فضائح الاقتصاد العالمي.. «موديز»

يبدو أن المصائب لا تأتي فرادي على الاقتصاد العالمي، وأن حبات العقد بدأت تنتثر في كل الأرجاء، ولكنها اليوم في أرجاء وكالات التصنيف الائتماني التي كتبنا عنها قبل أسبوعين في هذه الجريدة تحت عنوان ''مرة أخرى .. وكالات التصنيف الائتماني''، عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تواجه خطر خفض التصنيف الائتماني، وتحدثنا عن وكالات التصنيف الائتماني العالمي (موديز، فيتش، ستاندرد آند بورز) تحديدا، ودورها (ودور غيرها) المشبوه في مصائب العالم الاقتصادية القديمة والحديثة. فهذه الوكالات يشوبها كثير من علامات الاستفهام حول نزاهتها، وأثبتت الأحداث الاقتصادية التاريخية أن تلك التساؤلات كانت في محلها.
فبعد تراجع ''موديز'' عن التهديدات بخفض تصنيف الولايات المتحدة الائتماني في حالة عدم توصل المشرع الأمريكي إلى اتفاق بشأن رفع سقف الدين الأمريكي، وقبل التوصل إلى اتفاق قامت ''موديز'' باستباق إعلان الاتفاق بأخبار عن تراجعها المبهم عن خفض التصنيف حتى في حالة فشل رفع سقف الدين، وأنها تثق بأن الولايات المتحدة ستكون قادرة على وضع خطوات صحيحة للخروج من أزمة الدين، بعد ذلك قامت ''ستاندرد آند بورز'' بعمل المحظور وخفضت تصنيف الولايات المتحدة الائتماني درجة واحدة من AAA إلى AA+، وبعدها خفضت التصنيف الائتماني لسندات سيادية إسرائيلية مضمونة من الحكومة الأمريكية بقيمة تقترب من ستة مليارات دولار تستحق بين 2023 و2026. بالخفض من AAA إلى AA+، أسوة بأمريكا!!
ولأن ما حدث كان من المحظور أو فصلا من فصول المسرحية اللامنتهية، قامت وزارة العدل الأمريكية بفتح باب التحقيق في شبهات تحوم حول مصداقية وكالة ''ستاندرد آند بورز'' للتصنيف الائتماني، ودورها في منح درجات التصنيف لعديد من الشركات الأمريكية الكبرى، منها على وجه الخصوص شركات عقارية. واحتمال إسهام هذه التصنيفات في وقوع أزمة عقارية في البلاد كانت السبب الرئيس في اندلاع الأزمة المالية، بعد أكثر من سنتين على وقوع كارثة 2008!!!
ولعل القاصمة في مسلسل وكالات التصنيف الائتماني، ظهر من خلال تقرير وليام هارينغتون وهو نائب الرئيس الأعلى في وكالة موديز خلال الفترة من 2006 إلى أن قدم استقالته في عام 2010، وذكر فيه صراحة الفساد وتضارب المصالح في ''موديز''، ولعل تضارب المصالح هو ما نعلمه جميعا من قبل، حيث إن البنوك والشركات تدفع مبالغ مالية مقابل حصولها على تصنيفات أعلى، ولا أعلم لماذا - اليوم فقط - أصبحت هذه تهمة في الشرع الأمريكي!! عموما حديث وليام هارينغتون تعدى ذلك بحيث أعطى تفاصيل كثيرة عن الفساد في واحدة من أكبر وكالات التصنيف الائتماني في العالم، ومن ذلك أن التصنيف الائتماني لكثير من المنشآت يظهر للعلن بشكل مختلف عما خلص إليه التحليل الائتماني الذي يقوم به فريق المحليين. وبغض النظر عما ستقوم به ''موديز'' من رد على معلومات وليام وهو موظفها السابق، أقول بغض النظر، فإن هذه الفضيحة هي امتداد لتاريخ من الفضائح، كان لأصحاب المصالح العليا فائدة من غض الطرف عنها، وقد يكون في رأيهم اليوم أن ينتهي دور ''موديز'' وغيرها بعد أن نجحوا في مهمتهم خلال سنوات طويلة.
وطبعا فإن الحديث عن توثيق تنفيذيين سيرهم ومذكراتهم أو كشفهم أسرارا معينة، هو أمر طبيعي ومتوقع، ولكن السؤال المهم دائما: هل هناك مصلحة لطرف معين لاستخدام تلك المعلومات؟ ولعلي هنا بحكم الاهتمام أتذكر أحد أهم الكتب التي قرأتها في هذا المجال وهو ما كتبه جون بيركنز، مؤلف كتاب ''اعترافات سفاح اقتصادي''، وكان جون قد عمل من سنة 1971 إلى 1981 لدى شركة استشارات دولية، حيث احتل منصب كبير الاقتصاديين فيها، وتحدث كثيرا عن أدوار كثيرة مشبوهة لعدد من المؤسسات الدولية وغير الدولية في أحداث اقتصادية متعددة، ودورها في كثير من المآسي الاقتصادية لكثير من دول العالم الثالث، والكتاب يعطي تفسيرات أخرى لعدد من الأحداث الاقتصادية العالمية التي قد يكون جون بيركنز شارك فيها بقصد أو بدون قصد.

الخلاصة: ليس كل ما يعرف يقال، وليس كل ما يقال ينشر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي