قراءة أولية في خطاب نداء مكة.. أو وثيقة المسؤولية عن عالمية المصير
طُرح العديد من المبادرات التي تهدف إلى التقارب والتفاعل الإيجابي بين الحضارات والثقافات، وفي المقابل تلقى العالم أيضا مجموعة من الأطروحات والأفكار التي ترمي إلى خلق الفوضى والتنافر بين الحضارات وأولئك المنتمين لها.
ويأتي نداء مكة الذي انطلق من مكة المكرمة في شهر جمادى الآخرة من العام 1429 الموافق لشهر يونيو 2008، استجابة لدعوة خادم الحرمين الشريفين لعلماء العالم الإسلامي بقصد توجيه رسالة محبة وسلام تحمل في ثناياها دعوة لبناء الإنسان العالمي مرتكزة في مضمونها على المشترك الإنساني.
وبعد التحاور والتفكير خلال المؤتمر الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي، وجه نحو خمسمائة عالم مسلم نداء تاريخيا حمل رسائل مهمة ومباشرة للعالم أجمع جاءت صيغته كما يلي:
''من خلال تدارس المؤتمر للتحديات التي تواجهها الإنسانية، وجه المؤتمر نداء إلى شعوب العالم وحكوماته ومنظماته، على اختلاف أديانهم وثقافاتهم.
ودعاهم إلى:
- التفاهم بيننا وبينهم بأن نؤمن بالله خالقنا ونعبده وحده ونلتمس هديه الذي أنزله على أنبيائه.
- أن نواجه متحدين مظاهر الظلم والطغيان والاستعلاء، ونتعاضد في إنهاء الحروب والصراعات والمشكلات الدولية، ونعمل سويا على إشاعة ثقافة التسامح والحوار ودعم مؤسساته وتطوير آفاقه، واعتماده وسيلة للتفاهم والتعاون وتوطيد ركائز السلم العالمي والكف عن هدر موارد الإنسانية ومواهبها في إنتاج أسلحة الدمار الشامل التي تهدد مستقبل الأرض بالفناء.
- التعاون على إشاعة القيم الفاضلة وبناء منظومة عالمية للأخلاق تتصدى لهجمة الانحلال الأخلاقي، وتواجه العلاقات غير الشرعية، خارج إطار الزواج، وتعالج الأخطار المحدقة بالأسرة بما يصون حق الجميع في العيش ضمن أسرة سعيدة.
- السعي معا في عمارة الأرض وفق مشيئة الخالق الذي أناط بأبينا آدم وذريته عمارتها وإصلاحها ووقف الاعتداء على حق الأجيال القادمة في العيش في بيئة نقية من التلوث بأنواعه المختلفة، والحد من أخطاره بالسعي المشترك للتخفيف من آثاره وترشيد التقدم الصناعي والتقني.
- التعاون في إصلاح الواقع الكوني الذي عم معظمه الفساد والشقاء وجعله واقعا تشمله رحمة الله التي هي جوهر ما أرسل به نبينا محمد عليه وعلى أنبياء الله الصلاة والسلام (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)''.
نلاحظ من خلال قراءة أولية دون الاستغراق في تحليل علمي معمق أن النداء حمل مضامين وتوجهات تجاوزت الكثير من الخطابات المألوفة واتسم بأنه:
• انطلق من حقيقة مفادها أن ما تضمنته وتطرحه الوثيقة هو من صميم الدين الإسلامي وأن الحوار والسعي نحو كرامة الإنسان لا يشكل مدخلا أو فكرا جديدا على مبادئ الدين الإسلامي وإنما يأتي دور النداء كأبلغ رد على من أراد تغييب هذه الحقيقة بقصد أو من دون قصد وبإجماع عدد كبير من علماء المسلمين ومن شتى جهات العالم الإسلامي.
• وثيقة موحدة بمعنى أنها حظيت بإجماع عدد كبير ومهم من رجال الدين والمفكرين من جميع الفرق والانتماءات الإسلامية واتفق الجميع على إطلاق وثيقة عالمية تتسم بهذه الدقة من التوازن والعمق وتتناول علاقة المسلم بغيره متجاوزين بذلك الخلافات في العقيدة والتفاصيل الأخرى.
• خطاب النداء جاء مباشرا ولا يحمل أي ملمح أو علامة من علامات التردد على خلاف ما نلاحظه في الكثير من الخطابات والنداءات التي أطلقها من ينتمون إلى أديان وعقائد مختلفة وتهدف إلى الدعوة إلى التحاور والتفاهم بين الأديان.. ومن الممكن الاستشهاد بالخطاب المهم الذي ألقاه البابا بعد يومين من نداء مكة الموجه إلى المجمع البابوي يناقش فيه موضوع الحوار بين أتباع الأديان وإمكانية تحقيقه، وفيه ركز البابا على أهمية الحوار والتفاعل مع الآخرين ولكنه في نفس الوقت أشار إلى أن عملية الحوار تستحق التأمل.. ومن هنا من الممكن القول إن هناك تفاوتا واضحا في القناعة في السير نحو الحوار البناء بين العالمين الإسلامي والمسيحي خصوصا في الوقت الراهن.. وأن نداء مكة تجاوز الكثير من المبادرات وحمل خطابا واضحا وقويا نحو الحوار والتفاهم والتركيز على المشتركات.. والسؤال الذي من الممكن طرحه هنا هل جاء خطاب البابا بتوقيته الزمني ردا على نداء مكة؟
• حمل النداء خطابا عاما موجها للإنسانية بكل انتماءاتها دون ممارسة عمليات عزل أو تحييد لأي انتماء ثقافي حتى تلك التي لا تؤمن ولا تعتقد بالأديان السماوية ويطلق عليها في أدبياتنا الفلسفات الوضعية. وأتت عبارة ''نداء إلى شعوب العالم وحكوماته ومنظماته على اختلاف أديانهم وثقافاتهم'' لتشكل خطابا غير مألوف خصوصا في المملكة العربية السعودية ويتجه بعلمائنا نحو الحوار والمصير المشترك مع شعوب العالم على اختلاف أديانهم وثقافاتهم وتعتبر هذه الخطوة بحق، خاصة لمن عايش الأُطروحات والمواقف التي مرت بها المملكة منذ منتصف الثمانينيات الميلادية، إحدى الخطوات المهمة والتاريخية في مسيرة العلاقة بين (نحن والآخر) في بلادنا التي ترددت ولفترة ليست قصيرة من الزمن باتخاذ موقف واضح ومحدد إزاء هذه العلاقة، ويأتي هذا التحول - من دون مواربة - كترجمة لموقف وفكر تبناه وآمن به ودعا ولا يزال يدعو إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز.
• جاء النداء على هيئة وثيقة سياسية حملت خطوطا عريضة لبرنامج سياسي تضمن أن تعاد الأخلاق إلى مركز اهتمام المجتمعات الإنسانية واتخذ موقفا من الأسرة وقدم رؤية الدين الإسلامي لهذه النواة المهمة للإنسانية والدور الذي تشكله العلاقات الشرعية في حمل المجتمعات نحو الاستقرار والتضامن.
• وعبر النداء عن توجسه وخيفته من الممارسات التي تقوم بها المجتمعات الصناعية بحق البيئة والخطر الذي يحدق بالعالم بسبب التلوث وأن نقوم بواجبنا تجاه الأجيال القادمة والمخاطر التي تواجهها نظير العبث في البيئة...
كما ركز النداء على دعوة شعوب وصناع القرار في العالم إلى التعاون في مواجهة ظلم الشعوب والعمل على إفشاء العدل وتبني مفهوم ومنهجية الحوار في التعاطي مع المشكلات والصراعات والاتجاه نحو إنهاء الحروب والتوقف عن هدر ممتلكات الشعوب والأجيال في السباق المحموم في امتلاك الأسلحة التي لا طائل منها سوى الهلاك والدمار.
• تضمنت الوثيقة الدعوة إلى تبني مفهوم مهم في العلاقات الدولية تمثل في الدعوة والحرص على مراعاة عالمية المصير للإنسان والعالم وذلك من منطلق أن العالم اليوم يعيش ضمور المحلية لصالح العالمية وأن مصير الكون في زمننا الراهن أصبح يحتم على الجميع التفاعل المشترك إزاء التحديات التي تواجهه اليوم، وأن خيار العزلة والتفرد خيار ليس فقط غير محمود العواقب بل إنه خيار كارثي على المجتمعات.
