العيد: مبروك لمن زادت إنسانيته رسوخا وتألقا
هناك وجه آخر للفرح الكاذب والمزيف في يوم العيد وهو تحويل أيام العيد إلى أيام لهو وتحلل أخلاقي، فهناك من يفهم العيد على أنه فرصة لممارسة الحرام والانغماس في الأعمال غير الأخلاقية تحت عناوين خادعة مثل الفرح والأنس وجلب البهجة وكأن مثل هذه الأمور لا تأتي ولا يشعر بها الإنسان إلا خارج دائرة الحلال والمباح والأخلاق.
يحق للإنسان المسلم أن يفرح وأن يعبر عن سروره وبهجته في يوم العيد بعد إتمام فريضة عظيمة، وهي فريضة الصوم في شهر كل أيامه ولياليه عظيمة لما يتنزل فيها من فيض إلهي ورحمة ربانية تجعل حتى من نوم المؤمن الصائم عبادة ومن أنفاسه تسبيحا وتشرع أبواب السماء لتستقبل بالاستجابة والبركة والمغفرة دعاء الساجدين وبكاء المستغفرين من ذنوبهم وتهجد التائبين العائدين إلى ربهم. وبقدر ما يفرح الإنسان في يوم العيد فإنه يستشعر الوحشة والحزن لانقضاء شهر رمضان، وكيف لا وهو كان في ضيافة الله ينهل من نور الله ويتزود من الكرم الرباني؛ ولهذا نرى أن الدعاء الذي يتردد على ألسنة المؤمنين في يوم العيد هو الدعاء لأنفسهم ولبعضهم بالتوفيق للعودة مجددا لشهر رمضان في السنين القادمة.
ولكن هناك خوفا وتوجسا من أن نفهم العيد فهما خاطئا، فيكون فرحنا فيه فرحا شهوانيا وحيوانيا وليس فرحا إنسانيا. فهناك من يرى العيد على أنه انعتاق وتحرر من الصوم والذي كان يضع القيود على بطنه ورغباته للطعام والشراب فيندفع يوم العيد ليأكل ويشرب بشراهة ومثل هذا الإنسان يعيش فرحا كاذبا ومزيفا؛ لأنه جعل من العيد عودة إلى بطنه وشهواته وليس عودة إلى ربه وإنسانيته. فكيف يكون هناك فرح حقيقي وبطن هذا الإنسان تئن لكثرة ما حشر فيها من طعام وشراب، وكيف يكون هناك فرح وهناك صراخ وعويل تشترك فيه المعدة والكبد والبنكرياس وكل عائلة الجهاز الهضمي والتنفسي لشدة معاناتها وهي تجد نفسها أمام هذا الطعام الكثير والمتنوع ولا تجد عندها القابلية لهضمه وامتصاصه قبل أن يصل إليها الطعام الجديد. كيف تفرح أجسادنا في العيد وهي مشغولة بالليل والنهار بهضم ما نلتهمه من طعام وشراب وما نحملها من سهر وتعب وكسل. صحيح أن الإنسان الجاهل عدو نفسه، فالجهل يحول كل شيء إلى ضده، ففرحة العيد قد نحولها بجهلنا وقلة وعينا إلى أحزان ومآتم في أجسادنا وقد لا نخرج من العيد إلا بعد أن وضعنا أقدامنا على طريق الإصابة بمرض السكري والضغط وغيرها من الأمراض المعروفة.
وهناك وجه آخر للفرح الكاذب والمزيف في يوم العيد وهو تحويل أيام العيد إلى أيام لهو وتحلل أخلاقي، فهناك من يفهم العيد على أنه فرصة لممارسة الحرام والانغماس في الأعمال غير الأخلاقية تحت عناوين خادعة مثل الفرح والأنس وجلب البهجة وكأن مثل هذه الأمور لا تأتي ولا يشعر بها الإنسان إلا خارج دائرة الحلال والمباح والأخلاق. كيف لهذا الإنسان أن يعيش عيدا حقيقيا وفرحا صادقا وهو يخرج من أيام العيد وشهواته وحيوانيته قد انتفخت وتورمت ونفسه قد توسخت وازدادت حقارتها بما لحقها من ممارسات غير أخلاقية وتصرفات لا عقلانية؟
والفرح كقيمة شعورية وإحساس نفسي له طبقات وله أعماق ويختلف الناس في طبقات أفراحهم. فهناك من الناس من لا يلامس فرحهم إلا السطوح والطبقات القشرية من نفوسهم، فهم يأكلون ويشربون ويلعبون ويمرحون في عيدهم ويأخذون من كل هذه الممارسات متعة جسدية لا تهتز لها النفوس في أعماقها. فمن كان يفهم الصوم على أنه فريضة قيدته فقط في طعامه وشرابه ولذاته البطنية فالفرح في العيد والتحسس بلذته يكون حتما بالتحرر من هذا القيد والعودة إلى الطعام والشراب. فالإنسان هو أسير فكره وفهمه وقناعاته، وهذا الإنسان لا يفهم من الصوم إلا الامتناع عن الطعام والشراب فكيف له في العيد إلا يعيش فقط فرحة العودة للأكل والشراب.
وهناك من الناس من يتعمق فهمه لشهر رمضان فينعكس ذلك عمقا في فرحه بالعيد. فهؤلاء الناس يفهمون شهر رمضان على أنه مشروع للعودة بأنفسهم إلى إنسانيتها كما خلقها الله والعيد ما هو إلا محطة في الطريق للاحتفاء بهذه العودة إلى الإنسانية. ففي العيد تكون الفرحة الحقيقية بعودة جزء من إنسانيتنا وبهذه العودة المباركة التي تحققت بفضل شهر رمضان تستطيع نفوسنا أن تتفتح أكثر وأكثر على النور الإلهي الموجود في داخلنا. فنفس الإنسان هي المصنع الحقيقي لحياة الإنسان وشخصيته، ففي داخل النفس تعيش القيم والأخلاق والمبادئ ولكن أيضا تجاورها في السكنى الشهوات والنزوات والأهواء ومصير الإنسان يرتبط بنتيجة هذا التدافع وهذا الصراع المحتدم بين قيمه وشهواته وبين أخلاقه ونزواته وبين مبادئه وأهوائه، (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ...) الآية 11، سورة الرعد. فلن يكون هناك تغير في حياة الإنسان ولن تكون هناك نتيجة إيجابية تنعكس آثارها على شخصيته إلا عندما يكون هناك تغيير إيجابي في داخل نفس الإنسان وعندما تكون هناك نتيجة إيجابية لصالح القيم والأخلاق على حساب الشهوة والأهواء.
فشهر رمضان هو شهر كدح واجتهاد لإعادة المعاني والقيم الإنسانية إلى نفوسنا، فهذا الشهر الكريم الذي ينزل فيه النور الإلهي والرحمة الربانية بغزارة يتيح للنفس الإنسانية أن تستقوي بهذا النور في تعزيز قيمها وأخلاقها ويدعمها في محاربة نزواتها وشهواتها. فالنور الإلهي الذي يلف نفس الإنسان في هذا الشهر الكريم يمدها بطاقة عظيمة للانتصار على شياطينها فيكون بذلك أكثر إنسانية من ذي قبل وبالإنسانية يقترب الإنسان أكثر وأكثر من الله سبحانه وتعالى. فالفرحة الحقيقية في العيد هي عندما نصبح أناسا أكثر إنسانية من قبل.
وتزداد نفوسنا فرحا في العيد عندما تجد نفسها وهي قد ازداد تجلي الأخلاق الربانية في جوانحها. فالغاية المرتجاة من الصوم قد كشف عنها القرآن الكريم بكل وضوح، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الآية رقم 183، سورة البقرة. فالصوم هو مشروع للتقوى وهل هناك كلمة ثقيلة في الميزان بمثل التقوى تدفع بالإنسان إلى الارتقاء أخلاقيا وقيميا.
