ضعف السلطة الإشرافية على البنوك الإسلامية أفقدها القدرة على المنافسة وأضعف التزامها الشرعي
أكد الهادي النحوي الباحث في التمويل الإسلامي أن تراجع سمعة المصرفية واقع مشهود لا يكاد اثنان يختلفان فيه، وأن أسباب ذلك التدهور متعددة، منها ما هو على مستوى التطبيق الشرعي في عدم الالتزام الحقيقي بأحكام الشريعة، ومنها ما هو على مستوى الحوكمة والبناء المؤسسي، وكذلك القصور الاجتماعي في تقديم بديل تنموي يخدم المجتمع.
وحول دور السلطات الإشرافية وعدم الاعتراف الرسمي بالمؤسسات المالية الإسلامية، قال النحوي إن كثيرا من المؤسسات الإشرافية تعاملت مع البنوك الإسلامية بنفس المعايير والضوابط الإشرافية والرقابية للبنوك التقليدية، ما أفقدها القدرة على التنافس وأربك فرص تمسكها بتطبيق الأحكام الشرعية في عملياتها. فإلى تفاصيل الحوار:
لماذا تتراجع سمعة المصرفية الإسلامية ويعلوها النقد؟ ولماذا لا تتم هناك مراجعة وقراءة لما يجري على مستوى أهل الصناعة؟
تراجع سمعة المصرفية أمر واقع ومشهود ولا يكاد اثنان يختلف عليه، والنقد الذي نسمعه اليوم عن التجربة ما جاء إلا بعد أن طفح الكيل، لكن الأمر الإيجابي في هذا النقد أنه بمنزلة تنبيه للمشكلة وخطوة أولى نحو معالجتها. وأسباب تدهور سمعة المصرفية الإسلامية كثيرة ومتعددة، فعلى مستوى التطبيق الشرعي هناك عدم الالتزام الحقيقي بأحكام الشريعة، الذي هو الفرق الجوهري بين النظام المصرفي الإسلامي والنظام التقليدي، ومن مظاهر ذلك: عمليات الحيل أو التحايل بحجة تطوير المنتجات أو التيسير، المحاكاة العمياء للمنتجات التقليدية بحجة المنافسة والتطوير والواقعية، وعدم إيمان كثير من القيادات والعاملين في المصرفية الإسلامية بهذا النظام، فضلا عن جهلهم بأحكامه ومبادئه، وتعدد الفتاوى وعدم وجود مرجعية موحدة للمصرفية الإسلامية يمكنها البت في مشكلات التطبيق. وعلى مستوى الحوكمة والبناء المؤسسي: القصور في بناء نظام حوكمة متكامل، والاهتمام بالانتشار الجغرافي والعالمي على حساب بناء الأسس المتينة للنظام والقصور الاجتماعي والتنموي وفشل البنوك الإسلامية في تقديم بديل تنموي يخدم المجتمع، خاصة الطبقات المحرومة والمحتاجة، وارتفاع الهوامش الربحية، وعدم إشراك أصحاب الحسابات الجارية في السياسات العامة لتوظيف الأموال والقصور على مستوى تطوير الموارد البشرية والخبرات، وعدم تمكن المؤسسات المالية الإسلامية من إيجاد نظام تدريبي وتعليمي متكامل للكفاءات البشرية التي تحتاج إليها الصناعة.
لكن أخطر أسباب تلك انتقادات - في تقديري - هي المتعلقة بسلوك أعضاء الهيئات الشرعية التي تركز على اتهامهم بالتساهل بحجة التيسير وحجم المكافآت وسيطرتهم على ''سوق'' الفتوى وعضوية الهيئات الشرعية.
ومع كل ذلك يجب ألا نعمم ونتهم كل الهيئات الشرعية بالتقصير واحتكار الفتوى وتشجيع الحيل والبحث عن التربح، لكن كثرة الكلام عن الظاهرة تستدعي من كل القائمين على المصارف الإسلامية التنبه للأمر ومعالجة هذه القضايا حتى لا تنزلق الصناعة ويتسع الخرق على الراتق.
