تأملات رمضانية (3)
- ينطوي شهر رمضان المبارك، على حوافز متنوعة، تحتوي على الصلاح كله للنفس والروح والبدن على مستوى الفرد، وكل الفلاح لأمة عقيدتها التوحيد الخالص ورسالتها أداء أمانة الاستخلاف بسمو الحياة وترقيتها إلى الأفضل، وتعمير البناء الحضاري على الأرض؛ ابتغاءً مرضاة الله - سبحانه وتعالى؛ فالخلافة، إنما تعني تعمير الأرض بنشر الخير وإشاعة السلام فيه، والعمل على إبراز عظمة الخالق وقدرته، عبر الانتفاع الإيجابي بكل المخلوقات التي سخَّرها المولى - عزّ وجلّ - لخدمة الإنسان. قال تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) (هود:61)، أي جعلكم عمَّارًا، تَعمرونها وتسكنون بها، وليس هناك من شك في أن كل هذه المنح الإلهية في شهر النفحات والبركات على وجه الخصوص، تسمو بعقل المسلم ونفسه ووجدانه، وتجعله أكثر تعلقًا بدينه الحنيف وتعاليمه الوسطية السامية، وأشد حرصًا على الدفاع عنه، وأفضل تهيؤًا واستعدادًا؛ لاستيعاب رسالته الحضارية؛ وتعميق فهمه لها والعمل على تحقيقها.
لذلك، يُعد شهر رمضان المبارك، فرصةً ذهبية، متجدِّدة، كل عام أمام دُعاة الاستنارة والخير لتكثيف جهودهم؛ تعريفًا بحقائق ديننا الوسطي وتنقيتها مما يعلق بها من شوائب أو يلصق بها من دعاوى وافتراءات، ليست من الدين في شيء. وهذا أمر مطلوب ومنشود بإلحاح، لسببين، أولهما: تبصير المسلمين أنفسهم بحقائق دينهم، وتعميق إيمانهم بخالقهم الواحد - سبحانه وتعالى - على هدى وبصيرة، وشحذ همهم واستنهاض عزائمهم نحو فهم الإسلام فهمًا صحيحًا، يساعدهم على تغيير حياتهم إلى الأفضل دائمًا، وأبدًا ويمكّنهم، في الوقت نفسه، من نشره في ربوع الأرض بوصفه منهجًا ربانيًا متكاملا يحمل للناس كل ما فيه سعادتهم وفلاحهم: دنيا وآخرةً. وثانيهما: ترشيد الخطاب الموجه إلى (الآخر)، ومواجهة حملاته التي دأب فيها على تشويه الإسلام ومصادره، والتهوين من دوره في تشييد صرح الحضارة الإنسانية، بالتواصل والحوار الإنساني. وينبغي ألا يغيب عن أذهاننا، في هذا الخصوص، أهمية البُعد العلمي ودوره المحوري في دعم مرتكزات الخطاب الديني وتعميق أثره في المسلمين وغيرهم، انطلاقًا من الاعتقاد الراسخ لدى الجميع بأن الأمن العلمي والتقني أصبح - وسيظل - عنصرًا حاكمًا في كل أشكال الحوار مع الذات والآخر معًا، وفي ظني أن غياب هذا الأمن إنما يعني تعطيلاً لواجب مهم الأداء، وغياب التحضر والمدنية، كذلك عن المجتمعات الإسلامية، يعني كذلك عدم قيامها بواجبات الخلافة في الأرض وتعميرها وعدم تحقيق مبادئ الدين الذي تنتسب إليه؛ ما يُفقد خطابنا الإسلامي مصداقيته وتأثيره، ويجعله أقرب إلى العبارات الجوفاء، أو الثرثرة، التي ليس وراءها طائل..!
- يشعر الصائم في قيظ رمضان بأنه لا يحب خالقه فحسب، وإنما يرتع ويمرح تحت مظلة حب الله تعالى له؛ لأنه العبد المؤمن الصابر الذي يحتمل.. وكلما زادت وطأة القيظ؛ زادته رضاءً؛ من قلب المعاناة الجسدية تنبع السعادة النفسية.. ويكتشف الصائم جدلية العلاقة بين الجسد والروح.. أي ذلك الحوار وتلك التبادلية بين التكوين المادي والتكوين المعنوي.. الأول من تراب والثاني من نور.. فيض من نور الله.
- شهر رمضان هو اكتشاف للجانب النوراني في المسلم.. يهتدي إليه الصائم بنفسه من خلال نشوة من نوع خاص حين يحوز زمام السيطرة على غرائزه التي تلح، وتزأر بينما يشعر بلذة من نوع آخر في مكان آخر.. لذة سيطرة القوى المعنوية على القوى المادية.. سيطرة الروح على الجسد، وذلك هو أحد الدروس المستفادة، التي نتعلمها من رمضان، وذلك سر من أسرار رمضان وحكمة الصيام أن يكتشف الإنسان حقيقة إنسانيته.
- أفرد ربُّ العزة، الصوم، وميزه عن العبادات بأسرها في الثواب، فقال - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ''كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به''؛ ولذلك فأجر الصيام يضاعفه الله كيف شاء لمن يشاء، أما ليل رمضان وأمسياته فلا ينبغي فيها أن نهدر صومنا بالنهار.. فالليل مكمل للنهار.. فخير لنا أن نقضيه فيما يرضيه - سبحانه وتعالى - وأن نبتعد عما يغضب الله.. بل نتحرى رضاه بالليل كما نتحراها بالنهار.
- إذا أحسنا صوم رمضان كان ذلك كجرعة منشطة لعبادة الله وتقواه باقي شهور السنة؛ لنحافظ على تقوى الله خلال العام، وبهذا نكون - بمشيئة الله - من عباد الله المتقين الفائزين بجنات النعيم.