الحركات الاحتجاجية العربية .. لماذا تعثرت وعجزت عن تحقيق أهدافها؟

المعضلة التي يواجهها المحتجون، أنهم تحركوا في محاكاة لحراك آخر، بدأ في تونس وانتقل بسرعة الهشيم إلى مصر وتواصل في ليبيا واليمن وسورية... في مواجهة أنظمة فاشلة أثبتت قدرتها على الاستمرارية، لعقود طويلة. وخلال عقود سطوتها تمكنت من تجريف المعارضات السياسية، بمختلف توجهاتها. ولم يعد في الساحة، قوى سياسية قادرة على التصدي لها.

اندلعت الحركات الاحتجاجية في عدد من الأقطار العربية، منذ مطلع هذا العام. ورغم مضي ما يقرب من الثمانية أشهر على اندلاعها، لا يبدو في الأفق ما يشي باقترابها من تحقيق أهدافها. السؤال الذي نناقشه بروح نقدية في هذا الحديث، وأحاديث أخرى قادمة: لماذا تعثرت هذه الحركات وعجزت عن تحقيق أهدافها؟
السؤال نفسه بطريقة طرحه يبدو مرتبكا، وربما حمل في ثناياه بعض مفاتيح الإجابة. فالحديث عن الحركة الاحتجاجية يلغي الطابع العفوي عن الحراك الشعبي، الذي بدا على السطح، وطبع ما أصبح متعارفا عليه بالربيع العربي. فالحركة شرطها الوعي والتأسيس والتنظيم ووضوح الهدف، وجميعها كل لا يتجزأ، وذلك ما لا يبدو متحققا في الحراك العربي.
أما الأهداف، فهناك تماثل في جميع البلدان التي شهدت ''هذا الربيع''. تبدأ المسيرات بالمطالبة بتحقيق الإصلاح السياسي، ثم ما تلبث بعد فترة وجيزة في رفع سقف المطالب، لتختزل في إسقاط النظام. ولأن الحركة عفوية، فمن الطبيعي أن تغيب عنها الأهداف والبرامج والاستراتيجيات. الهدف كما يطرحه المحتجون هو استبدال نظم فاشلة بأخرى قادرة على مقابلة استحقاقات الناس.
المعضلة التي يواجهها المحتجون، أنهم تحركوا في محاكاة لحراك آخر، بدأ في تونس وانتقل بسرعة الهشيم إلى مصر وتواصل في ليبيا واليمن وسورية... في مواجهة أنظمة فاشلة أثبتت قدرتها على الاستمرارية، لعقود طويلة. وخلال عقود سطوتها تمكنت من تجريف المعارضات السياسية، بمختلف توجهاتها. ولم يعد في الساحة، قوى سياسية قادرة على التصدي لها.
سياقات الحراك العربي، رغم أنها بدت عفوية، لكن دقة تنظيمها وسياقات تداعيها توحي بأمور غير ذلك، لعل المستقبل يتكفل بالكشف تفصيليا عن مكنونها. إلا أن دقة الحراك وحتى مع التسليم بوجود قوى تتستر خلفه، لا يلغي عفويته. فعفويته لم تقتصر فقط على غياب الأهداف، بل تمثلت في غياب الأجندات والبرامج السياسية، لما بعد ''إسقاط النظام''.
ذلك يطرح مسألة أخرى غاية في الأهمية: هل يمكن المطالبة بإسقاط الدولة الفاشلة، دونما يقظة أو تهيؤ لما سيأتي بعد ذلك؟.. لقد مكّن غياب طرح مثل هذه الأسئلة المنهجية القوى السياسية التقليدية المعارضة للمسارعة إلى اختطاف ''ثورتي تونس ومصر''؛ ولأن هذه القوى التقليدية غير متجانسة في توجهاتها ونظرتها للمستقبل، غاب المشروع النهضوي والتنموي عن هاتين الثورتين. وأصبح الهدف مكرسا في المبتدأ والخبر لإسقاط النظام، ولم يتضح أفق المستقبل، سوى في شعارات مبهمة تطرح الحرية والديمقراطية وتداول السلطة، وإعادة صياغة الدستور أو إصدار دستور جديد، دونما اتفاق على آليات لتحقيق هذه الشعارات.