هل لسيطرة أعضاء في الهيئات الشرعية واحتكارهم هذه المناصب أثر كبير في غياب التطوير والإبداع؟
سيطرة ما يعرف بهوامير الشرعية أصبحت من أبرز أوجه الانتقادات الموجهة لتجربة المصرفية الإسلامية، وكثر الكلام حول هذه المسألة عن حق أو باطل، لكن يبدو فعلا أنها أحد التحديات الكبيرة التي تواجهها التجربة، ولعل المشكلة ليست في هذه الظاهرة بقدر ما هي في غياب التواصل بين أعضاء الهيئات الشرعية مع الجمهور، فرغم ما يشاع ويقال حول هؤلاء ''الهوامير'' إلا أنك لا تجد منهم جهدا يذكر لإيضاح وجهة نظرهم وكأن الأمر لا يعنيهم، وهذا المنهج بكل تأكيد يزيد من تآكل سمعة التجربة، إضافة إلى فشل بعض هؤلاء المشايخ في نقل المصرفية الإسلامية إلى عالم التطوير والإبداع الذي يجمع بين الأصالة وظروف العصر.
هل للقائمين على المؤسسات المالية الإسلامية دور كبير لتأثيرهم في الهيئات الشرعية بما يحول دون تطوير الصناعة؟
إذا غابت الرؤية ولم يتضح الهدف وأعطيت الأولوية للكسب المادي وتم الاكتفاء بفتاوى ''مذبوح على الطريقة الشرعية''، واحتجب القائمون على المصارف الإسلامية خلف المنتجات السهلة التي تحقق الأرباح بأقل المخاطر دون النظر إلى الأهداف الكبرى للصناعة في إعمار الأرض مع تحمل ما يقتضي الأمر من مخاطر؛ فأنى للتطوير أن يحصل؟
القائمون على المؤسسات يتحملون مسؤولية كبيرة في التأثير في أعضاء الهيئات الشرعية وتوجيه طريقة عملهم بحيث يتحولون إلى مجرد موظفين يتسلمون رواتب، وكلما كان الواحد منهم أكثر استجابة لرغبات القائمين على المؤسسات المالية الإسلامية كانت فرصه أكبر في المزايا المادية المعنوية، ومع الزمن يصبح الشيخ مجرد صدى يطور على عين الملاك وبذلك أضر الطرفان وأعاقا بكل تأكيد مسيرة التطوير والإبداع.
هل البحث وتسوق الفتاوى وتبضعها أسهم في نشوء سوق شرعية مترخصة أضعفت هيبة ومكانة المصرفية الإسلامية؟
عملية البحث والتطوير مطلوبة والتوسع فيها والاعتناء بجودتها وتأصيلها يعد أحد مقومات العمل المصرفي الإسلامي لأنها تفتح أبواب الابتكار، لكن المصيبة أن يتحول البحث والفتوى إلى سوق للكسب المادي فذلك يعد انتكاسا وارتكاسا يثقل كاهل الصناعة التي تعاني أصلا أمراضا عديدة، فأصبحت الفتوى سوقا يسعى كثير من الباحثين عن الكسب السريع إلى الإثراء من خلالها وأصبحت مهنة وحرفة لمن لا حرفة له واختلط الحابل بالنابل.
هل كان لغياب الكفاءات الشرعية والفنية وغياب التكامل والتنسيق دور في تراجع الصناعة؟
هذا أمر مؤكد، فلو كانت الصناعة تشتمل على الكفاءات الشرعية والكفاءات التي تجمع بين المعارف الفنية والشرعية لما وصلت الصناعة إلى ما وصلت إليه اليوم، وكذلك غياب التنسيق والتكامل، فعلى الرغم من الجهود والمحاولات الكثيرة للتنسيق والتكامل إلا أن النتائج لم تصل إلى المستوى.
وهذا لا يعني عدم وجود تنسيق وعدم تحقيق بعض الإنجازات المهمة على هذا الصعيد، فقد أنشئت مؤسسات البنى التحتية التي أسهمت في تعزيز المسيرة على مستوى المنتجات والمعايير وغير ذلك، وحصل تعاون على مستوى التمويل والاستثمار.
هل هناك ضعف في هياكل هذه الصناعة وعدم إلزامية ما يصدر عنها جعل المؤسسات المالية ضعيفة وساعية نحو الربحية العاجلة؟
تحققت إنجازات مهمة على مستوى التنسيق من خلال إنشاء هياكل الصناعة أو مؤسسات البنى التحتية مثل هيئة المحاسبة والمراجعة والمجلس العام للبنوك للمؤسسات المالية الإسلامية ومجلس الخدمات المالية الإسلامية، فقد أصدرت هيئة المحاسبة والمراجعة عشرات من المعايير الشرعية والمحاسبية، كما أصدر مجلس الخدمات المالية الإسلامية عددا من المعايير المتعلقة بالإشراف على المؤسسات المالية الإسلامية. وإصدار هذه المعايير يعد في حد ذاته إنجازا فقهيا وفنيا ومحاسبيا كبيرا، لكن المشكلة الكبرى تكمن في عدم إلزامية هذه المعايير، فمعظم السلطات الرقابية لا تعترف بها أو لا تلزم البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية بالأخذ بها، كما أن البنوك الإسلامية لا تلزم نفسها بها، وهذا الوضع يؤدي بكل تأكيد إلى ضعف بنية المؤسسات المالية الإسلامية بشكل عام.
