داود أوغلو: قدمنا العرض الأخير.. وفرص دمشق محدودة

زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو لدمشق هذه المرة كانت واضحة تماما وحازمة وضمن ظرف وسياق دولي بدت مجرياته العملية أكثر وضوحا مما مضى، وعنوانه الإصلاح الحقيقي وليس الوعود، وخلال أسبوعين لا أكثر، ولم يسمع أوغلو حزما من دمشق كما رغبت وأكدت بثينة شعبان، بل إن أوغلو كان صريحا للغاية مع القيادة السورية، غير أن شعبان حرصت على عد أنفاس كيسنجر تركيا وقراءتها جيدا، وحرصت على أن تقول له في معرض الحديث معه قبيل اجتماعه بالأسد: إذا كانت زيارتكم لإجراء مساومة فلن نساوم، حيث توقعت القيادة السورية أن تقدم تركيا عرضا للرئيس يضمن انتقالا سلميا للسلطة ويضمن تحولا ديمقراطيا في سورية، وإن جئتم للقول إنكم جاهزون للحرب تحت مظلة مجلس الأمن الدولي، فإن سورية جاهزة وستعمل على تفجير المنطقة برمتها.
اجتماع أوغلو بالأسد استمر زهاء أربع ساعات أوضح فيه الأتراك أن صبرهم ودعمهم نفد تماما، وأن الأمريكان ليس أمامهم من خيارات كثيرة غير دعوة الأسد للتنحي، في وقت نصحت فيه طهران الأسد سرا بضرورة الاستجابة العاجلة للمطالب التركية والتعامل مع الرسالة الأمريكية، وقالت المصادر إن أوغلو قال للأسد إنك لن تقنع العالم بأن ما يجري في سورية سببه خارجي وأن الاحتجاجات اليومية والقتل والاعتقال يؤكد أن ثمة إصرارا شعبيا على المقاومة وعلى استرداد الحقوق المدنية، وأن عليك أن تقنع شعبك بالوعود الإصلاحية قبل أن يقتنع العالم بأنك تقدمت خطوات للأمام، فثمة عدم ثقة بينك وبين شعبك وزادها الدم طينا، ولا مجال لتخفيف حدة الضغط الدولي إلا بالاستجابة الحقيقية لمطالب الشعب السوري، وأن تدرك القيادة السورية أن الواقع السوري تغير والدولة الأمنية تفسخت أبوابها وفتحت نوافذها بالقوة للكرامة والحرية، وقال أوغلو إننا نرصد يوميا تفاعلات الشعب السوري. وفي هذا الصدد يقول مفكر سوري معروف إننا كنا طوال 40 عاما كما (الحيوانات) نبحث عن لقمة الخبز بعدما ذهبت كرامتنا، والاحتجاجات هدفها البحث عن الكرامة.
أوغلو حمل رسالة محددة المعالم وأكد للرئاسة السورية أن كل الممكنات السياسية لبقاء النظام السياسي السوري أصبحت ضئيلة جدا ومحدودة، وأن التاريخ سيكتب كيف تصرف الرئيس مع شعبه في لحظة حرجة وحاسمة، وأن المجتمع الدولي ينتظر، وانتظاره هذه المرة لن يطول كثيرا، وقال أوغلو أمامكم خيارات متاحة ومحدودة ولا تقبل التسويف والوعود، بل تحتاج إلى لحظة صادقة واعتراف بالأزمة والاعتراف بأن الحل الأمني لن يؤدي إلى نتيجة غير الفوضى، وقال أوغلو: عليكم إصدار عفو رئاسي شامل وتطبيقه قولا وفعلا تعترف به الحكومة السورية أن ثمة فاصلا تاريخيا ستشهده سورية وأن يكون هذا العفو ليس منة وإنما يكون اعترافا بالحقوق المدنية وجزءا من عملية الإصلاح، وإطلاق كل المعتقلين السياسيين ومن اعتقلوا على أساس هذه الأزمة دون شروط أو إملاءات سياسية أو تواقيع تؤكد عدم مناهضتهم للحكم ودعم الاحتجاجات، وضمان عودة النازحين إلى ديارهم وقراهم دون التعرض لهم ومحاكمتهم أو اعتقالهم أو تصفيتهم بأي تهمة وجريمة، والإعلان رسميا عن قبول الرئاسة السورية لانتخابات نيابية ورئاسية مبكرة وتحت إشراف دولي بعد أن تتفق القوى السياسية كافة وتبدي ملاحظاتها على قانوني الانتخابات والدوائر الانتخابية والرئاسية، وضمانة العمل الحزبي دون قيود، وعودة الجيش السوري إلى الثكنات العسكرية فورا، وعدم محاكمة من رفض إطلاق النار على الأهالي، والضغط على الحكومة اللبنانية للتعاون مع ملف المحكمة الدولية، وفتح سورية أمام مؤسسات الإعلام العالمية وزيارة حماه ودير الزور، والتعهد بعدم قطع الإمدادات التموينية والغذائية والمياه والكهرباء عن مناطق الاحتجاج، غير أن أوغلو لمس وجود إصرار سوري على أن من مهمة الدولة حماية الأمن والاستقرار ومحاربة الخارجين عن القانون.