والواقع أنه رغم مضي ثمانية أشهر على اندلاع الحراك الاحتجاجي، فإن التجربتين الوحيدتين التي تمكّن فيها المحتجون من إسقاط النظام، هما تجربة تونس ومصر، وترنح نظام العقيد القذافي في الأيام الأخيرة، بعد دخول ''الثوار'' العاصمة طرابلس، أما بقية البلدان الأخرى، فإن الحراك لا يزال يراوح مكانه.
والسائد لدى معظم الناس، أن عامل الحسم في تجربتي تونس ومصر يعود لانحياز مؤسسة الجيش في البلدين إلى الانتفاضة الشعبية. والأمر يبدو كذلك، لكن أليس من حق المراقب أن يقلب المعادلة فيقول بانحياز الشعب لمؤسسة الجيش، بدلا من القول بانحياز الجيش إلى الشعب؟.. من غير المنطقي، تصور انقلاب مفاجئ في ولاء الجيش، من التأييد الكامل للنظامين اللذين سادا في تونس ومصر لعدة عقود إلى تأييد ثورة الشعب، هكذا دون مقدمات. وهنا يطل الجواب الافتراضي عن القوة الخفية المحتملة التي دفعت بالحراك الشعبي العفوي.
في الحالة المصرية، على سبيل المثال، حسم الجيش موقفه وانحاز لحركة الشارع، منذ 28 كانون الثاني (يناير) بعد ثلاثة أيام فقط من بداية حركة الاحتجاجات، حين قام بطرد الأجهزة الأمنية من الشارع. واستمر ينتظر فرصته لاستلام السلطة إلى 11 شباط (فبراير)، بعد 18 يوما من حركة الاحتجاجات. هل كان الانحياز محض صدفة، أم أن المقدمات كامنة منذ وقت طويل، وكان الجيش ينتظر فرصة كالتي منحها له شعب مصر، فنفذ في طرفة عين مشروعا تطلع إلى تنفيذه، منذ بدأ الحديث عن توريث جمال مبارك، وتحييد المؤسسة العسكرية، وإبعادها عن النفوذ الذي تمتعت به منذ 23 تموز (يوليو) عام 1952؟.. وإذا كان الأمر كذلك فإن الشعب هو الذي انحاز للجيش، وأمّن له تنفيذ مشروعه وليس العكس.
الذين يتحدثون عن انحياز الجيش الدائم للشعب المصري، ويستدلون على ذلك، برفضه قمع الانتفاضات الشعبية التي حدثت في تاريخ مصر المعاصر، عليهم أن يتذكروا أن انتقالا استراتيجيا حدث في السياسة المصرية منذ منتصف السبعينيات، واستمر في خط بياني تصاعدي، على حساب سيادة مصر وحضورها التاريخي العربي والإقليمي، وكانت المؤسسة العسكرية شريكة بشكل أو بآخر في هذا الانتقال. نقول ذلك بقصد التشخيص لا التقييم.
والفارق بين الانقلاب العسكري، في تموز (يوليو) 1952م، وبين استلام الجيش الأخير لسدة الحكم في مصر في شباط (فبراير) من هذا العام، أن انقلاب تموز (يوليو) قام به الجيش، وأدى إلى تحولات سياسية واجتماعية، أسهمت بشكل فاعل في التطورات والتداعيات التاريخية التي شهدتها المنطقة العربية، في حين تسلم المجلس العسكري السلطة في مطلع هذا العام، في ظل غليان شعبي، لكن التحولات السياسية والاجتماعية بقيت حتى هذه اللحظة مغيَّبة بشكل شبه كامل من أجندة ''الثوار'' والعسكر على السواء.
بعد ثمانية أشهر من هذه الأحداث يبدو أننا لا نزال في أول الطريق، والقراءة ينبغي أن تكون حذرة ويقظة. وكافة الاحتمالات لا تزال مفتوحة، ومصر حبلى بالكثير من الأعاصير.
