلى أن الرسالة الأمنية كانت تستهدف إثارة هواجس ومخاوف أوروبا من احتمالية تداعيات أي فوضى في سورية على الأمن والاستقرار الأوروبي، كما سعت دمشق إلى فتح قنوات اتصال خلفية مع تل أبيب عبر أثينا، الساعية إلى تطوير علاقاتها مع تل أبيب على حساب أنقرة، بفعل الخلافات التاريخية بينهما، في إشارة سورية لإمكانية التعويض عن أنقرة بأثينا فيما يتعلق بمحادثات السلام مع تل أبيب، وضاعفها اعتراف الأسد الضمني السوري بحدود 1967 وبالرؤية الإسرائيلية لما يتعلق بالاتفاق حول الجولان.
وتشير المعلومات إلى أن سورية تعيش فوضى السلاح وتهريبه من مناطق مختلفة، وهذه المصادر تؤكد أن الحكومة تغض الطرف عن ازدهار تجارة السلاح في سورية، خاصة القادمة من لبنان ومن العراق، بينما يؤكد مواطنون سوريون أن وحدات تابعة للجيش السوري تركت مخازن السلاح مفتوحة وجرى نهبها، وأن الهدف جعل إمكانية الاحتكام إلى السلاح ممكنا، ما يثير هواجس المجتمع السوري وقياداته، ويجعل البلد على أبواب الفوضى الأمنية، وهي تتماشى وخطة حافة الهاوية التي تجيدها دمشق، لكن هذه المرة لن تستطيع ضبطها لتوسع مجالاتها وأهدافها، ولهذا أهاب البيان العسكري عبر التلفزيون السوري بالمواطنين في حماه ودير الزور ألا يصغوا إلى شائعات تروجها تلك التنظيمات الإرهابية، مؤكداً أن وحدات الجيش تعمل على عودة الأمن والاستقرار إلى المناطق التي عاثت فيها تنظيمات إرهابية فساداً وعكرت صفو حياة المواطنين بسبب ممارساتها المخلة بمبادئ الدين الإسلامي السمحة وبالقواعد الأخلاقية للمجتمع.
إلى أين يمضي المشهد السوري؟ الحقائق والمعلومات تفيد التالي:
- أن تكلفة اليوم الواحد لتحريك الجيش والأمن السوري تتجاوز عشرة ملايين دولار، وهناك حركة خروج بين 180 و200 مليون دولار شهريا خارج سورية، وأن دمشق تواجه أزمة نفطية بعد تفجيرات دير الزور والبوكمال، رغم الدعم الإيراني (ستة مليارات) وتزويد دمشق بالمشتقات النفطية عبر العراق.
- هناك تصميم سوري على الحسم العسكري بعد فشل الحلول الدبلوماسية والإصلاحية التي قدمتها الحكومة السورية، التي تعتقد أنها نهاية ما يمكن تقديمه والتنازل عنه للمواطنين، وأن الحل الأمني كفيل باستعادة الأمن والاستقرار السياسي، وقد برز ذلك مع بداية رمضان، الأمر الذي يؤكد أن المسرح السوري مقبل على مزيد من التعقيد.
- منح التحرك العسكري السوري المجتمع الدولي التحرك خطوات للأمام باتجاه إدانة ما يجري، وقدم مبررات موضوعية إضافية لواشنطن والدول الأوروبية والغربية باتجاه التدخل في سورية من خلال مجلس الأمن الدولي مع اختلاف كبير في السياسة الروسية حيال دمشق، التي اضطرت إلى المطالبة بوقف القمع وتقديم مزيد من الإصلاحات والحوار مع المعارضة.
- طالب وزير الخارجية المصري محمد كامل بضرورة الإسراع في حل الأزمة حلا سياسيا، وذلك لتجنب إمكانية تدويلها، مؤكدا أن لا حل أمنيا للأزمة، وهو أول موقف عربي في الموضوع السوري يحمل بين طياته معلومات متداولة حول إمكانات التدخل الدولي، معربا عن انزعاج مصر مما يجري، مؤكدا أن الظروف الدقيقة التي تمر بها سورية الشقيقة والدروس التي أكدتها تجربة الربيع العربي في مناطق أخرى من الوطن العربي تظهر حقيقتين ثابتتين لم يعد من الممكن تجاهلهما، أولاهما أن الحلول الأمنية لم تعد مجدية ولا مفر من مخرج سياسي يتأسس على حوار وطني يشمل جميع القوى السياسية، لبلورة حلول وطنية خالصة للأزمات العربية، والحقيقة الأخرى هي أن المنطقة العربية لا تحتمل تدويلا جديدا، وأن السبيل الوحيد لتجنب هذا التدويل هو أن نأخذ زمام المبادرة بأيدينا ونتحرك على الفور لتحقيق طموحات الشعوب العربية المشروعة إلى الحرية والديمقراطية.