وقالت المصادر السورية إن تقييما سوريا تم لزيارة أوغلو ورسائل أردوغان وللوضع الدولي والإقليمي توصل إلى أن الأمور تتجه نحو إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يقر مزيدا من العقوبات على سورية وأن القرار الدولي قد يتضمن حظر الطيران وقصف الدبابات حال قيامها بمحاصرة المدن السورية، واحتمالية تدخل عسكري عبر الحدود مع تركيا، وقالت المصادر السورية إن السرعة في تبلور الموقف الدولي والإقليمي بشكل عاجل تؤكد بما لا يقبل الشك أن زيارة أوغلو الأخيرة والإجراء الخليجي، وزيارة وفد مشترك جنوب إفريقي - برازيلي - هندي، وتصريحات وزير الخارجية المصري بأن الإصلاح لا يمكن أن يبنى على الدماء، وأن سورية تجاوزت مرحلة الخيار السلمي، وستتبعه بالطبع سلسلة إجراءات عاجلة كأن تسحب عدد من الدول العربية بعثاتها الدبلوماسية وتحمل القيادة السورية نتيجة ما يجري، خاصة أن دول الخليج والسعودية تحديدا كانت قد بعثت برسائل ومبعوثين للأسد طوال الفترة الماضية داعية إياه للاستجابة الحقيقية لمطالب المواطنين وعدم اللجوء إلى القوة، ما أدى إلى أن تعلن السعودية على لسان خادم الحرمين الشريفين موقفها مما يجري داعية إلى استخدام العقل والحكمة بديلا عن الفوضى وصون دماء وأعراض السوريين، كما أن دمشق ترى أن تسارع الأحداث سيدفع واشنطن لاتخاذ مزيد من الإجراءات العقابية ذات الطابع الاقتصادي وعقابية ذات طابع سياسي تشمل الرئيس السوري بشار الأسد.
وقالت المصادر السورية إن هذا التقييم أسهم في اتخاذ إجراءات عاجلة عدة، منها التقييم السوري الخاطئ لاستقالة قيادات الجيش التركي حيث اعتبرته القيادة السورية أنه يحمل في ثناياه رفض القيادات العسكرية التركية توجهات أردوغان ناحية سورية، ولهذا وجدت دمشق أن الفرصة تبدو ميسرة لاقتحام حماه ودير الزور وفرض السلطة بالقوة العسكرية، في وقت نقلت فيه مصادر استخباراتية عن شقيق الرئيس السوري قوله لن نتنازل عن الحكم لو تطلب ذلك سحق حماه ودير الزور عن بكرة أبيها، كما قام الجيش السوري بنشر لواء عسكري على الحدود التركية - السورية ودخول إدلب الحدودية، في وقت أكدت فيه صحيفة "ملليت" التركية أن أنقرة نشرت لواءين عسكريين على الحدود مع سورية، وأضافت المصادر أن دمشق قامت بسلسلة من الإجراءات الوقائية تمثلت في غض الطرف عن تزويد بعض المناطق بالسلاح، واستخدام مزيد من القوة المفرطة بما يوضح أن الحل الأمني سيزداد حدة مع حدة الضغوط الدولية، خاصة أن الاحتجاجات السورية ظلت أمينة لثلاثة لاءات تمثلث بلا للطائفية ولا للقوة المسلحة ولا للتدخل الخارجي، وهي لاءات تحاصر القرار الأمني السوري وتجعله مقيدا، فعدد القتلى لا يواجه بالنقيض منه في محاولة للاقتراب أكثر من نظرية حافة الهاوية ودفع البلد إلى مصير يبدو مجهولا، أكد عليه داود أوغلو بأن دمشق ماضية إلى لحظات حرجة.