ففرحة الإنسان المؤمن الواعي بنفسه وبحقيقة الصوم في يوم العيد هي فرحة عميقة تمتد جذورها وامتداداتها إلى داخل نفسه، فهو اليوم إنسان اتقى من قبل والتقوى هي قوة نفسية جبارة تجعله أكثر عصمة من الوقوع في الرذيلة والخطأ وممارسة الأخلاق السيئة. فهو يفرح لأنه يحتفي بنفس هي اليوم بالتقوى أكثر حرية من شهواتها ونزواتها وطغيانها. فالتقوى تزيد من قيمة الإنسان بما تعطيه من أحساس بالحرية والإنسان الذي صار أكثر انعتاقا من شهواته ونزواته هو أكثر فرحا من غيره في يوم العيد. وهو يفرح يوم العيد لأنه صار أكثر قوة على قول الحق ومقارعة الباطل، فالمزيد من التقوى يعني المزيد من القوة والقدرة على تجفيف كل منابع الخوف ومصادر الرهبة من غير الله في نفس الإنسان، فكيف لا يفرح هذا الإنسان المؤمن في العيد فرحا عميقا وهو يعلم أن الله يحب المؤمن القوي وهو اليوم من أحباء الله لأنه أكثر قوة من ذي قبل. فالصوم وما يجلبه من تقوى هو مشروع لهزيمة الخوف عند الإنسان، فالإنسان الخائف هو إنسان ذليل وليس عنده كرامة والتقوى تتكفل باقتلاع هذا الخوف وإعادة الكرامة للإنسان والعيد هو فرحة الإنسان لأنه بات أكثر عزة وكرامة.
وإذا كان انفتاح النفس على النور الإلهي الذي يتيحه شهر رمضان يعني تجلي المزيد من الأخلاق الربانية في نفس الإنسان فإن الإنسان المؤمن يفرح يوم العيد لأن أخلاقه ازدادت رقيا وتكاملا. فهو اقتبس من فيوض الرحمة الإلهية وصار أكثر رحمة بنفسه وبالآخرين وكم وكم من الظلم والخوف والقلق ينزاح ويتوارى في المجتمع والأسر عندما تترسخ الرحمة في نفوس الناس. هل يزداد الأغنياء عطفا بالفقراء إلا بالرحمة وهل يزيد احتكار التجار وجشعهم إلا لقلة الرحمة في قلوبهم، وأليس غياب الرحمة يزيد من قسوة القلوب والقلوب القاسية هي التي تمهد النفوس لممارسة الظلم وانتهاك حقوق الآخرين وهي التي تقوي عند الإنسان نزعة التسلطن والعلو والتجبر على الآخرين. فالمجتمعات الذين هم رحماء فيما بينهم هم أقل المجتمعات إنتاجا للطغاة والجبابرة والمستبدين وأكثرها استعدادا للقبول بالعدالة الاجتماعية. وكيف لا يفرح الإنسان المؤمن في العيد وقد تشربت نفسه العزة الإلهية، فهو اليوم إنسان لا يقبل الذل لنفسه ولو حورب في طعامه وشرابه فهو سيحارب من يريد إذلاله وامتهان كرامته بالصوم. فالإنسان الذليل هو إنسان مستباحة كرامته ومن يرتضي الذل والمهانة لنفسه ومن يقبل أن تسحق كرامته فهو مخلوق بلا إنسانية وهو بذلك يقبل لنفسه عيشة الحيوانات وهو لا يستحق أن تسخر له الأرض بخيراتها، وهذا هو ربما علة ارتباط تخلف الأمم والشعوب بحياة الذل والمهانة التي تعيشها. فالشعوب الكريمة والعزيزة وإن كانت فقيرة في مواردها تستطيع أن تنهض بنفسها وتتطور وتتقدم علميا وماديا وإداريا وفي المقابل فإن الذل والمهانة تقعد بالشعوب والأمم وتمنعها من النهوض بنفسها حتى ولو كانت بين أيديها وتحت أرجلها خزائن الأرض.
فالإنسان المؤمن الصائم يفرح يوم العيد لأنه بات أكثر استعدادا وأكثر تأهيلا للدخول بعيدا في عالم الخير والفضيلة ومن حقه في هذا اليوم أن يدعو الله في صلاته أن يدخله في كل خير وأن يخرجه من كل شر. نسأل الله العلي القدير في هذا اليوم الذي جعله للمسلمين عيدا أن يوفقنا جميعا لنزداد انفتاحا على نوره ورحمته فنزداد بهذا النور تألقا وإنسانية.