العلاقات التركية ــ الإسرائيلية بين الاعتذار وتجنب الأضرار
تطورات مهمة تجري على الساحة التركية تتمثل في تقديم رئيس الأركان التركي وقادة القوات البرية والبحرية والجوية استقالاتهم مما يؤكد عملية تحييد العسكريين، التي كانت بمثابة شوكة في ظهر الشعب التركي منذ التحولات الأتاتوركية التي صحبتها هيمنة عسكرية بحجة حماية الإرث الكمالي، وعلى امتداد ما يقرب من 80 عاما أوقع العسكريون تركيا في مآزق على رأسها الخنوع المهين لأمريكا وفتح قنوات كثيرة للتعاون والصداقة مع إسرائيل. لذلك تلقت إسرائيل أنباء تصدع العسكريين بالاندهاش والضيق، وبدأت وسائل إعلام إسرائيل تتحدث عن تحطيم البناء الأتاتوركي.
واللافت في التطورات التركية أن سياسة تركيا الخارجية والأمنية ستشهد تغيرات جوهرية خاصة علاقاتها بإسرائيل. ويأمل الإسرائيليون في أن تستمر علاقات الصداقة والتعاون خاصة في مجال الأسلحة والمجال الاقتصادي. وقد اتضح أمر نهائي لإسرائيل، وهو أن جماعة الضباط الذين وضعتهم واشنطن لتخويف ومراقبة وتسيير الحكومة التركية قد انتهى عهدهم، ولن يستطيع العسكريون بعد اليوم وحسب إرادة الشعب التركي أن يمارسوا أي لون من الضغط على أنقرة. ويصر رجب طيب أردوغان على أن إنجازه بإبعاد الجيش يعتبر عملا تاريخيا لا ينبغي التنازل عنه، ويجب ألا يسمح للجيش أن يؤثر في الساحة السياسية التركية.
وإزاء هذه التطورات يهرع الإسرائيليون إلى البحث عن سبل للتقارب مع تركيا خاصة بعد أزمة القافلة البحرية التركية التي هاجمها الجيش الإسرائيلي وقتل بعض أفرادها، ثم تبع ذلك مرحلة صمت ثم وساطة أمريكية هزيلة لم تفد أحدا. ويعلن المسؤولون الأتراك في كل مناسبة أن تركيا لن تتنازل عن حقها فيما حدث، وأن الاعتذار الإسرائيلي هو بداية كل شيء، وهو أمر يرفضه الشارع الإسرائيلي ويصر عليه الشارع التركي إلى جانب التعويض المالي لضحايا الهجمة الإسرائيلية الغاشمة.
في هذا الصدد لن ننسى اللعبة الإسرائيلية بالتوجه إلى الأمم المتحدة بدعم الولايات المتحدة فتم تعيين لجنة بالمر للتحقيق في أحداث القافلة، وقد حاولت هذه اللجنة التخفيف والتقليل من وقع الأحداث واعتبارها مجرد نبوة بين صديقين، والطريف أن اللجنة شبهت الحالة بانسكاب كوب من القهوة على ملابس تركيا، والمطلوب من إسرائيل الاعتذار السريع المحدود ودفع فاتورة المغسلة، وهو ما رحبت به إسرائيل وأعلنت أنها ستتحدث عن أخطاء في العمليات.
ورغم أن مثل هذا الاعتذار لن يؤدي إلى نتائج مؤثرة في إطار العلاقات الأمنية التركية - الإسرائيلية، إلا أن هناك عوامل تفسر حرص إسرائيل على تقديم هذا الاعتذار المحدود. وهي عوامل ستؤثر في مسيرة علاقات البلدين في المستقبل القريب، حتى إن لم يتوصل الطرفان إلى شكل من أشكال الاتفاق.
العامل الأول: هو الضغط الأمريكي، وعلينا أن ندرك أن العلاقات التركية - الإسرائيلية ليست مجرد علاقات ثنائية بين دولتين، بل هي علاقات ثلاثية، والطرف الثالث هو الولايات المتحدة، ويصف المعلقون هذه العلاقة بالمثلث. وجاءت أحداث القلاقل والثورات العربية لتزيد أهمية تركيا كحليف استراتيجي لأمريكا في المنطقة خاصة أن معظم حلفاء أمريكا الآخرين يمرون بظروف أضعفتهم وجعلتهم ينكفئون على أنفسهم، مما يجعل الاعتماد الأمريكي عليهم صعبا. وهنا تصبح العلاقات التركية المتردية مع إسرائيل مشكلة بالنسبة لأمريكا، ولذلك تشهد هذه الأيام ضغوطا أمريكية مستمرة على كل من تركيا وإسرائيل لإعادة علاقاتهما المتميزة إلى ما كانت عليه، وهنا يمر أردوغان بأول اختبار حول مصداقيته وشجاعته وحرصه على مصالح بلاده. ويقول الأمريكيون بأعلى أصواتهم إن ما حدث بين تركيا وإسرائيل مجرد سحابة صيف سرعان ما تمر قبل أن تترك آثارا يصعب إصلاحها.
العامل الثاني: هو حالة عدم الاستقرار في الوطن العربي، خاصة الوضع في سورية التي لها حدود وعلاقات مباشرة مع تركيا وحدود وحالة حرب مع إسرائيل. لذلك تطالب إسرائيل ليس بإعادة العلاقات القوية إلى سابق عهدها فحسب، بل التوصل إلى صيغة مشتركة أساسية للتصرف إذا ما تدهورت الأحوال في سورية وأصبحت بعيدة عن الاستقرار. ولا يدري أحد ما هو المقصود من ذلك: هل هو الخوف من تولي حكم آخر مقاليد الأمور؟ أم نهاية القصة بانتصار الرئيس بشار الأسد؟
وهناك مقولة لوزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك أعلنها أخيرا بأن إسرائيل لا يمكن أن تسمح لنفسها بالاستمرار دون علاقة قوية مع واحدة من الدول المحورية في المنطقة وهي: مصر وإيران والسعودية وتركيا، ونظرا لأن التطورات في مصر لا تقدم أي مؤشرات عما ستؤول إليه الأمور ولوجود مواجهة صريحة علنية بين إسرائيل وإيران وعداء أمام القاصي والداني، ولعدم وجود أي اتصالات أو علاقات مع السعودية فإن الدولة الباقية أمام إسرائيل هي تركيا كقوة كبرى في المنطقة يمكن لإسرائيل أن تحقق من ورائها مصالح عديدة.
وثمة اعتبار له أهمية يتمثل في محاولة إسرائيل حماية جنودها الذين قاموا بالهجوم على القافلة التركية من عواقب القضايا التي سترفع عليهم، ويتجسد خوف إسرائيل من تقرير لجنة بالمر التي إذا ما نشرت مرئياتها وتقاريرها فإن ذلك سيصبح قاعدة أو أساسا للقضايا التي سترفع على جنود إسرائيل.. وهنا تظهر قيمة إسراع إسرائيل بالاعتذار حتى تقطع الطريق على الأتراك فلا يرفعون قضايا. لأن الخوف من القضايا أنها تستغرق وقتا طويلا سيكون حافلا بالتوتر. ويقول بعض المحللين إن المبالغة في موضوع القضايا تقصد حكومة إسرائيل من ورائه إقناع الرأي العام الإسرائيلي بأهمية وضرورة تقديم الاعتذار.
العامل الثالث: يتعلق بالعلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل، وذلك أن العلاقات التجارية بين البلدين نجحت في الانتعاش والتطور رغم التوتر السياسي بين البلدين، ويشجع على استمرار العلاقات التجارية أن اقتصاد كل من تركيا وإسرائيل يكملان بعضهما بعضا. وهنا ينبغي ألا نغفل أن السبب الأكبر وراء نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات هو قدرته على استخدام السياسة الخارجية لتطوير الاقتصاد، بل إن كثيرا من المراقبين يعزون قصة إنجاز الحزب إلى قدرته على بناء الاقتصاد، ولكن هناك حقيقة لا تقل أهمية وهي أنه كلما زاد التوتر بين البلدين، خشي رجال الأعمال هنا وهناك الدخول في عمليات تبادل اقتصادي مهمة.
ولا يمكن إغفال الملف الفلسطيني، فكلما ساءت العلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية خاصة في قطاع غزة، ضاعت تأثيرات الاعتذار الإسرائيلي سواء قام أردوغان بزيارة القطاع أم لا. كما أن تنحي كبار ضباط الجيش التركي عن مناصبهم ونفوذهم السياسي سيلقي بالأوراق في أيدي موظفي وزارة الخارجية في تركيا وإسرائيل.
وها هي إسرائيل تعلن صراحة أسفها لخروج الضباط من دائرة صنع القرار التركي أو تخويف الحكومات المدنية، فالضباط كانوا عادة من انتقاء الأمريكيين ويتحركون بالمكالمات الهاتفية من واشنطن أو السفير الأمريكي في أنقرة، وخسارتهم خسارة فادحة لإسرائيل كأدوات ضغط على القرار التركي لمصلحة إسرائيل لضغط من واشنطن. كما لا ينسى الإسرائيليون أن الضباط كانوا ورقة مهمة تدعو باستمرار للتعاون العسكري مع إسرائيل، وتعد إسرائيل نفسها لتقبل هذا الوضع باعتباره خيارات شعبيا تركيا لا أمل في الرجوع عنه. وتبقى مشكلة الاعتذار الذي يرفضه الإسرائيليون ويصر عليه الأتراك. ولكن الحسابات الاستراتيجية الكبيرة وتطورات المنطقة ورغبة الولايات المتحدة كلها اعتبارات تدفع إسرائيل إلى الاعتذار.