وأضافت المصادر السورية أيضا أن هناك تقديرات أمنية تجري للمرحلة التالية من المواجهة وضعت تقييما عكسيا حول الشخصيات القيادية والأمنية والعسكرية السورية، حيث تتوقع هذه التقديرات أن يلجأ عدد من الدبلوماسيين السوريين وتحت ضغط دولي وداخلي لإعلان الانشقاق والتبرؤ من حزب البعث والسلطة السورية، وإعلان قياديين في الداخل رفضهم استخدام القوة والعنف، وأشيع في الأوساط السورية أن إحالة وزير الدفاع وتعيين آخر كان ضمن هذا السياق، إضافة إلى إعادة اللواء آصف شوكت إلى الواجهة القيادية يوحي بأن هناك عمليات ترتيب قيادية لمرحلة قادمة، ويوحي بوجود مخاوف من احتمالية قيام عسكريين برفضهم لاستخدام القوة وبحراك عسكري داخلي، وهو ما يقال عن أن وزير الدفاع السابق كان بالضد من استخدام القوة ودخول الجيش للمدن، وأنه اتهم بعلاقته بالملحق العسكري الأمريكي في دمشق، خاصة أن السفير الأمريكي استأذنه في الذهاب إلى حماه ولم يطرق باب الخارجية السورية كما هو معروف.
كما أن هناك سلسلة من الإجراءات والترتيبات الإدارية والعسكرية كإلحاق قيادة الفرقة الثالثة برئاسة الجمهورية لا برئاسة هيئة الأركان، وإن كانت هذه التحركات تمليها الظروف والمعطيات الداخلية، إلا أنها تأتي في سياق الحل الأمني للمشكلة ولا تؤكد وجود بوادر للمزاوجة بين مساري الحل السلمي والأمني، كتقديم سلسلة من الإصلاحات الحقيقية، خاصة أن هذه الخطوة (السلمية) جاءت متأخرة وليست عاجلة ولا تعكس دقة الموقف ولا تمتلك أرضية من الثقة، بقدر ما تعكس أن القيادة السورية لديها إدراكات معينة تفيد بعدم احتمالية تعرضها لتدخل خارجي، لما قد ينجم عنه من صراع إقليمي، لكن مجرد توالي الضغوط وإرهاصاتها وتكلفتها الدامية والمادية تضعف من عضد السلطة وتقوي من الحراك الشعبي، في ظل حركة تنسيق سياسية أمريكية - تركية حول الوضع في سورية، خاصة بعد الاجتماع الأمني الخارجي التركي وتقييمه الوضع في سورية، ووصول فريدريك هوف المسؤول عن الملف السوري في الخارجية الأمريكية إلى أنقرة، وعودة السفير الأمريكي لدمشق ومواصلته زياراته للمدن السورية ولقاءاته بالمحتجين.
المشهد السياسي يؤكد أن سيناريو الحصار الكامل سيكون أول معالم القرارات الدولية وستلتزم به الدول لتنفيذه، والملاذ الآمن حال لجأت سورية للخيار الأمني ولم تستجب للمطالب والرسائل التركية والأمريكية، وأن القرار سيلزم الأمم المتحدة بالقيام بإدارة الأوضاع المتعلقة بالاقتصاد السوري لضمان وصول الدعم الدولي للمواطنين السوريين، وإيجاد مناطق عازلة على الحدود التركية والأردنية يمنع دخول الجيش لها، وأبلغ أوغلو الأسد أن تركيا لن تصمت على ما يجري، وإن اضطرها ذلك إلى الانضمام إلى الجهد الدولي فإنها ستفعل خدمة واحتراما لحق الشعب السوري، وستعلن أن الرئيس الأسد فقد شرعيته. وترجح المصادر التركية أن الاستجابة السورية ستكون صورية كالعادة، وأن الانسحاب من المدن سيكون شكليا، وبذلك فإن الأسد يلعب بالنار، غير أن مصدرا تركيا قال إن الأسد الآن في وضع لا يسمح له بالتراجع وتقديم مزيد من التنازلات لأن المطالب أصبحت أكبر مما كانت عليه في السابق، وأن الاحتجاجات والتنسيقيات التي تجاوز عددها 600 تنسيقية بدأ يتوحد ويعمل ضمن رؤية ترى أن البيئة الدولية مهيئة أكثر من أي وقت مضى للتغيير.
وتشير المصادر التركية إلى أن القيادة المصغرة الأمنية في سورية ناقشت آفاق الأزمة والسيناريوهات المحتملة، ولهذا فقد دعت عددا من قدامى العسكريين ممن خدموا في معية الأسد الأب وعدد من قدامى البعثيين الذين ينتقدون الوضع الحالي والعلاقة بين رجال البزنس والسلطة، دعتهم لتكوين تيار وطني داخلي ينتقد الأوضاع السياسية ويدعو إلى تكوين حكومة إنقاذ وطنية تحمل برنامجا إصلاحيا كتيار إصلاحي من رحم النظام السياسي، قد تفوضه السلطة لتشكيل حكومة وحدة وطنية للقيام بإصلاحات سياسية محددة، حيث طالب أعوان هذا التيار بعودة الجيش إلى الثكنات ومحاكمة رموز الفساد والتعهد بانتخابات برلمانية نزيهة وبمراقبة دولية، وإطلاق سراح المعتقلين وإنشاء لجنة وطنية للنظر في الجرائم التي ارتكبت بحق المواطنين والجيش السوري، وجاء ظهور هذا التيار كمحاولة لتقديم رؤية من الداخل ومقبولة شعبيا، غير أن ما قطعته الاحتجاجات والتنسيقيات من مسافة ناحية تحقيق أهدافها تجاوز كل الأطر الرسمية والأهلية لأن الحل دائما يكون في البداية.
اللافت للانتباه أن ثمة حراكا مصريا جديدا وبلغة جديدة أيضا وموقفا خليجيا موحدا وزيارة لوزير الخارجية المصري لتركيا وألمانيا، وزيارة للرئيس التركي عبد الله غل إلى جدة واحتمالية سحب دول الخليج سفراءها بعد اجتماع سيعقد لوزراء خارجية المجلس، وصمت إيراني مطبق ومطالبات خجولة بالإصلاح، وترهيبات عون من احتمالية عودة سورية إلى لبنان، غير أن المعارضة السورية وفي ندوة عقدت في دبي أخيرا برعاية الدكتور عزمي بشارة مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ترى أن وعود الإصلاح انتهت إلى غير رجعة، لأن الأزمة أزمة في صلب النظام السياسي، وأن العطار لا يصلح ما أفسده الدهر لأن الأنظمة المستبدة حسب وجهة نظر بشارة لا تملك القدرة على الاستمرار، وأن سورية لن تشهد نموذجا مشابها لما جرى في العراق وليبيا، وأن الاحتجاجات الشعبية باحثة عن الكرامة والحرية وليس عن أطر أيديولوجية، فيما توقع جمال باروت أن السيناريوهات المتوقعة ثلاثة، أولا استمرار المشهد الراهن، وثانيا الحرب والانقسام الطائفي، وثالثا بتسوية ديمقراطية وتاريخية تؤسس لجمهورية جديدة .. فهل تمر سورية بعد الأزمة إلى بوابة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية؟ هذا السؤال تجيب عنه دمشق خلال الأسبوعين القادمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي