ثقافة الصحة .. شيطان البطن في شهر الروح والعرفان
من ابتلاءات هذا العصر الجسيمة أن الثقافة الاستهلاكية باتت هي الثقافة الطاغية عند اغلب المجتمعات، المتقدمة منها والمتخلفة، ومشكلة هذا النوع من هذه الثقافة أنها تفرغ الثقافة من محتواها المعنوي، وبالتالي لا تنتج إلا وعيا زائفا وقناعات هابطة وهموما تافهة وأولويات مقلوبة وتفكيرا سطحيا وغير معمق. وعندما نستقبل شهر رمضان، وهو شهر الله الذي أنزل فيه القرآن فليس من المستغرب أن نستقبله ببطوننا وليس بأرواحنا. فبفضل هذه الثقافة الاستهلاكية صرنا في هذا الشهر الكريم ننشغل بتعمير الموائد وتوفير أنواع الطعام والبحث عن المسليات أكثر من الاهتمام بأنفسنا وأكثر من الاهتمام بتنمية جانبنا الروحي، بل إن أثر هذه الثقافة قد امتد حتى إلى الجانب الروحي وصرنا نهتم بالكم وليس بالأثر. فقراءة القرآن الكريم هي من أعظم أعمال هذا الشهر الفضيل، ولكن أيننا عن القيم القرآنية التي ينطق بها ويدعو إليها هذا الكتاب الإلهي العظيم، أيننا من قيمة الرشد والترشيد ونحن نحوّل هذا الشهر إلى شهر استهلاك مبالغ فيه وإسراف فيه الكثير من الاستهانة بالموارد الغذائية، وأيننا من قيمة المحبة ونبذ الكراهية ومجتمعاتنا باتت محاطة بكل أنواع الكراهية المذهبية والمناطقية والفكرية وغيرها ممن لم يعرفها حتى من سبقونا أو عاصرونا من المجتمعات الأخرى. إن أكبر مصيبة حلت في مجتمعاتنا في وقتنا الحاضر هي الكراهية وعندنا في هذا الشهر العظيم الذي يأتي على المؤمن بالبركة والمغفرة والرحمة فرصة عظيمة لتخليص مجتمعاتنا من هذه الكراهية، فلن ننال من بركات هذا الشهر ولن يحل في قلوبنا نور الله ونحن نعيش الكراهية في نفوسنا، ولن يستجيب الله لنا ويعطينا من كرمه ويمنحنا من فضله ويغدق علينا من رحمته ويتفضل علينا بمغفرته ويمنن علينا بحفظه وإحاطته إن لم نسأله وقد عمرنا قلوبنا بالمحبة وطهرنا نفوسنا من الكراهية.
شهر رمضان هو شهر مقدس والقداسة هي من المفاهيم المهمة والمحورية في الدين، فهناك أوقات مقدسة وأماكن مقدسة وشخصيات مقدسة وأفعال مقدسة وبإمكان الإنسان، ومن خلال طرق الخير والأعمال التعبدية أن يستجلب القداسة للزمن الذي يعيشه وللمكان الذي يتواجد فيه ولا نستطيع أن نفهم هذه الأمور ما لم نفهم معنى القداسة، وكيف يصير المكان مقدسا والزمن مقدسا والشخص مقدسا. فكل الموجودات هي أوعية يصب فيها فيض الله وينزل عليها من نور الله كل حسب قدرها وسعتها، وترتبط القداسة بما تستقبله هذه الأوعية الوجودية من النور الإلهي والفيوض الربانية، فكل ما استقبلت هذه الأوعية الوجودية المزيد من هذا النور الإلهي صارت أقرب من أن تكون وجودات نورانية، فالمقدس هو وجود نوراني بفضل غزارة ما يصله من نور إلهي ورحمة ربانية وإن كان بدرجات متفاوتة. فالمكان المقدس هو مكان مثله مثل غيره من الأماكن، ولكنه مكان وعاؤه الوجودي أوسع من غيره، وبذلك يكون نصيبه أكبر من النور الإلهي النازل على الوجود كله، فعندما يصلي الإنسان المؤمن أو يتواجد في المسجد أو في بيت الله الحرام أو في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإنه يتعرض لهذه الزخات الغزيرة من النور الإلهي والفيوض الربانية، وبهذا يكون الجلوس في المسجد عبادة والصلاة فيه أفضل بكثير من الصلاة في غيره من الأماكن والركعة الواحدة في البيت الحرام والمسجد النبوي الشريف تعادل مئات الآلاف من الركعات في غيره من الأماكن.
