نهاية القذافي وبداية عصر ليبيا جديدة
لا يعني الخلاص من القذافي ونظامه نهاية أزمات وحلّ مشكلات ليبيا، بل ستواجه ليبيا في المرحلة الانتقالية تحديات صعبة واستحقاقات لا تحتمل التأخير وعدم النظر فيها، وتستلزم بذل الجهود والعمل على حلها، ولعل أول التحديات هو إعادة بناء ليبيا بوصفها دولة وطنية تعددية، ذات مؤسسات وأجهزة حديثة وقوية، وترميم كافة البنيات التي خرّبها النظام السابق.
أعلن دخول الثوار الليبيين العاصمة طرابلس، مساء الحادي والعشرين من الشهر الجاري، سقوط أهم ما تبقى من معاقل نظام القذافي، بداية النهاية لصفحة قاتمة من تاريخ ليبيا، عاشتها مع حكم الفرد المطلق والاستبداد والقمع والفساد، وامتدت إلى ما يقارب الـ42 عاما، لتدخل عصرا جديدا، بدأت ملامحه ترتسم مع قيام ثورة الـ17 من شباط (فبراير) 2011، التي بدأت مطلبية وسلمية، عبر حراك احتجاجي شعبي، طالب فيه المحتجون بالحرية والمساواة والكرامة والديمقراطية، لكن نظام القذافي تصرّف، وكأنه باق في السلطة إلى الأبد، وعاش حالة إنكار ورفض لأية دعوة لرحيله، ولم يتوان عن استخدام جميع الوسائل العسكرية المتاحة له لضرب المعارضين وقمع الثورة، معتبرا أن كل الوسائل مبررة لضمان بقائه في السلطة، الأمر الذي فسّر ضربه عرض الحائط بكل قيم الحرب والروادع التي يفرضها القانون الدولي في ضبط الحروب والنزاعات.
واستدعى العنف المفرط والقتل اللذان مارسهما القذافي وأزلامه ضد شعبه إلى تدويل الأزمة الليبية، وتدخل مجلس الأمن الدولي، وإتاحة المجال للتدخل العسكري لقوات من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واضطرار معظم شباب الثورة الشعبية إلى حمل السلاح، وخوض معارك الكر والفرّ مع كتائب القذافي وقواته الأمنية في العديد من المدن والبلدات والقرى الليبية، لكن، في نهاية الأمر انهار نظام القذافي وانتصرت ثورة الشعب الليبي، الأمر الذي يضيف مكسبا جديدا للربيع العربي، ويقدم دفعا للثورات والانتفاضات في البلدان العربية الأخرى.
ولادة جديدة
و مع نهاية حكم القذافي، فإن المرحلة الجديدة التي بدأت في تاريخ ليبيا لن تكون سهلة، خصوصا بعد الدمار الكبير الذي أصاب البلد، فإعادة بناء المؤسسات والأجهزة، وخصوصا إعادة بناء مؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية، وإعمار ما دمّر في ليبيا تتطلب تضافر جهود جميع الليبيين بمختلف فئاتهم وقواهم وتمثيلاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولعلّ المرحلة الأصعب بعد الولادة الجديدة التي أعلنها انتصار الثورة، هي بناء ليبيا جديدة، تعددية وديمقراطية وتحترم حقوق الناس وانتماءاتهم السياسية، وتنهض على المواطنة واحترام الحريات الفردية والعامة وبناء دولة حديثة تقطع مع المرحلة السابقة. وعليه، يواجه قادة ليبيا الجدد امتحانا صعبا، يتمثل في الكيفية التي ستدار بها ليبيا في المرحلة الانتقالية المقبلة، والصورة التي ستتشكل وتقدمها للشعب الليبي في مرحلة ما بعد القذافي، خصوصا وأن المعارضة السياسية الليبية ذات طيف واسع، وتعاني انقسامات واختلافات في الرؤى واضحة للعيان؛ لذلك، فإن المهمة الأولى هي التوافق على توحيد الجهود والتوافق على سبل مشاركة كل الأطياف السياسية في المرحلة الانتقالية، وعدم اللجوء إلى الإقصاء السياسي، وإتاحة الفرصة أمام جميع الليبيين في رسم مستقبل ليبيا، بوصفها فضاء يتسع للجميع، وبوتقة لجمعهم من خلال الممارسة الحرة الديمقراطية، التي تحقق أفضل السبل لبلوغ غايات الثورة في الحرية والعدالة والمساواة، وتأمين سبل وممكنات العيش الكريم للمواطن الليبي الذي عانى طويلا الإقصاء والتهميش والاضطهاد والاحتقار في ظل نظام القذافي، الذي حاول مسخ الفرد الليبي، وتحويله إلى مجرد نسخة مشابهة ومصغّرة للعقيد وأبنائه. فيما يمتلك الشعب الليبي طاقات كبيرة، وبرهن شبابه ورجاله أنهم تواقون للخلاص من الاستبداد، وقدموا تضحيات كبيرة وغالية في الأرواح والممتلكات من أجل تحررهم وخلاصهم. ومن المهم جدا أن يقدم دخول الثوار إلى طرابلس الدليل والشاهد على الفصل المشرق والجديد من تاريخ ليبيا، الذي فتحته ثورة السابع عشر من فبراير لجميع أبناء الشعب الليبي، وأن تعلن هذه الثورة عودة ليبيا الطبيعية إلى شعبها، وإلى الأسرة العربية والدولية.
وتعلن ولادة ليبيا الجديدة فشل جميع التكهنات التي تحدثت عن تقسيم ليبيا، أو انزلاقها إلى أتون حرب أهلية، وأثبتت بطلانها وعدم تحققها، بالرغم من محاولات واستفزازات أجهزة وأزلام النظام السابق، حيث استند تقسيم ليبيا إلى إصرار القذافي على البقاء في الحكم، فراح يطلق تهديداته بالحرب الأهلية، من خلال المراهنة على ظروف وتركيبة ليبيا الاجتماعية والتاريخية، وإمكانية إحداث شرخ بين القبائل والمناطق الجهوية، وبما يترك آثارا سلبية في مستقبل البلاد، وجرها إلى أتون صراع أهلي. ولم يتوقف القذافي وابنه سيف الإسلام عن التركيز على وجود انقسام بين الشرق والغرب، وبين بنغازي وطرابلس، والعودة بهما إلى ما قبل مرحلة الملك إدريس السنوسي، مع أن الشعب الليبي وضع تلك المرحلة الماضية من الانقسام وراء ظهره، حيث أصر الثوار الليبيون والمجلس الوطني الانتقالي على وحدة الشعب الليبي ووحدة ترابه ودماء شهدائه، وعلى أنهم لن يتوقفوا إلا عندما لم تتخلص طرابلس وسرت وسبها وسائر المدن والمناطق الليبية الأخرى من حكم القدافي وأزلامه، وبالتالي فإن من مهام مرحلة ما بعد القذافي هو تمكن الليبيين من بناء دولة وطنية لكافة أبناء الشعب الليبي، وذلك بالاستناد إلى تاريخ ليبيا الحديث المناهض للاستعمار، وإلى تجربتها كدولة تشكلت في عام 1953، ثم اختطفت من طرف نظام استبدادي مطلق، عمل طول عهده على تخريب النسيج الوطني، واختصر المصلحة الوطنية بمصلحة ''قائد الثورة''، واحتكر وبدّد ثروات الشعب الليبي.
مقدمات الانهيار
بالرغم من أن نهاية نظام القذافي كانت أمرا محتوما، إلا أن السقوط السريع للعاصمة طرابلس بيد الثوار أثار علامات الاستغراب، خصوصا وأنها كانت تعتبر حصنا له، وأنه كان مصرا على البقاء فيها حتى النهاية، وراح القذافي يطلق التسجيلات الصوتية الداعية للتصدي للثوار. ولعل مقدمات هذا الانهيار السريع لكتائب القذافي وقواته الأمنية والعسكرية عديدة، وأبرزها كان انشقاق الرائد عبد السلام جلود، الذي كان يعتبر الرجل الثاني فيما اعتبر ''ثورة الفاتح من سبتمبر 1969''، وانضمامه إلى صفوف معارضة نظام القذافي، الأمر الذي وجه ضربة قوية للأخير، خصوصا وأنه يتمتع بخبرة سياسية ويحظى بمكانة داخلية، حسب بعض التقديرات التي تتكهن بإمكانية قيامه بدور سياسي في المرحلة الانتقالية، لكن ذلك يبدو بعيدا، بالنظر إلى تأخره في الانشقاق والانضمام إلى المعارضة. كما أن اعتراف الدولة التونسية بالمجلس الوطني الليبي الانتقالي مع انطلاق الثوار باتجاه طرابلس أسهم في تقوية مقدمات انهيار النظام القذافي، بالنظر إلى تأخر تونس باتخاذ موقف من الأزمة الليبية طوال الأشهر الستة الماضية، وظهورها خلال هذه الفترة بموقف البلد المحايد مما يجري داخل الجار الليبي. وعلى الأرض، حققت قوات الثوار تقدما ساحقا في المدن النفطية الاستراتيجية، مثل البريقة والزاوية، الأمر الذي أفضى إلى انهيار قوات القذافي وكتائبه، وأفسح المجال للوصول إلى العاصمة طرابلس، التي تتمتع بأهمية خاصة ورمزية في ليبيا، ويسكنها ثلث الشعب الليبي.
