ثورة الأسواق
في الوقت الذي تشهد فيه دول عربية ثورة على السياسة فيما أطلق عليه (الربيع العربي)، تشهد أوروبا وبالتحديد دول منطقة اليورو ثورة على الاقتصاد، أو ما يمكن أن أطلق عليه (الخريف الأوروبي). الحدثان متشابهان، لكنهما مختلفان في النتائج. فالأول يشهد بزوغ قوى سياسية جديدة نتيجة ثورة الأفراد التي عاشت تحت القهر سنين عديدة، بينما الثاني يشهد ثورة الأسواق التي لا تمهل طويلاً. قد يكون من الممكن أن يخفي الساسة الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية عن الأفراد، لكن لا يمكن أن يحدث ذلك عندما يكون مكان التقييم الأسواق المالية. فالأسواق المالية تأخذ كل معلومة وتترجمها إلى أرقام تمثل معدل المخاطرة وتخرج بنتيجة مضمونها إما الربح أو الخسارة.
الأسبوع الماضي شهد التوصل أخيراً إلى اتفاق بشأن رفع سقف الدين الأمريكي، لكن الأسواق المالية لم يتح لها أن تتمتع بهذا الخبر كثيراً، حيث بدأت بالتراجع مجدداً على أثر بوادر أزمة أخرى في أوروبا. حيث بدا أن المستثمرين يضعون رهانات صعبة على إمكانية لحاق كل من إيطاليا وإسبانيا - وهما ثالث ورابع اقتصاد في منطقة اليورو - بركب دول أوروبا الأخرى التي عانت مشكلات اقتصادية كبيرة Peripheral Europe كاليونان وأيرلندا والبرتغال. وذلك بدا واضحاً بالنظر إلى الارتفاع الكبير في معدلات العائد على السندات الإيطالية والإسبانية، حيث بلغت يوم الثلاثاء الماضي 6.25 في المائة و6.45 في المائة في كل منهما على التوالي، وهو ما يعكس حالة البيع الكبيرة لهذه السندات، التي أدت إلى انخفاض أسعارها، وبالتالي ارتفاع العائد الممثل بنسبة سعر الفائدة الاسمي إلى السعر.
الوضع يعكس حالة خطيرة يجب التعامل معها بشكل عاجل لأن الاقتصادين الإيطالي والإسباني حجمهما كبير مقارنة باليونان وأيرلندا والبرتغال، وسيكون من الصعب احتواء الأزمة الناتجة عنهما في حال حدوثها. أضف إلى ذلك أن آثار الأزمة قد تنتقل إلى دول أوروبية كبرى مثل فرنسا، من خلال القطاع المالي الذي سيكون القناة الرئيسة لنقل هذه الأزمة من دولة إلى أخرى. مرة أخرى يحتاج الأوروبيون إلى أن يتعاملوا مع هذه المشكلة بطريقة أكثر حزما، كي ينعكس ذلك على ثقة الأسواق المالية، وإلا فإن الأسواق لن ترحم. رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني ألقى كلمة بعد إغلاق الأسواق يوم الأربعاء الماضي، وبدل أن يعزز الثقة بقدرة بلاده على التصدي لهذه المشكلة، شن هجوماً على الأسواق المالية، متهما إياها وبالتحديد المضاربين، بأنهم لم يقيموا بشكل صحيح وضع الاقتصاد الإيطالي.
يستطيع القادة السياسيون في حالة الثورات السياسية إلقاء اللائمة على أي طرف من الأطراف أملاً في الخروج من المأزق، لكن في حالة ثورة الأسواق لا يمكن أن يتم ذلك، لأن الأسواق ستعمل وفقا لما تمليه عليها أرقام الاقتصاد، ولن يؤدي هجوم القادة السياسيين عليها إلا إلى مزيد من صب الزيت على النار. الاقتصاد الإيطالي ينمو بمعدلات متواضعة لم تتجاوز 1.3 في المائة في عام 2010، ولا يتوقع أن تتجاوز 1 في المائة في هذا العام. الدين العام تجاوز 120 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وإذا ما قارنا معدل النمو الاقتصادي بمعدل العائد الذي يطلبه المستثمرون حاليا على الدين الذي تصدره إيطاليا، فإن ذلك يوحي بمشكلة في استمرار زيادة هذا الدين. وبالطبع الدين العام أتى نتيجة لمراكمة عجز الميزانية لعدد من السنوات، حيث تقترض الحكومة أكثر من نسبة 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لتمويل نفقاتها، أضف إلى ذلك معدل البطالة الذي ما زال في ارتفاع ويتوقع أن يتجاوز 8 في المائة خلال عام 2011.
إسبانيا هي الأخرى تعاني مشكلة ارتفاع الدين العام عن المعدلات المتفق على الالتزام بها في إطار الاتحاد النقدي الأوروبي، حيث تجاوزت نسبة الدين العام 67 في المائة، كما أنها تعاني أعلى معدلات البطالة في أوروبا، التي تجاوزت ما نسبته 20 في المائة، إضافة إلى معدل نمو ضعيف لن يتجاوز 0.8 في المائة هذا العام. لكن المشكلة الأساسية لإسبانيا تتمثل في ارتفاع نسبة مديونية القطاع العائلي والقطاع الخاص (84 في المائة و123 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي)، ما يعني أن أي مشكلة في الاقتصاد قد تؤثر في قدرة الأفراد والمنشآت على الاقتراض أو سداد قيمة قروضهم، ومن ثم ستتحول إلى أزمة في القطاع المصرفي ككل.