محاكمة مبارك وتحديات العدالة الانتقالية في مصر
يمكن القول إن محاكمة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ونجليه وكبار معاونيه، التي بدأت وقائعها يوم الثالث من آب (أغسطس) 2011 تمثل لحظة فارقة في تاريخ مصر والوطن العربي الحديث. ولعل متابعة الخطاب الإعلامي لهذه المحاكمة يعكس حقيقة الحدث وبعض دلالاته القانونية والسياسية. فقد وصف بعض الكتاب هذا الحدث غير المعتاد بأنه يمثل ''محاكمة القرن''. على أن رمزية وجود حاكم مصر ''الفرعون'' في قفص الاتهام تعني في أبسط معانيها حدوث تحول لا يُستهان به في الثقافة السياسية السائدة في مصر منذ عصور الدولة القديمة.
لقد انشغل المفكر المصري الراحل جمال حمدان كثيرًا بتحليل مفهوم ''الفرعونية السياسية'' التي كانت تشكل عماد الثقافة السياسية السائدة في مصر منذ عهد الفراعنة. فإضفاء هالة من القدسية على الشخص الحاكم سواء كان ملكًا أو أميرًا أو رئيس جمهورية كان أمرًا مقبولاً، بل معتادًا في الإدراك الشعبي العام. وأذكر أن أحمد بهاء الدين في كتابه الأشهر ''محاوراتي مع السادات'' ينسب إلى الرئيس الراحل أنور السادات اعترافه بأنه هو وعبد الناصر آخر الحكام الفراعين في مصر. يعني ذلك أن مجرد محاكمة رئيس مصري أمام قاضيه الطبيعي يمثل نهاية لهيمنة الفرعونية السياسية في مصر، ويؤسس لبناء مصر جديدة تعلي من شأن دولة القانون والنظام.
دلالات محاكمة مبارك
على الرغم من أهمية محاكمة مبارك وكبار المسؤولين من أركان نظامه السابق، فإنه لا يمكن إنكار وجود حالة من الانقسام في صفوف المصريين إزاء محاكمة رئيسهم المخلوع. فثمة قطاع شعبي لا يزال ينظر إلى مبارك نظرة تقدير وإجلال بوصفه زعيمًا وطنيًا. وقد سعى هؤلاء بشتى الطرق للتعبير عن أنفسهم فدشنوا صفحة على شبكة التواصل الاجتماعي تحت عنوان ''آسفين يا ريس''، وما فتئ هؤلاء يخرجون علانية للتعبير عن قناعاتهم السياسية بتأييد مبارك.
وثمة فريق آخر من المصريين، وإن اعترفوا بأخطاء وفساد نظام مبارك، إلا أنهم أكثر ميلًا للتصالح معه وعدم الانتقام منه؛ نظرًا لكبر سنه وحالته الصحية. ولعل ذلك الشعور التصالحي يعكس طبيعة الشخصية المصرية التي تميل إلى العفو والتسامح ونسيان مظالم الماضي. ومع ذلك فإن القطاع الأكبر من المصريين يميل إلى ضرورة تحقيق العدالة والقصاص لدم الشهداء من القتلة، وعلى رأسهم الرئيس المخلوع حسني مبارك.
ونستطيع في هذا السياق أن نشير إلى عدد من الدلالات المهمة لمحاكمة مبارك وأركان نظامه وذلك على النحو الآتي:
أولاً: إعطاء قدر كبير من الثقة الشعبية في إدارة المرحلة الانتقالية، ونفي الصلة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم في مصر بعد الثورة وبين النظام السابق؛ إذ تشير المؤشرات العامة إلى أن المجلس العسكري قد اكتسب قدرًا كبيرًا من المصداقية لدى الجماهير، حيث أعلن أنه لا يتدخل في أعمال السلطة القضائية، وأن محاكمة مبارك وغيره أمر يخص القضاء وحده دون سواه.