- شن الرئيس التركي عبد الله غول ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو هجوما كاسحا على الحكومة السورية طالبا فيه بوقف فوري للعنف، وأن أنقرة لن تصمت مجددا عما يحدث في سورية، وقال غول: ''التطورات الأخيرة في سورية زادتنا قلقا على قلق، لقد راعنا ما رأيناه في التغطية الإعلامية للأحداث واستخدام الأسلحة الثقيلة في حماه ضد المدنيين أصابني بصدمة عميقة''، وأضاف وعليه ''لا يمكننا البقاء صامتين والقبول بالأجواء الدموية في رمضان، فهذا مناقض تماما لروح رمضان، وهو فترة يتوقع فيها الناس تأمين الهدوء وتنفيذ الإصلاحات''. وقال غول ''من المستحيل التزام الصمت في مواجهة أحداث يراها الجميع. أدعو الإدارة السورية إلى وقف العنف ضد الناس وتنفيذ إصلاحات من أجل بناء مستقبل البلاد على قاعدة من السلام والأمن''.
- أصدرت وزارة الخارجية الروسية بيانا أكدت فيه دعوتها الحكومة السورية والمعارضة إلى التحلي بأقصى درجات ضبط النفس والامتناع عن الاستفزازات والقمع، وأن موسكو تعرب عن قلقها الشديد من معلومات تفيد بسقوط العديد من القتلى، وأن اللجوء إلى القوة سواء ضد المدنيين أو ممثلي هيئات الدولة غير مقبول ويجب أن يتوقف، ويجب إطلاق حوار جوهري مسؤول وشامل بشكل سريع، في غاية الأهمية لتسوية مشكلات السياسة الداخلية والاجتماعية الاقتصادية لمصلحة كل السوريين.
- مشروع إدانة مجلس الأمن الدولي للحكومة السورية فيما يتعلق بقمع المحتجين، ووجود خشية روسية وصينية وهندية وجنوب إفريقية من أن يصبح هذا القرار حال إقراره حتى ولو على شكل إدانة بسيطة أن يكون الخطوة الأولى نحو تدخل عسكري غربي في سورية كما حدث في ليبيا، خاصة مع حدوث تطور كبير في الموقف الروسي.
- أما واشنطن فقد كررت إدانتها لما يجري، فقد أكد الرئيس أوباما خلال لقائه سفير واشنطن في دمشق روبرت فورد إدانته للعنف ضد الشعب السوري، مؤكدا دعمه للشعب السوري الشجاع وحقوقه العالمية والانتقال الديمقراطي، فيما دعت هيلاري كلينتون إلى وقف المذابح فورا، مؤكدة أن الرئيس الأسد فقد شرعيته وأن سورية ستكون في مكان أفضل إن حصل انتقال ديمقراطي، داعية مجلس الأمن إلى التحرك.
الموقف الدولي يتطور بسرعة باتجاه صيغة إدانة لسورية وإصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، حيث يلاحظ أن موسكو ليس لديها ممانعة من صدور قرار إدانة لا يحمل توجهات ولا يتضمن فرض مزيد من العقوبات، غير أن المعلومات تؤكد أن واشنطن تعمل بهدوء على نواح عدة، أولاها مقاربة الوضع الليبي على الانتهاء، وتغير في الموقف الروسي، وتطور مكونات المعارضة السورية باتجاه توحيد الفصائل السياسية الإسلامية، والحديث عن مجلس وطني للخلاص وحدوث انشقاقات تدريجية في بنى الجيش السوري، والموقف الإيطالي المتشدد والداعي للدول الأوروبية لسحب سفرائها من دمشق، وتوسعة لائحة المشمولين بالعقوبات من الشخصيات الرسمية السورية لتشمل 13 مسؤولا، وتضمنت اللائحة الجديدة وزير الدفاع اللواء علي حبيب حمود، وقائد الأمن العسكري في حماه العميد محمد مفلح، وقائد الأمن الداخلي في الاستخبارات العامة توفيق يونس، ومحمد مخلوف خال الرئيس بشار الأسد، وقائد أمن الدولة في حمص أيمن جابر.