التحديات والاستحقاقات:
لا يعني الخلاص من القذافي ونظامه نهاية أزمات وحلّ مشكلات ليبيا، بل ستواجه ليبيا في المرحلة الانتقالية تحديات صعبة واستحقاقات لا تحتمل التأخير وعدم النظر فيها، وتستلزم بذل الجهود والعمل على حلها، ولعل أول التحديات هو إعادة بناء ليبيا بوصفها دولة وطنية تعددية، ذات مؤسسات وأجهزة حديثة وقوية، وترميم كافة البنيات التي خرّبها النظام السابق. والأهم هو التوافق على طبيعة وشكل المرحلة الانتقالية والاتفاق على الأساسيات، على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك بصرف النظر عن الاختلافات في الطروحات والتوجهات الفكرية والسياسية، التي عليها أن تحتكم إلى الممارسات والمبادئ الديمقراطية، وبما يؤمن الانتقال من مرحلة الثورة إلى بناء الدولة، خاصة وأن حكم القذافي أشاع الفوضى في ليبيا، حيث الجهاز السياسي الذي حكمها مختلف عن سائر الأنظمة الحاكمة في مختلف أنحاء العالم، سواء الجمهورية منها أم الملكية، فالعقيد كان يترفع بغطرسة عن تسمية نفسه رئيسا أو صاحب سلطة، ويزعم أنه أعطى السلطة للشعب عن طريق ''اللجان الثورية''، التي هي أشبه بمافيات تلتف حول شخص القذافي، وتسلك سلوك العصابات في مواجهة باقي أفراد الشعب، فيما تسود الفوضى كل مناحي ومفاصل الدولة وأجهزتها، وتخترق نسيج ''الجماهيرية الليبية العظمى''. وهنا يبرز دور قيادات المجلس الوطني الانتقالي الليبي وقيادات الثوار في البحث عن ممكنات التوافق، والشروع في مرحلة البناء، وعدم إتاحة الفرصة لحصول أي فراغ في السلطة، يفضي إلى انتهاك الحرمات والتعدي على ممتلكات الليبيين وعلى الممتلكات العامة، أو اللجوء إلى العمليات الثأرية والانتقامية من بعض رموز النظام السابق، خارج إطار القانون والمحاكمات القانونية.
ولا شك أن مكونات المعارضة الليبية متنوعة اجتماعيا ومختلفة إيديولوجيا وسياسيا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تكوينات الثوار، لكن المشتركات بينهم كثيرة ومهمة، وأهمها هو الخلاص من حكم القذافي وإسقاط نظامه بشكل كامل. والمفترض بعد الخلاص من القذافي البحث عن سبل حلّ الإشكاليات والتباينات الاجتماعية والاقتصادية، حيث ما زالت القبيلة تفعل فعلها في النسيج الاجتماعي الليبي، وهناك تفاوتات اقتصادية كبيرة على مستوى الأفراد وعلى مستوى المدن والمناطق والقرى الليبية؛ لذلك من المهم الالتفات إلى عدم الركون إلى الولاءات القبلية، وتركها تتحكم في مرحلة ما بعد القذافي، بوصفها مرجعيات تتقدم على مرجعية الدولة والأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية وسواها.
ولا ننسى الدور الخارجي في الثورة الليبية، حيث يشير واقع الحال إلى ثورة 17 شباط (فبراير) أعادت النقاش مجددا حول علاقة الخارج بالداخل في عالم اليوم، ولم يكن واضحا التمييز، على المستويين النظري والعملي، ما بين الحظر الجوي لحماية المدنيين بشكل خاص والتدخل العسكري الخارجي على الأرض بشكل عام، لكن الأهم هو إدراك ماهيّة الاستحقاقات الخارجية، بوصفها تحديا في المرحلة الانتقالية، تتطلب التعامل معها بما يخدم المصلحة الوطنية مع عدم التنكر لدور حلف الأطلسي في مساندة الثورة، وحماية المدنيين من عمليات القتل التي مارسها نظام القذافي. ولا شك في أن هناك أموالا طائلة قد صرفت، وتتحمل ليبيا قسطا كبيرا من نفقات التدخل العسكري لحف الأطلسي، إضافة إلى وجود المصالح الدولية في ليبيا، التي تتركز، بشكل أساسي، في موارد الطاقة والاستحواذ على مناطق النفوذ في الشمال الإفريقي، حيت تمتلك ليبيا ميزة نسبية لنّفطها، من حيث الجودة وانخفاض كلفتي الاستخراج والتصدير، وذلك بالنظر لقرب حقول البترول من شواطئ البحر الأبيض المتوسط، بما يجعله قريبا من الأسواق الأوروبية، إلى جانب الثروات والميزات الجيوسياسية الليبية الأخرى.
وتقدم الثورة الليبية مثالا على هشاشة النظام الليبي، التي استدعت ''الخارج'' كي يخترق ''الداخل'' ويحركه من دون قدرة النظام على مواجهة الأزمة الوطنية إلا باستخدام القوة والعنف المفرط، لكن يبقى أن الخلاص من حكم القذافي سيترك إرهاصاته وتداعياته على باقي الانتفاضات والثورات في البلدان العربية الأخرى، ويترك أثرا على سير حراكهم وانتفاضاتهم. ومن المهم هو أن تدرك الأنظمة الاستبدادية أن لا جدوى من الرهان على الحل العسكري والأمني، الذي ينشر القتل والقمع والفوضى والرعب؛ لأن الشعب سيكسب الرهان في نهاية المطاف، وعليها أن تتعظ من الدلالات الكبرى المرتبطة بالثورة الليبية، وقبلها الثورتان التونسية والمصرية، والاستفادة من الدروس حقنا لدماء الأبرياء من أطفال وشباب ونساء وشيوخ.