الوحدة والتنافر في مفهومي العلم والأيديولوجيا
بعد سقوط الحرب الباردة في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، تزامن الحديث عن نهاية التاريخ، بالحديث عن نهاية عصر الأيديولوجيا. فالقانون الجديد الذي ينبغي أن يسود وفقا للمنتصرين هو قانون المنفعة. وعلى هذا الأساس برزت البراغماتية كمفهوم أثير في السياسة الدولية لما بعد سقوط الثنائية القطبية. وتم ربط الأيديولوجيا بالدوغما، والتعصب العقائدي.
نجادل في هذا السياق، لجهة استحالة القضاء على الأيديولوجيات، وأن وجودها قائم ومستمر طالما بقي الإنسان والإيمان. بل نذهب أكثر من ذلك فنقول بتلازم وجودها بوجود العلم. في هذا الحديث وأحاديث أخرى قادمة، سنركز على العلاقة بين مفهومي العلم والأيديولوجيا، ونعالج بعض حالات الارتباك التي تشوب العلاقة بينهما.
ونقطة البداية هي تقديم تعريفات أولية لمدلولات المفهومين. وفي هذا المضمار، لا مناص من الإقرار بوجود مشكلة أبستمولوجية تتعلق بسعة مدلولاتهما وتنوع استعمالاتهما، وبالتالي غياب تعريف محدد متفق عليه لكليهما. ويجري تناول الأيديولوجيا في الغالب باعتبارها منهجاً عقائدياً شاملاً. وهنا يتم تناولها في مفهومها الكلي، باعتبارها ظاهرة ذات أبعاد وأوجه معقدة: اجتماعية وثقافية وسيكولوجية ومعرفية، وليست مجرد مدلول سياسي. ذلك لأن الأيديولوجيا في بعدها السياسي تقتصر على تناول العلاقة بالخيارات السياسية والمؤسسات السياسية المختلفة، في حين يبرز البعد الاجتماعي للأيديولوجيا علاقتها بالمجتمع ككل، وبمؤسساته. أما البعد السيكولوجي فيختص في علاقته، كظاهرة اجتماعية وفكر اجتماعي، بالذات، وبالوجدان والرغبة.
المهمة الأساسية للعلوم هي المساعدة على اكتشاف هذا الكون، وقهر الطبيعة، وافتراضاً تحقيق أكبر قدر من الرفاه والعيش الكريم للإنسان. وهي في كل هذا يفترض فيها أن تكون وصفية حيادية كمية ودقيقة. أما الأيديولوجيا فمهمتها تحديد رؤية معرفية للكون والمجتمع والإنسان تتبلور في صياغات وأطر تمنح ذاتها مواقف وأدوات يفترض أنها تقرب الملتزمين بها من طموحاتهم في شتى مجالات الحياة. إنها بمعنى آخر، موقف من الأشياء ومناهج تمد بقواعد من السلوك. وهي في هذا، يفترض أن تكون تعبيراً عن أفكار قيمية تعبوية، هدفها الأساسي ليس المعرفة، بل العمل. هذا يعني باختصار أن مهمة الأولى هي اكتشاف هذا الكون، بينما تتكفل الأخرى بتحديد موقف منه.
على أننا لو أمعنا النظر في الدور الذي تؤديه العلوم والأيديولوجيات لوجدنا الفاصلة بينهما دقيقة، رغم ما يبدو في الظاهر من اختلاف في تعريفهما، ومن تباعد في الأدوار المنوطة بهما. فعلى الرغم من أن الدور الذي يقوم به العلم يفترض فيه أن يكون دوراً حيادياً، هدفه تقديم المعرفة، ضمن مصنفات نظرية، بعد تحقيق واستقصاء موضوعيين، إلا أن قراءة تاريخ العلم، ترينا أن الفلاسفة والعلماء منذ القدم لم يفصلوا قط بين مهمة اكتشاف الكون ومحاولتهم اتخاذ موقف منه، بل سخروا حاصل اكتشافاتهم وتجاربهم العلمية للمساعدة في إنجاز هذين الهدفين. فقد تأكد أن هناك علاقة تفاعل حية بين العلوم والأيديولوجيا. فالعلم في حقيقته مجموعة من الفرضيات، في مجالات شتى، تأكدت بالتحقق من خلال التحليل أو الملاحظة أو التجربة. والعالم صانع النظرية والمتحقق منها، وبالتالي صانع العلم أو مكتشفه ليس شخصاً محايداً قادماً من خارج التاريخ، بل نتاج لمجتمع خاص، وبيئة محددة. وحين يأتي إلى مختبره أو معمله أو أبحاثه، فإنه يحمل رؤاه وتوجهاته وأحلامه وهواه، ما ينعكس على اختباره لفرضياته، مسار البحث وعلى النتائج العلمية التي يتوصل إليها. والعالم في معمله أو مختبره يبدأ انحيازه، ليس فقط عند توجيهه لنتائج بحثه، بل منذ اللحظة الأولى حين انتقاء الموضوع وطريقة البحث ومنهجه، والنظريات التي يسترشد بها، ومن ثم اختباراته واستنتاجاته.
وهكذا فإننا حين نقرأ جمهورية أفلاطون، فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا هو ذلك المجتمع الأثيني الذي نظر له أفلاطون من منطلقه النخبوي. وكذلك حين يقرأ لأرسطو وهو ينظر في السياسة، ويقسم المجتمعات إلى بشر مكتملين إنسانيا، وهم عليه القوم وسادته، وبرابرة ونساء لم يصلوا حداً من القدرة العقلية تجعلهم مؤهلين لأن يعتبروا بشراً مكتملين، ولأن قدراتهم العقلية هي أقل من مستوى البشر الأكفاء، أجيز استغلالهم واستخدامهم من قبل البشر المكتملين عقلياً. وهكذا نرى أن أرسطو بهذا الاستنتاج وضع قاعدة منهجية وأخلاقية لسادة أثينا وعلية القوم، تبيح لهم استرقاق إخوانهم من البشر، وتضفي مشروعية على النظرة الدونية للبرابرة والنساء. إنه هنا يستخدم العلم في تحليله واستنتاجه لترسيخ مقولات اجتماعية جائرة.
في العصر الحديث، حين انشطر العالم انشطاراً حاداً إلى غربي متمدن، وشرقي يتبنى المنهج الاشتراكي، ويتنافس مع الرأسماليين على مختلف الأصعدة، وفي جنوبهما عالم ثالث متخلف، انبرى بعض من العلماء الغربيين إلى استنباط نظريات عنصرية، ترجع أسباب التخلف في العالم الثالث إلى عوامل عرقية أحياناً، وعوامل جغرافية أو دينية في أحيان أخرى. فبرز الحديث عن التفوق العقلي للجنس الآري، وعن جينات مختلفة ترتبط باللون الأسود، وعن اتصاف السكان الذين يعيشون قريباً من خط الاستواء بالخمول والكسل، وأن الدين الإسلامي الحنيف هو دين محافظ يرفض التطور ويؤمن بالعنف. بل إن بعضاً من المفكرين الغربيين ربط بروز ظاهرة الحركات السياسية الإسلامية المتطرفة بالدين الإسلامي "غير المتسامح"، الذي هو نقيض المسيحية، التي تدعو إلى العمل والتعاون والحب، وتحترم حقوق المرأة.
ومن قبل، اهتمت دراسات غربية بتحديد خصائص معينة، يميز عن طريقها بين المجتمع الغربي المتمدن، ومجتمع العالم الثالث المتخلف. ووفقاً لتلك الدراسات، نظر إلى المجتمع التقليدي على أنه يقوم على أساس الاعتقاد بتقاليد اجتماعية موروثة، وإلى هيمنة أفكار متخلفة تعتمد على السحر والشعوذة والدجل. كما نظر إلى المجتمع المتقدم على أنه قانوني عقلاني قائم على أساس الخضوع لقوانين ودساتير مدنية محددة، يتفق عليها المجتمع من خلال المؤسسات الديمقراطية الممثلة للشعب. ولذلك وصف هؤلاء مجتمعات العالم الثالث بأنها متخلفة، بدائية، بدوية، أو ريفية زراعية، ساكنة، تقليدية، يسودها حكم الفرد يقابلها مجتمع مدني، صناعي، متحضر، متحرك، عقلاني متمدن يمارس فيه الحكم الديمقراطي، ويفصل فيه بشكل حاسم بين الدين والدولة.
في مقدمة الذين اهتموا بهذه الدراسات السير هنري ماين، وإميل دورخايم. فقد قسم ماين المجتمعات الإنسانية إلى نوعين: ساكنة وتعاقدية، وقال إن التطور يعني الانتقال من الساكن إلى التعاقدي، ومن مجتمع تقليدي جامد إلى مجتمع مدني عقلاني، تربط بين أبنائه علاقة تعاقدية، قائمة على اعتبارات خاصة. بينما قال دورخايم بوجود نوعين من العلاقات الاجتماعية، نوع ميكانيكي، وهو المجتمع التقليدي، حيث يتبادل الناس فيه عواطف عامه، ومجتمع أصلي، حيث يجري فيه تقسيم خاص حاد للعمل تحكمه المصالح لا العواطف. وقد شجع على بروز هذه النظريات، أن أوروبا قد أصبحت بحق، بعد عصر البعث والنهضة، مركز الثقل الحضاري في العالم.
ومن هنا فإن كل الصفات الإيجابية، ارتبطت بحضارة الغرب. فهي وحدها المتحضرة والمتمدنة، والصناعية والديناميكية، والعقلانية والديمقراطية، ولهذا فإنها مهيأة بإمكاناتها الهائلة لإنقاذ البشرية، وإن تنقلها إلى وضع أفضل، وفقاً للمقاييس الأخلاقية والحضارية التي اصطنعها فلاسفة وعلماء الغرب. ومن هنا قدمت هذه النظريات المبرر الأخلاقي للدول الغربية الصناعية لتبدأ عصر الإمبريالية، حين أوحت بأن خريطة التطور الإنساني إنما تبدأ من أوروبا لنشر المدنية في ربوع العالم، وتجاوز المجتمعات التقليدية.
هكذا إذن، تنتظم العلاقة بين العلم والأيديولوجيا، وتسخر كما رأينا في الأمثلة التي أشرنا إليها، العلوم لحساب الأيديولوجيات السائدة، مؤكدة استحالة موضوعية العلم وحياده، حيث يصبح الادعاء بموضوعية الأول، وانحياز الثاني، واعتباره موقفاً دوغمائياً ومن ثم التركيز على الفصل بين المفهومين أمراً زائفاً تدحضه الوقائع وترفضه القراءة المتأنية لتطور العلوم. وإذا كان الانحياز يبدو واضحاً، بشكل أو بآخر، في العلوم الطبيعية، كالبيولوجيا وعلم الأجناس، فإنه يتبدى صارخاً فاضحاً، وبحدة أكثر في العلوم الإنسانية، كالسوسيولوجيا والسياسة، بما سنركز عليه في مناقشات أخرى. ما يجرنا إلى تأكيد هذه النتيجة هو اعتقادنا بضرورة توخي الحذر، عند انفتاحنا على الفكر الإنساني، من أجل بناء نهضتنا الجديدة. وأن يؤسس هذا الانفتاح على قاعدة فكرية صلبة، تنطلق من الإرث التاريخي للحضارة العربية، وترفض الانغلاق والعزلة، وعلينا أن ندرك أن العلوم والأفكار وإن كانا نتاجاً لمجتمع ما بذاته، لكنهما لم يتكونا بمعزل عن حالة التواصل مع التيارات الإنسانية الأخرى، على ألا يغيب عنا في كل الأحوال أهمية توطين تلك الأفكار، وجعلها أكثر رحابة. ولنجعل من حضارتنا تواصلاً خلاقاً مع الحضارات والتيارات الفكرية الأخرى، يتداخل فيها الجديد مع القديم، في الوقت الذي يحتفظ فيه كلاهما بهويته وخصوصيته.