وإلى جانب الأماكن المقدسة هناك أوقات مقدسة ولها خصوصيتها من حيث نصيبها من النور الإلهي والرحمة الربانية، فيوم الجمعة هو أقدس من غيره من الأيام وينال الإنسان فيه من الخيرات الإلهية والبركات الربانية أكثر من غيره من الأيام، والساعة الأخيرة من يوم الجمعة هي ساعة مقدسة وأكثر قداسة من الساعات الأخرى؛ لكثرة ما ينزل فيها من النور الإلهي، ولهذا فالإنسان مدعو للتوجه إلى الله فيها لما ينزل فيها من النور الإلهي الكثير. وشهر رمضان وهو شهر الله يعتبر أقدس الأوقات وأقدس الشهور، وهذا يعني أن وعاءه الوجودي هو وعاء واسع جدا جدا، ويكفي لتصور سعته وما فيه من الأسرار والخير الكثير أن الله نسبه إليه بالخصوص واختص به من بين الشهور. ولكثرة ما يستقبله هذا الشهر العظيم من الفيوض الإلهية والأنوار الربانية فإن أمام الإنسان المؤمن فرصة عظيمة للاستزادة من نور الله في هذا الشهر العظيم، فبإمكان كل واحد منا أن يزداد قداسة في نفسه بفضل هذا الشهر العظيم بشرط أن نقبل على الله بنيات مخلصة وبقلوب طاهرة. ولنا أن نتصور أو أن نتخيل عظمة سعة هذا الشهر الفضيل بأنه الشهر الذي فيه ليلة القدر، وهي الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم. فالقرآن الكريم هو حزمة كبيرة وعظيمة من النور الإلهي ولا توجد ليلة من ليالي السنة هي بالوسع والرحابة مثل ليلة القدر لتستقبل هذا الكم العظيم والمبارك من النور الإلهي. ويكفينا قول الله - سبحانه وتعالى - وهو يبين عظمة هذه الليلة، فهي خير من ألف شهر ويبقى لنا أن نتصور مقدار سعتها وكمية النور الإلهي النازل فيها.
شهر رمضان يتيح للإنسان المؤمن الصائم محطة زمنية ليرتقي بنفسه وأن يزداد قداسة عند الله، فالصلاة والعبادات وأعمال الخير في هذا الشهر الفضيل تطير بالإنسان وتقربه من الله أكثر من الأعمال والعبادات في بقية شهور السنة. فالمحظوظ من المؤمنين من يجعل شهر رمضان مشروعه الروحي السنوي للوصول إلى مراتب أعلى في سلم القداسة الإنسانية التي تقربه أكثر فأكثر من الله - سبحانه وتعالى، والسعيد من المؤمنين من يتخرج في جامعة هذا الشهر، وقد اتسعت نفسه وتنورت بالمزيد من النور الإلهي الذي يسمو بالإنسان ويرتقي به وبإنسانيته ليكون إنسانا أكثر قربا من الله وأكثر نورانية مما كان عليه قبل شهر رمضان. فنفس نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ما كان أن يكون أفضل وأشرف المخلوقات والموجودات كلها إلا لسعة وعائه الوجودي الذي أهّله لأن يتلقى من النور الإلهي والفيوض الربانية أكبر قدر ممكن أن يتلقاه مخلوق أو إنسان. فشخص النبي هو وجود نوراني لعظمة ما تلقته النفس المحمدية من نور إلهي، ولا عجب إذاً من هذه النفس الكريمة المتنورة بنور ربها أن تطير بصاحبها إلى أعلى عليين وأن تدنو به قاب قوسين أو أدنى من الله - سبحانه وتعالى.
