الديون الأمريكية .. هل يدرك حجمها عجائز نيسابور؟
قبل سنوات كتبت مقالا حول الرأسمالية، وقد ذكرت فيه ما لحق بها من أضرار، وما لحقها من تداعيات، ومنها تعرض شركات أمريكية للإفلاس، وتدخل الدولة لحمايتها، ثم تدحرجت كرة الثلج عقب ذلك بتعرض دول أوروبية لخطر الإفلاس لولا تدخل دول عديدة، من أبرزها ألمانيا الاتحادية، وكان تدخل الولايات المتحدة لإنقاذ شركات كبرى من الإفلاس - إضافة إلى نفقات الدولة في الحروب - سببا رئيسا في رجوع كرة الثلج لتلتهم كميات أكبر، وترفع من سقف الدين الأمريكي إلى مبالغ خيالية. وفي هذه الأثناء، وتحديدا في 29/11/1429هـ كتبت مقالا بعنوان ''سندات الخزانة إلى أين؟'' حذرت فيه من حفظ الاحتياطيات في سندات الخزانة الأمريكية لسببين:
1- أنها محرمة، كما قررته لجان وهيئات ومجامع الإفتاء المحلية والدولية.
2- أنها مملوكة لدولة تتعرض لأزمة غير مسبوقة.
والآن ومع وصول الديون الأمريكية إلى أكثر من 14 تريليون دولار، وتحديدا 14580.7 مليار دولار، ليتخطى الدين بذلك إجمالي الناتج المحلي لعام 2010، والبالغ 14526.5 مليار دولار، فإن الدولة الأمريكية تصبح بالمفهوم الفقهي والقانوني في حكم المفلسة، إلا أنه في قانون القوي والضعيف، يصبح في مقدور الدولة أن ترفع من سقف الدين مرة بعد مرة، ولو كانت عاجزة فعليا عن السداد، ومن لا يرضى فليشرب من ماء البحر أو المحيط، وما أكثر الدول الدائنة التي سيأتي عليها يوم تشرب من هذا الماء الشديد الملوحة..! وبوادر ذلك تلوح في الأفق، وصراخ دولة الصين ضد الولايات المتحدة عقب أزمة الديون الأخيرة - وهي الدائن الأكبر لها - هو من مؤشرات ظهور ما يمكن أن يسمى بدائن مترقب، ومدين مترنح، وهو يمهد لوجود دائن مطالب، ومدين معسر، والخطير في الأمر أن الديون السيادية التي تقترضها الدول - كالولايات المتحدة في سندات الخزانة - محفوفة بمخاطر عدم السداد لمنطق القوة أو السيادة الذي تفرضه السلطة، وتتمتع به الدولة، وحين تغرق الدولة في الديون فإنها قد تسدد لأنها تريد أن تقترض المزيد، كما هو معلوم بداهة، وكما صرح بذلك ''جون كاي'' في مقاله الأخير حول القرض السيادي، والمنشور في ''الاقتصادية'' بتاريخ 16/9/1432هـ.
وقد كتبت قبل سنوات مقالا بعنوان: ''لحماية الريال من التضخم.. الذهب مستودع أمين للثروة النقدية''، وقد كانت أسعار الذهب حينها في أوضاعها العادية، وقبل أن تصل إلى أرقامها الفلكية - كما هو واقع اليوم - ومن استثمر حينها في الذهب بمئات الملايين، فإنه يستطيع أن يبيع اليوم - وأكرر اليوم - بالمليارات (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء)، وقد حرمت دول كثيرة نفسها من الخير عندما لم يكن من سياستها النقدية الاستراتيجية الاستثمار في عدد من الاستثمارات الحقيقية، ذات المخاطر المنخفضة، وذات القدرة على التسييل السريع، وقد مسها السوء ''ابتداءً'' عندما دست أنفها في سندات، و''انتهاءً'' عندما حظيت هذه السندات بتصنيف منخفض من وكالة التصنيف العالمية ''ستاندار آند بورز''، وهذا التخفيض لتصنيف الدين الأمريكي أصاب الأسواق العالمية بهزة عنيفة، مقدارها خمس درجات بمقياس ريختر، وأعتقد أن هذه الأسواق بما فيها من مستثمرين ومحللين وو.. لا تخلو من منطق طبيعي تجاه هذه المستجدات حول الدين الأمريكي.
إن الذهب معدن نفيس، ولقلة معروضه سيظل محافظا على قوته الشرائية، ومهما انخفض فإنه سيعود للارتفاع مجددا؛ لأن الدول والشركات والأفراد عند الأزمات لا تثق إلا في الذهب، والولايات المتحدة لها أكبر احتياطي للذهب في العالم في نيويورك، وهو مؤشر واضح على ثقتها في هذا المعدن النفيس كغطاء ''سابقا'' للعملة الأمريكية، وكاحتياطي ثمين ''حاليا'' للدولة الفيدرالية، فلماذا لم ترفع المملكة مخزونها من الذهب؛ لتربض على نوعين من الذهب: الأصفر، والأسود.
إن الدولة المثقلة بالديون عندما تتعرض لإفلاس، أو عندما تتعثر عن سداد جل ديونها، فإنه حينئذ لا ينفع التنظير للسياسة الاقتصادية الأمريكية الناجحة، كما لن ينفع رسم صورة وردية عن حاضر ومستقبل الاقتصاد الأمريكي، ولن يجدي نفعا تسطيح ذهن القارئ بوجود مؤامرة أمريكية لرفع سقف ديونها السيادية، أو نحو ذلك من الترهات؛ إذ كل ذلك سيتبخر، ويطير في الهواء، وسنكون جميعا أمام الأمر الواقع، والواقع اليوم يقول بكل بساطة:
إن جبال الديون الأمريكية تضاهي ناطحات السحاب في نيويورك، وشبكة الديون الأمريكية يتعذر عدها بالآلات الحاسبة التقليدية، وهرم السندات المقلوب ينذر بواقع مخيف، هذا هو الواقع الذي يدركه العديد من رجالات الاقتصاد النابهين في الداخل والخارج، بل أصبح يدرك خطر هذه الديون عجائز نيسابور.