والوثيقة في تركيزها على هذا المفهوم وعت أننا نعيش اليوم زمن العلاقة الجبرية بين سلامة الأنا والآخر ما يتطلب منا التعاون والعمل المشترك متجاوزين مفهوم المساعدة والشفقة والقناعة التامة بالمصير المشترك وأن لا فضل لأحد على أحد وأن السعي لسلامة غيرنا هو طريق سلامتنا. ويمكن اعتبار ما يحدث اليوم من تهاو للأسواق العالمية نتيجة المغامرات الفردية وغير المسؤولة التي يدفع اليوم العالم أجمع ثمنها الباهظ اقتصاديا واجتماعيا، أحد الأدلة العميقة على حتمية الإجماع على عالمية المصير.. باختصار شديد ما من دولة في العالم اليوم تستطيع أن تقرر أو تزعم أن تواجه بمفردها أخطارا كونية كالتلوث البيئي أو الإرهاب أو سوق المخدرات الذي يشكل ويوازي وفقا للوكالات الدولية سوق النفط.
هذه بعض المضامين والدلالات والمعاني التي حملها خطاب نداء مكة والتي تقودنا حتما إلى التساؤل عن واقع النداء اليوم وهل نال القيمة والاستقبال الذي يستحقه؟
من المؤكد أن المملكة سجلت حضورا مهما وواضحا في فضاءات ومنتديات الحوار العالمية مرتكزة على وثيقة متماسكة وشاملة انطلقت من عمق العالم الإسلامي بما يحمله المكان من أهمية ومكانة ورمزية منحته قوة دفع تجاوزت الكثير من المبادرات التي انطلقت وتسير في نفس الاتجاه.
وفي نفس الوقت من الجلي أنه بالرغم من أهمية ورمزية النداء إلا أنه لم يتم الاستفادة منه وتفعيله بما يتسق وأهميته وصولا إلى اعتباره منعطفا تاريخيا فيما يتعلق برؤية وعلاقة الإسلام بالآخر سواء على المستوى الوطني أو الكوني.
والمأمول هو أن يُستَثمَر النداء ويصبح إحدى الركائز الأساسية التي يدور حولها كل ما من شأنه التعاطي والاهتمام بالعلاقة بين (نحن والآخرون).. ولكي يتحقق ذلك من المهم السير نحو تفعيل أكثر عمقا للنداء ومضامينه عبر مسارين مهمين:
الأول: اعتبار النداء أحد النصوص الأساسية التي تقدمها الدول الإسلامية وخصوصا المملكة العربية السعودية منطلقة مما يحمله من مبادئ وقيم لتأسيس مفهوم يكاد يغيب عن فضائنا والمتمثل في التربية على الغير أو الآخر.. والاستفادة من بعض التجارب الغربية التي خطت خطوات مهمة في أدواتها التي تستخدمها في إدارة العلاقة مع الآخر والاهتمام بحضوره واندماجه وقبوله والتعاطي معه ومحاولة بلورة هذا الحضور كعامل إثراء ثقافي مهم للمجتمع المضيف.
الثاني: بما أن النداء انطلق من المملكة وأيده مجموعة من علمائنا فإنه لزاما على المجتمع بجميع أطيافه ومؤسساته استثماره كونه تجاوز الكثير من الآراء المتشددة التي تنطلق من منطلقات محددة أخفقت بما لا يدع مجالا للشك أو التردد في مسايرة متطلبات الظروف الراهنة التي يمر بها العالم العربي والإسلامي وكذلك مسايرة الفكر والتوجه الذي يسير في فلكه وطننا في الوقت الراهن.
ولا بد من القول إن استثمار النداء وتفعيل محتواه لن يتم إلا بأن تشكل القيم والأسس التي يحملها النداء أهم أهداف مناهجنا الدراسية .. وأن نغرس في أذهان الأجيال وجود الآخر واختلافه وأن نثبت لهم أن هناك أكثر من طريقة للتفكير وللعيش وأن القيم الكبرى لا تتزعزع باحترام الاختلاف وإنما الفوارق تكمن في المعايير التي تدور حولها تلك القيم وتختلف باختلاف المجتمعات والثقافات وأن التعمق في الاختلاف لا يؤثر تأثيرا سلبيا على قيمنا ولا يبعدنا عنها، بل على العكس يشكل السبيل والطريق السليم لتمسكنا بها.
وإن كان لا بد من ختام فمن المهم القول إن سبب التوقف واستعراض النداء ومحاولة تفكيكه بشكل عابر هو الشعور بأهمية أن يستجيب المجتمع لنداء الفضيلة والقيم المشتركة وأن نحاول جميعا تضييق الهوة بين الإرادة السياسية وبعض القوى في مجتمعنا.