فالإنسان المؤمن في هذا الشهر الكريم مطالب بأن ينشغل بتوسيع وعاء نفسه لكيلا يحرم من عطاء الله وما يتنزل في ليالي هذا الشهر وأيامه من نور الهي وفيوض ربانية ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قدوة حسنة. فنبينا الكريم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ما كان لنفسه أن تتسع بهذا القدر العظيم وأن يصب فيه هذا السيل المنهمر من نور الله المبارك لولا أنه قد تخلق بأخلاق الله فكان كما وصفه الله - سبحانه وتعالى - بأنه على خلق عظيم. فالأخلاق الربانية هي التي توسع نفس الإنسان وبتوسعها يزداد نصيبه من النور الإلهي والفيوض الربانية. فمشروع الإنسان المؤمن في هذا الشهر هو مشروع أخلاقي، مشروع للمزيد من الارتقاء بأخلاقنا وقيمنا الأخلاقية على المستويين الفردي والاجتماعي. فلن نحصل على بركات هذا الشهر العظيمة حتى لو ازددنا فيه ذكرا وعبادة ما لم نجعل نفوسنا أكثر سعة بالأخلاق والقيم الربانية لتكون مؤهلة لاستقبال ما تأتي به هذه العبادات، وهذا الذكر من نور إلهي هو نازل بغزارة في هذا الشهر العظيم.
ومن حظ الإنسان أن يحظى بأكبر قدر يستطيع أن يحصل عليه من النور الإلهي في هذا الشهر العظيم وأن يتيح، وهذا مهم جدا، لهذا النور المبارك أن ينتشر وأن يمتد إلى باقي طبقات ومكونات وجوده. فمن المهم أن نتيح لما نحصل عليه من نور إلهي أن يعبر لنفوسنا، وبذلك نزداد تقوى ونزداد قربا من الله - سبحانه وتعالى، ولن يعبر هذا النور الإلهي وأبواب النفس مغلقة، ولن يمتد هذا النور وهناك حواجز وعوائق تحرم الإنسان من وصول هذا النور إلى النفس والحصول على بركات أثره. فأبواب النفس التي يعبر منها نور الله هي مرة أخرى الأخلاق الربانية، وبالتالي فلنشرع أبواب نفوسنا في هذا الشهر الفضيل باكتساب المزيد من الأخلاق الحسنة حتى يعبر لنفوسنا ما نطمح أن نحصل عليه من هذا النور، وأن نجني الخير لنفوسنا من آثاره المباركة، ولنجتهد أيضا في لجم شهواتنا وأهوائنا ونزواتنا في هذا الشهر الكريم؛ حتى لا يكون هناك ما يعترض طريق هذا النور من الوصول إلى أعماق أعماق نفوسنا فتطهر نفوسنا وتستنير حياتنا بفضل هذا النور الواصل ألينا.
ومن هنا تأتي أهمية ثقافة البطن للاستفادة من خيرات هذا الشهر العظيم، ولعل الحكمة من وراء فريضة الصيام في هذا الشهر المبارك هي لإتاحة الفرصة للمؤمنين لينالوا المزيد من فيوضات الله النازلة في هذا الشهر. فإذا كانت بطوننا في غفلة عنا في بقية الشهور فليكن زمامها بأيدينا في هذا الشهر الكريم، ولنجتهد في ترشيد رغباتها وطلباتها في هذا الشهر حتى لا نحرم أنفسنا من خيره وبركاته. هذا الكلام لا يعني أبدا أننا نستنكر ما نقوم به من بعض المظاهر والعادات التي تعبر عن فرحتنا واحتفائنا بقدوم هذا الشهر المبارك، ولكن المستنكر هو أن نقلب المسألة رأسا على عقب، فبدل أن يكون شهرا لأرواحنا نجعله شهرا لبطوننا وبدل أن يكون شهرا للانشغال بنفوسنا وبترقيتها أخلاقيا وقيميا نجعل منه شهرا للتسلية الهابطة والانغماس بالملهيات والأمور التي لا تزيدنا إلا تفاهة وانحطاطا، وفقنا الله وإياكم للتنور بأنوار الله في هذا الشهر العظيم، وللحديث تتمة.