لماذا تراجعت قوة دفع الثورات العربية، بحيث يصح القول إنها باستثناء تونس ومصر، تعثرت في مهدها؟.. الإجابة عن هذا السؤال بديهية، يختزلها احتفاظ الدولة بمؤسساتها وقوتها العسكرية. وهنا نعود لنظرية ثيدا سكوكبول عن أسباب فشل وانتصار الثورات. فهي ترى أن السبب الرئيس في انتصار الثورات يكمن في فشل الدولة في احتواء أسبابها. إن ضعف مقاومات الدولة، سواء كانت فاشلة أم غير ذلك، هو الذي يمنح خصومها فرصة الانقضاض عليها.
في حالات ليبيا واليمن وسورية، لم تنهار مؤسسات الدولة في هذه البلدان ولم تنحاز جيوشها للثوار. وحتى في ليبيا التي تعيش الآن ما يشبه بالحرب الأهلية الطاحنة، فإن العامل الحاسم في الوضع الذي بلغته هو تدخل قوات الناتو وليست قوة دفع الحراك الشعبي. فلم يكن لقوة الدفع هذه أن تنجز مشروع إسقاط نظام العقيد معمر القذافي، لو لم يصدر مجلس الأمن الدولي قراره بحماية المدنيين الليبيين. فذلك القرار هو الذي استخدمه حلف الأطلسي كتفويض أممي له بالقضاء على القوة العسكرية وتدمير البنية التحتية لليبيا؛ مما عبّد الطريق لقوات ''الثوار'' الليبيين لتحقيق برنامجهم، والتقدم بثبات بعد ستة أشهر من القتال، نحو العاصمة طرابلس، وإسقاط النظام.
أما اليمن، فلا يُتوقَّع انهيار شامل للنظام؛ نظرا لتركيبته القبلية. والخشية هي أن ينتقل الصراع القبلي إلى عمق المؤسسة العسكرية. والأمل ألا تتحول البلاد إلى صومال آخر، تضيف إلى حالة الفوضى والتفتت، وتشكل عبئا إضافيا على البقية الباقية من منظومة العمل القومي العربي.
في سورية فشلت الحلول الأمنية في القضاء على الحركة الاحتجاجية، وتصاعدت حمى التهديدات الدولية والإقليمية بالتدخل في الشأن السوري. والأمل أن يسارع النظام إلى اتخاذ إجراءات عملية نحو تفعيل الحراك الإصلاحي، والنأي عن الإفراط في استخدام العنف.
إنها مناسبة ندعو فيها القادة العرب، إلى تفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك، واعتبار موسم الربيع العربي مسألة عربية محضة، ينبغي تجنيب القوى الكبرى من التدخل فيها. ولن يكون تدخل القادة العرب في شؤون البلدان العربية، بما يعزز التقدم والنهوض عملا مستنكرا من شعوبها. وهناك أكثر من سابقة لتدخل عربي عسكري لحماية الأمن والاستقرار في الأقطار العربية. حدث ذلك، على سبيل المثال، أثناء تهديد رئيس الوزراء العراقي، عبد الكريم قاسم باحتلال الكويت، حيث أقرت جامعة الدول العربية، وجود جيوش عربية، على الحدود الكويتية العراقية لمنع أي هجوم على الكويت. كما حدث ذلك، في منتصف السبعينيات، حين دخلت قوات سورية إلى لبنان، لمنع الاحتراب الداخلي، وعقدت قمة سداسية في الرياض، أقرت تشكيل قوات ردع عربية، لحماية لبنان.
ينبغي الاتفاق على عقد عربي جماعي بمقابلة استحقاقات الناس فيما يتماهى مع التحولات التي يشهدها عصرنا، عصر الحرية والاعتراف بحقوق الناس وبمبدأ تكافؤ الفرص، قبل أن يجرفنا الإعصار، وذلك وحده هو الحل، الذي يحفظ العزة والكرامة، ويبعد الأمة عن دائرة الاستهداف والعدوان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي