فرنك سويسرا.. النجم الساطع في السوق
كان المصطلح التحقيري الذي يطلق على السويسريين الذين لا وجه لهم هو – ''أصحاب الأموال والمصرفيون في زيوريخ''، والذين أصبحوا معروفين به في لندن – في الستينيات، حيث راهنوا بصورة شاملة ضد الاسترليني، الأمر الذي دفع العملة البريطانية من أزمة إلى أزمة.
بعد نصف قرن من ذلك، فإن ''أصحاب الأموال والمصرفيين'' في سويسرا هم الذين يعانون، ليس بسبب ضعف عملتهم، أو اهتزاز اقتصادهم، أو عدم استقرار حكومتهم – بل العكس من ذلك تماماً. ولقد تصاعدت بقوة قيمة الفرنك السويسري الذي كان لفترة طويلة من الزمن ملاذاً لأولئك الباحثين عن الأمان ضد حالات جيشان الأسواق، بينما تخلى المستثمرون القلقون من عذابات منطقة اليورو، والويلات المالية الأمريكية عن اليورو، والدولار لصالح الفرنك السويسري الراسخ بقوة.
ارتفعت قيمة الفرنك في العام الماضي بنسبة 20 في المائة مقابل اليورو، و 30 في المائة مقابل الدولار. غير أن صعوده خلال الأسابيع الأخيرة. كان الأكثر أهمية وأثراً. وكاد الفرنك في بداية آب (أغسطس) أن يلمس حد التعادل مع اليورو، حيث كان قد كسر هذا الحد مقابل الدولار منذ فترة طويلة. ولا يكاد الدولار في الوقت الراهن يشتري علكة في زيوريخ، بينما يلهث السائحون الأجانب في الألب بسبب ثمن فنجان من القهوة.
يقول توبياس ستراومان، أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة زيوريخ، ''لم تكن هنالك تحركات مشابهة لهذا منذ أكثر من 30 عاماً، وإن مثل هذه التحولات في قيمة الفرنك السويسري ليست عادية بصورة حادة''.
بينما عمل ارتفاع قيمة الفرنك على نفخ الكبرياء الوطني، فإن التوجيه الاقتصادي السليم الذي تم تركيز الأضواء عليه، ووجود اقتصاد محلي مزدهر شديد الابتهاج بهجرة أصحاب الياقات البيضاء، فقد أصبح ذلك كابوساً للمصدرين، وغيرهم من النشاطات العملية المعتمدة على عوائد العملات الأجنبية. ويقول كلاوس كونزلي، رئيس اتحاد حرفة الفنادق والمطاعم، غاستروسويس، ''إن توقعات السياحة غير مؤكدة على نحو شديد''.
التجارة الخارجية عامل حيوي في رخاء بلد يقل عدد سكانه عن ثمانية ملايين نسمة، ولا يكاد يملك موارد طبيعية. وأثبت السويسريون قدرتهم على أداء مهامهم، وأصبحت الشركات متعددة الجنسيات، مثل نستله في الصناعات الغذائية، وسواتش في صناعة الساعات، وهما من أكبر الشركات العالمية في قطاعيهما من حيث العوائد، أسماء محلية مشهورة. وهنالك قطاعات أخرى أقل بروزاً، ولكنها مهمة للاقتصاد بالدرجة ذاتها، حيث تتمثل في آلاف من الشركات صغيرة ومتوسطة الحجم التي تعتبر بين الرواد الكبار في قطاعات متخصصة مثل المعدات الطبية، والتكنولوجيا الحيوية، والهندسة.
حين بدأ الفرنك في الصعود، حاولت الشركات جميعها زيادة الإنتاجية، وتيسير حركة عملياتها. ومع ذلك عانت هوامش الأرباح بمجرد استنفاد أبسط المدخرات الناجمة عن مكاسب الكفاءة. وبلغ الألم العظام في الوقت الراهن. وفي الشهر الماضي، طلبت شركة لونزا، وهي إحدى الشركات العالمية الكبرى في العلوم الحياتية، من الموظفين في موقع ''فسب'' الرئيسي التابع لها، أن يعملوا لساعتين إضافيتين يومياً، دون تلقي مقابل مالي لذلك خلال الأشهر الـ 18 المقبلة.
تخلت شركات أخرى عن استثمارات مخططة في الداخل لصالح مواقع خارجية، وزادت من مشتريات البضائع شبه المصنعة بصورة كاملة من جهات أخرى.
من المؤكد كذلك أن الفرنك القوي ساعد شركات كثيرة، وذلك من خلال توفير حاجز أمان ضد أسعار المواد الخام التي ترتفع بشدة – كما أن النمو الاقتصادي أثبت أنه مرن بصورة تبعث على الدهشة. ونما الناتج المحلي الإجمالي الفعلي بنسبة زادت على 2 في المائة في العام الماضي. ويضاف إلى ذلك أن معدل البطالة الحالي يبلغ 2.8 في المائة فقط. غير أن الاقتصاديين يتخوفون من بدء الشعور بطفرة قيمة الفرنك اعتباراً من النصف الثاني من العام الحالي، كما أنهم يسارعون إلى تخفيض توقعات نمو العام المقبل عن نسبة التوافق الأصلي البالغة 2.2 في المائة.
حول الارتفاع الشديد في قيمة العملة الصناعيين السويسريين الرصينين في العادة إلى أناس في غاية العصبية. وكان نيك هايك، الرئيس التنفيذي لشركة سواتش، بين أولئك الأشد صخباً. وقد انتقد بنك سويسرا الوطني لعدم اتخاذه مزيداً من الإجراءات للجم الفرنك.
جعل مثل هذه الدعوات بنك سويسرا الوطني (المركزي) تحت ضغوط هائلة. وبين رماد أزمة الائتمان، شهدت البنوك المركزية في العالم تصاعداً شديداً لدورها، ووضعها، بينما حالت دون انهيار مالي عالمي. ولكن على الرغم من سمعته الجيدة، فقد كان بنك سويسرا الوطني (المركزي) غير فعال في معالجة تحدي العملة.
هكذا تركزت الأضواء على محافظ البنك المركزي السويسري، فيليب هايدلبراند. وكان اختياره في 2003 مفاجئاً كعضو في هيئة المحافظين الثلاثية لبنك سويسرا الوطني، حيث صعد إلى القمة في العام الماضي بعد تقاعد جان – بيير روث. وبينما كان روث محافظ بنك مركزي بلغ ذلك من خلال تدرجه المهني، فإن هايدلبراند قد قُدَّ من نسيج آخر. ونظراً لكونه ابناً لمدير دولي سابق، فقد درس في كندا، والمملكة المتحدة، إضافة إلى سويسرا. وقضى جانباً حاسماً من حياته العملية في ''مور كابيتال'' وهو صندوق تحوط في نيويورك، حيث كان يعمل على إعداد الاستراتيجيات خلال فترة التقارب السابقة لإطلاق اليورو. وقد حصل على سمعة لامعة في الخارج نظراً لسلاسة تعامله، واتقانه عدة لغات، وكونه صانع شبكات علاقات بالفطرة. غير أنه أصبح في بلده شخصية أكثر جدلية.
أصبح هايلدلبراند الذي سبق له أن كان في شبابه بطل سباحة، وملاكماً، على مدى عدة أشهر، كيساً لتلقي لكمات حزب الشعب السويسري الذي يمثل مجموعة محافظة بشدة، وهو أكبر أحزاب البلاد. ولام حزب الشعب السويسري هايدلبراند، وبدرجة أقل، زميليه في مجلس بنك سويسرا الوطني، بسبب ما اتهموا به من عدم كفاءة 2010 حين حاولوا لجم الفرنك من خلال تدخلات شاملة في قيمة العملة.
بدلاً من أن تتمكن إجراءات بنك سويسرا الوطني من تخفيض قيمة تبادل الفرنك، فقد تركته مليئاً بمقتنيات هائلة من العملات الأجنبية، ومثقلاً بالأعباء بينما كان يبيع الفرنك، بصورة غير مجدية في السوق. وألقى البنك رسمياً منشفته البيضاء مستسلماً في 2010، حيث قال إنه لن يتدخل أبداً. غير أن التكلفة الكاملة لشرائه للعملة لم تتضح إلا بعد فترة من ذلك. وبينما تصاعد الفرنك أكثر فأكثر، كانت اليوروهات والدولارات التي جمعها بنك سويسرا المركزي تفقد قيمتها بشكل ثابت مقابل الفرنك السويسري.
وخسر البنك الذي يكون رابحاً في العادة نحو 20 مليار فرنك سويسري في العام الماضي، كما أعلن عن خسائر إضافية في الشهر الماضي بقيمة عشرة مليارات فرنك سويسري في النصف الأول من 2011.
تعزز عدم الرضا السياسي عن بنك سويسرا الوطني أي البنك المركزي لأنه كان لعدة سنوات، البقرة الحلوب لحكومة سويسرا الفيدرالية المكونة من 26 مقاطعة. ووفقاً لمعادلة متفق عليها، فإن الثروة الكبرى المتمثلة في الأرباح النقدية الناجمة عن مقتنيات البنك الضخمة من الذهب، كانت تقسم سنوياً، وتدفع كأموال فعلية، حيث تتلقى الحكومة الفيدرالية الثلث، بينما يجري تقسيم الباقي على المقاطعات. وبالنسبة إلى المقاطعات الأصغر بالذات، فإن عطايا بنك سويسرا المركزي كانت موارد دخل حيوية. وأما الآن، فمن المنتظر تعليق تقديم هذه العطايا.
هكذا فإن البنك المركزي يواجه بمهمة هائلة في لجم الفرنك المتصاعد على الدوام، بينما يكون عاجزاً سياسياً عن إنفاق المزيد من المبالغ المالية الكبرى في إطار التدخل في سوق العملات الأجنبية. وبدلاً من ذلك، حاول هايدلبراند تجربة أساليب أقل تكلفة، حيث غمر سوق المال بالسيولة، بينما ألمح إلى ربط العملة باليورو، أو تطبيق صيغة ما من المستوى الأدنى للفرنك كملجأ أخير. وأطلق صنبور البنك المركزي، هذا الشهر، فيضاناً، حيث زاد السيولة التي يتيحها إلى 200 مليار فرنك سويسري، مقابل رقم أقرب إلى كونه عادياً يبلغ 30 مليار فرنك. وأدت هذه الزيادة إلى تخفيض معدلات الفائدة المنخفضة بشدة بالفعل، بل حتى إنها جعلت بعض معدلات الأجل القصير للغاية سالبة – وذلك في إضعاف مقصود لحوافز المضاربين في الاحتفاظ بالفرنكات. ويبدو أن هذه الاستراتيجية حولت اتجاه المد: حيث خفض السياسيون انتقاداتهم، وتراجعت قيمة الفرنك بأكثر من 10 في المائة مقابل اليورو. غير أن بنك سويسرا الوطني يعترف بأن العملة السويسرية ما زالت ''مقيمة بصورة مبالغ فيها على نحو شديد''.
تختلف وجهات النظر فيما يجب القيام به تالياً، وذلك وسط مخاوف من عودة الفرنك إلى الارتفاع مرة أخرى إذا استمر الخوف في الإمساك بعنق الأسواق العالمية. ويقول إيفور زمرمان من ''سويسمن'' اتحاد صانعي أدوات المكائن والأجهزة الكهربائية، ''سوف ننتظر، ونرى ما إذا كانت الإجراءات ستستمر في فعاليتها. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإننا نتوقع مزيداً من الإجراءات من قبل بنك سويسرا الوطني''.
حتى تخفف آلام المصدرين وصناعة السياحة، والمستهلكين الذين اشتكوا من الفروق السعرية الصارخة بين البضائع في سويسرا والخارج، أعلنت الحكومة هذا الأسبوع عن صفقة مساعدات بقيمة ملياري فرنك سويسري – دون أن تعطي أي تفاصيل.
لكن هل بإمكان بلد صغير مثل سويسرا أن يحرك الأسواق فعلياً- خصوصاً في الوقت الذي أصبح فيه الفرنك ضحية أحداث حصلت في مكان آخر، خارج سيطرة سويسرا تماماً؟ يختلف الاقتصاديون في ذلك. ويجادل سترومان من جامعة زيوريخ قائلاً: ''يتوقع المستثمرون تحديد سعر الصرف مقابل اليورو. وتلك هي الطريقة الوحيدة لتغيير اتجاه السوق. ويرد بيت وايتمان، وهو مدير صندوق سويسري يحظى بالاحترام، قائلاً: '' يبدو ربط الفرنك باليورو ممكناً على الصعيد النظري، ولكن لا يمكن تخيله على الصعيد السياسي والعملي''.
حيث لا يوجد تدخل منسق بشكل كبير، بما في ذلك من جانب البنك المركزي الأوروبي، وبنك اليابان – الذي يواجه مشاكل مماثلة مع الين – والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على الأرجح، فإن من الصعب أن نرى بنك سويسرا الوطني وهو يدير الأمور لتغيير اتجاه المد. ولكن لم تكن هناك أية إشارة على وجود مثل هذا الإجراء، ولدى البنك المركزي الأوروبي نصب عينيه أمور أكثر إلحاحاً لتنفيذها.
تبقى مصادر التمويل الحكومية سليمة. وحتى بعد تعزيز الإنفاق بنحو ملياري فرنك سويسري، كان يجب أن يكون لدى البلد فائض حكومي متواضع هذا العام – في تناقض واضح مع معظم جيرانه. ولكن في حالة غريبة لا تخلو من التناقضات، تتم ''معاقبة'' سويسرا، بواسطة سعر الصرف، بسبب الإدارة الاقتصادية الصحيحة.
يقول وايتمان: ''ليس الأمر إلى حد كبير كما لو أن أصحاب الأموال والمصرفيين يتلقون ما يستحقونه. وفي عالم مليء بالشكوك، يبحث المستثمرون عن أماكن آمنة يستثمرون فيها أموالهم. ويعتبر الفرنك السويسري من بين أفضل تلك الأماكن''.