هل عدم «مأسسة» الهيئات الشرعية بمرجعية عليا سبب في نشوء سوق التبضع والتسوق والترخص التي ترغب فيها بعض المؤسسات المالية؟
لموضوع الهيئات الشرعية أهمية كبرى في مسيرة الصناعة المالية الإسلامية، فكلما أحكم تنظيم عمل الهيئات الشرعية أثبتت الصناعة جديتها وصدق توجهها وأحدثت الفرق بينها وبين النظام التقليدي، أما إن افتقدت الهيئات الشرعية أسس ومناهج العمل المؤسسي فإنها تتحول إلى سوق للكسب وتفقد هيبتها واحترامها، ونتيجة ذلك تشويه صورة الصناعة.
هل الأمر سببه غياب الرقابة والإشراف والاعتراف الرسمي بالمؤسسات المالية الإسلامية؟
لا يمكن قيام نظام مالي أو مصرفي دون آلية واضحة للرقابة والإشراف، والمؤسسات المالية الإسلامية عانت كثيرا قضية الرقابة والإشراف، فكثير من المؤسسات الرقابية لا تعترف بخصوصية البنوك الإسلامية وتعاملها بنفس المعايير والضوابط الإشرافية والرقابية المصممة أصلا للبنوك التقليدية، وهذا سبَّب ضررا كبيرا وأضعف من قدرتها التنافسية وأربك فرص تمسكها بتطبيق الأحكام الشرعية في عملياتها. لكن ذلك لا يعفي القائمين على المؤسسات المالية وأعضاء الهيئات الشرعية من تقصيرهم الذي أدى إلى ما آلت إليه سمعة الصناعة اليوم.
هل المؤسسات المالية الإسلامية في الخليج ستواجه تحديات التطوير والمأسسة والمنافسة في الأيام القادمة؟
منطقة الخليج تضم أكبر سوق للمؤسسات المالية الإسلامية من حيث حجم الأصول، كما تضم معظم مؤسسات البنية التحتية، والمؤسسات المالية الإسلامية تواجه كغيرها من المؤسسات المالية الإسلامية تحديات التطوير والمأسسة والمنافسة وستواجه هذه التحديات في الفترات المقبلة ولا سبيل لمواجهة تلك التحديات إلا بالعمل الجاد على مأسسة العمل المصرفي الإسلامي لأن العمل المؤسسي هو أساس المنافسة ومفتاح التطوير.
هل تمتلك هذه المؤسسات القدرة على التحالف والتعاون والتنسيق والاندماج مستقبلا؟
كما ذكرنا تجربة المؤسسات المالية الإسلامية حققت إنجازات، لكنها في المقابل سجلت إخفاقات كبيرة، وعلى الرغم من تلك الإخفاقات فإن هذه المؤسسات تملك إمكانات واسعة للتحالف والتعاون والاندماج، وتحالفت هذه المؤسسات وتعاونت في كثير من العمليات كما اندمج بعضها مع بعض.
وعموما نقول إنه لا يمكن للبنوك الإسلامية أن تنافس على المستوى العالمي إلا بتوفير الشروط اللازمة لذلك ومنها أن تعمد إلى ابتكار الأدوات المالية التي تناسب العصر ولا تخرج عن أحكام الشريعة، ولا يعني الابتكار التقليد الأعمى للمنتجات الغربية لإلباسها (ثوبا إسلاميا) دون التدقيق في مضامينها فنحصل بذلك على منتجات منزوعة الروح أو غير ''مذكاة'' على طريقة مذبوح على الطريقة الإسلامية، والابتكار يستلزم الاستفادة من التقنية الحديثة متسارعة التطور، التي هي أحد أفضل عناصر قوة النظام التقليدي.
لكن الأمر مربوط بتغيير شامل على مستوى هياكل الصناعة ومراجعة حقيقية لمسيرتها خلال العقود الماضية وبغير ذلك سنرى صورة مشوهة لا هي تقليدية ولا هي إسلامية، ويكون حضور الصناعة المالية الإسلامية على مستوى العالم مختل البنيان وإن ارتفع واتسع عرضاً وطولاً. وستظل مادة سخرية لـ ''طاش ما طاش'' وغيره.