ثانيًا: المساهمة في تحقيق أهداف ثورة 25 يناير التي يأتي على رأسها محاكمة رموز النظام السابق وعلى رأسهم مبارك، ولعل رؤية الرئيس المخلوع في قفص الاتهام أمام قاضي المحكمة يخفف من غلواء وشطط بعض شباب الثورة الذين تمادوا في انتقادهم لإدارة العسكر، بل مطالبتهم في بعض الأحيان بإقالة المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري ووزير الدفاع بحسبانه من بقايا النظام البائد.
ثالثًا: إعلاء مفهوم دولة القانون؛ إذ إن الدلالة القانونية الأبرز لمحاكمة مبارك تتمثل في أنه لا أحد فوق القانون، وأن دولة القانون في مصر هي أحد الملامح الرئيسة لمرحلة الجمهورية الثانية بعد ثورة يناير. ولعل عدم وجود محاكم استثنائية يتفق وطبيعة الثورة المصرية التي رفعت شعار ''سلمية سلمية''، وطالبت بتأسيس الدولة المدنية في مصر المحروسة، التي تقوم على ركائز المواطنة والمساواة والعدالة للجميع.
التداعيات الإقليمية والدولية
ثمة جوانب إيجابية يمكن أن تترتب على محاكمة مبارك وأعوانه، وتؤثر في عمليات التغيير والتحول الديمقراطي التي تشهدها المنطقة العربية ولا سيما في الدول التي شهدت تعثرًا في مسار الثورات الشعبية مثل اليمن وليبيا وسورية؛ إذ يرى بعض الكتاب أن محاكمة مبارك تقدم درسًا للحكام الطغاة والمستبدين الذين يتصورون أن بإمكانهم الإفلات من العقاب وعدم إمكانية محاكمتهم. وربما يعزز ذلك من مبدأ المساءلة والشفافية في إدارة الشأن العام. وهو ما يفضي في نهاية المطاف إلى تحقيق الدولة الديمقراطية.
وأحسب أن أحد التداعيات الكبرى لمحاكمة القرن تتمثل في سقوط عدد من المحرمات في الفكر السياسي المصري والعربي، وعلى رأس ذلك مبدأ قدسية الحاكم؛ إذ أصبح المواطن العربي والمصري أكثر جرأة ووعيًا للمطالبة بحقه في محاسبة من يحكمه، والنظر إلى الحاكم بوصفه خادمًا لشعبه وراعيًا لمصالحه، وهو الأمر الذي يؤسس لمقولة أبي بكر الصديق حينما وَلِيَ الخلافة وتوجه مخاطبًا المسلمين بقوله: ''أيها الناس: إني وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم. إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني''. تلك هي الثقافة السياسية الجديدة التي ينبغي لها أن تسود في النظم التي تشهد تحولات سياسية هائلة، وتحاول أن تؤسس لبناء ديمقراطية حقيقية.
ومع ذلك هناك مَنْ يتخوف من الآثار السلبية لمحاكمة مبارك على مستقبل التحول الديمقراطي في مناطق كثيرة من العالم. فالرئيس النيجيري الأسبق أولسيجون أوباسنجو انتقد محاكمة مبارك وعَدَّها إهانة بالغة له من ''خلال وضعه على سرير طبي في قفص مغلق مثل الدجاجة''. وطبقًا لهذا الرأي فإن هذه النهاية المأساوية لمبارك ستعقد مسألة البحث عن خروج آمن لأمثاله من الزعماء في إفريقيا والوطن العربي. إذ يمكن لهؤلاء أن يتمسكوا بالسلطة حتى آخر رمق في حياتهم، واعتبارها مسألة حياة أو موت لهم. ولعل حالة الزعيم الليبي معمر القذافي تقدم مثالًا واضحًا على ما نقول.
العدالة الانتقالية وتحدياتها
يمكن النظر إلى آليات العدالة الانتقالية بوصفها الوسيلة القانونية الناجعة لمعالجة أخطاء الماضي في حالة التحول من النظم الاستبدادية إلى الديمقراطية. إنها بمنزلة منهج للتعامل مع الانتهاكات المنهجية والعامة لحقوق الإنسان بغرض تعويض الضحايا وتعزيز فرص التحول السلمي في النظام السياسي.
وعليه؛ فإن مفهوم العدالة الانتقالية يسعى إلى تحقيق هدفين متلازمين: أولهما ضمان تحقيق مستوى معين من العدالة لضحايا النظام السابق. وثانيًا: تعزيز فرص السلام والديمقراطية والمصالحة. ولا يخفى أن تحقيق هذين الهدفين يتطلب الجمع والمواءمة بين اعتبارات العدالة الجنائية والتصالحية والاجتماعية.
وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم العدالة الانتقالية لا يعني أنها تمثل إجراء استثنائيًا، وإنما هي عدالة ناجزة تتكيف ومقتضيات الظروف غير العادية التي تشهدها المجتمعات المتحولة، وتريد أن تلتزم بمبادئ وقيم حقوق الإنسان. ويرجع شيوع هذا المفهوم إلى فترة ما بعد الحرب الباردة في أواخر ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، وذلك بسبب التحولات السياسية التي شهدها العديد من مجتمعات أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية. وكان السؤال الملح عندئذ هو كيفية التعامل مع قضايا انتهاكات حقوق الإنسان في ظل النظم السابقة في الوقت نفسه الذي يتم فيه التأكيد على عملية التحول نحو الديمقراطية.
ولا شك أن تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية بهذا المعنى على الحالة المصرية يواجه تحديات ثلاثة أساسية، يتمثل أولها في ضرورة أن يصاحب العدالة القضائية أو آليات الحقيقة والمصالحة تحولًا حقيقيًا نحو حكومة ديمقراطية تقوم على مبادئ الشفافية والمساءلة؛ إذ يحاول بعض المسؤولين في المرحلة الانتقالية الاعتماد على منهج وآليات النظام السابق نفسه في التحول، وهو ما يدعو إلى إثارة التساؤل حول شرعية ومصداقية الحكام الجدد. أما التحدي الثاني فإنه يشير إلى أن عملية تحقيق العدالة الانتقالية تستغرق وقتًا طويلاً، كما أنها باهظة التكلفة. وعليه؛ فإن على الحكام الجدد أن يؤكدوا خصوصية عملية التحول وعدم الرضوخ لأي ضغوط خارجية ولا سيما من قبل الدول المانحة. ولعل ذلك يرتبط بضرورة اكتساب الثقة من المواطنين إزاء عمل المؤسسات العامة كافة. ويشير التحدي الثالث إلى ضرورة شمولية وفعالية العدالة الانتقالية، فالهدف النهائي ينبغي أن يكون تحقيق تصالح المجتمع مع ماضيه، وتوفير نوع من التعويض للضحايا، بما في ذلك تقديم الفدية أو إعلان الحقيقة والاعتذار العام لهم. إن مسألة العدالة الانتقالية بالمعنى المشار إليه تعد من القضايا المركزية المرتبطة بتحديد مستقبل مصر بعد الثورة. فلا يخفى أن محاكمة الذين أفسدوا الحياة السياسية في مصر قبل ثورة يناير يضمن الحيلولة دون إعادة إنتاج نظام الاستبداد السابق، ولو من خلال أشكال ووجوه جديدة. وعلى صعيد آخر، يمكن لإجراءات العدالة الانتقالية غير المنضبطة أن تدفع إلى هيمنة منطق الإقصاء والانتقام، وهو الأمر الذي يعوق تقدم المرحلة الانتقالية، ويؤخر ولادة النظام الديمقراطي. ويمكن في هذه الحالة الاستفادة من تجارب الدول الأخرى لأخذ الدروس والعظات.
فهل يمكن القول إن ظهور مبارك في قفص الاتهام يمثل خطوة مهمة على طريق تحقيق العدالة الانتقالية الناجزة والتحول الديمقراطي السليم في مصر الجديدة؟ في اعتقادي أن الأمر يدعو إلى قدر معقول من التفاؤل حول المستقبل.