التقاعد المبكر للمعلمين والمعلمات.. ما الأسباب؟

أقول لهؤلاء القمم خصوصا أولئك الذين تحدثهم أنفسهم بترك المهنة مبكرا إننا والله نقدر صنيعكم ونطمح إلى استمراركم والاستفادة مما في صدوركم ولكننا لا نستطيع مجازاتكم، وما تحصلون عليه أقل بكثير مما تقدمونه، فإن حدثتكم أنفسكم بترك المهنة فلتتذكروا أن صنيعكم وما تقومون به مع أبنائنا كالصدقة الجارية وكالعلم الذي ينتفع به وستجدون ذلك في صحتكم، وأجوركم، وأعماركم، وذريتكم فلتقبضوا على الجمر من أجل أبناء الوطن.

تتساءل وزارة التربية والتعليم عن أسباب ازدياد طلب المعلمين والمعلمات للتقاعد المبكر. فلا يخلو عام من ثلة من المعلمين غالبيتهم من الأكفاء يطلبون التقاعد قبل بلوغ السن النظامية، حتى أصبحت ظاهرة تحتاج بالفعل إلى وقفة لمعرفة أسبابها والوقوف على الدوافع التي تلجئ أهم شريحة في المجتمع إلى ترك المهنة والزهد فيها. وقد طلبت الوزارة من المختصين دراسة هذه الظاهرة والتعرف على الأسباب الحقيقية التي تقود المعلمين إلى طلب التقاعد المبكر خصوصا في السنوات الأخيرة، وأظنها - أي الوزارة - ستقوم بجزء من هذه المهمة.
ودهشة الوزارة من تفشى هذه الظاهرة تدل على أنها لا تعرف ما يدور داخل بيئاتها التنظيمية، وأن هناك فجوة كبيرة بين النواحي التشغيلية في المدارس ومركز اتخاذ القرار! فالمفروض أن "التربية والتعليم" لديها المعرفة التامة للأسباب الجوهرية التي تضطر المعلمين إلى التوقف عن إكمال المهمة، بل المفترض أن تتنبأ بهذا قبل حدوثه عن طريق تحسس مشكلات منسوبيها ونقاط القوة والضعف في هياكلها التنظيمية وأساليبها الإدارية وبرامجها التدريبية وأنظمة الحوافز والترقيات وكل ما يمس رفاهية المعلم. وهذا لن يتأتى إلا بإنشاء مراكز للمعلومات وقواعد للبيانات ووحدات أبحاث على درجة عالية من الكفاءة تجرى أبحاثا ميدانية دورية وتستفيد من نتائجها وتتبع توصياتها.
وأريد في هذا المقال أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع بصفتي مواطنا وولي أمر وأحد المخرجات القديمة للتربية والتعليم. فنحن المواطنين من أقدر المصادر على تقييم أداء "التربية والتعليم" بما تحويه من مدارس وإدارات ومعلمين، فنحن قريبون جدا من السلوك التنظيمي للمدارس في مراحل مختلفة لأن علاقتنا بالبيئة المدرسية لم تنقطع فقد كنا تلاميذ منذ طفولتنا حتى باكورة شبابنا تتلمذنا على أيدي أصناف من المعلمين ما بين عبقري جهبذ ودخيل على المهنة مسترزق. وبعد أن أمد الله في أعمارنا أصبحنا نشرف على أبنائنا الموزعين في المدارس الحكومية والخاصة، وبهذا نستطيع أن نقول إنه يمكن لأي وزارة ولأي إدارة من إدارات الدولة أن تخفي عن المواطن سوءتها، وعن المسؤولين أداءها عدا "التربية والتعليم"؛ فهي من أكثر الوزارات وضوحا ولا تستطيع أن تخفي مثالبها وقصورها مهما حاولت.
أعود للموضوع فأقول إن هناك عدة أسباب وراء رغبة عدد كبير من المعلمين والمعلمات في التقاعد المبكر، أهمها وأبرزها وفي مقدمتها العبء الوظيفي. فكيف ينجز معلم عبئه التدريسي 24 حصة تتخللها عشر دقائق فقط كي يلتقط أنفاسه، إضافة إلى الأنشطة اللامنهجية والمسؤوليات المتفرقة كالجمعيات والإشراف على المقاصف والمختبرات وغيرها من تقاليد الثقافة التنظيمية لمدارس "التربية والتعليم". أن مهنة المعلم معقدة وأداءها كما يجب يحتاج إلى قدر كبير من الصبر والجهد وهي تختلف كثيرا عن العمل الإداري الذي يؤديه الموظفين في قطاعات الدولة المختلفة. فالموظف يحضر إلى عمله صباحا ويخرج من علمه بعد الساعة الثانية ظهرا إلا أنه خلال هذه الفترة قد لا ينتج شيئا، وإن افترضنا وجادت نفسه وأخلص في عمله فإن له الحق في الإفطار واحتساء القهوة والشاي وقد تسول له نفسه الخروج لساعات بإذن وبدون إذن.
إما المعلم فلا يتمكن من كل هذا، فلا بد أن يكون دائما منذ السابعة صباحا حتى صلاة الظهر حاضر الذهن متيقظ البصر ومستيقظ البصيرة، فهو تحت المجهر من قبل طلابه ومدير المدرسة، بل إنه لا يستطيع أن يخرج بذهنه خارج قاعة الدرس وهذا عمل جبار ومهمة ثقيلة. بطبيعة الحال أنا أتكلم عن المعلم المخلص وهم كُثر في مدارسنا وهذا هو النوع من المعلمين الذين يحزننا طلبهم التقاعد المبكر. فنحن لا نأسى على الدخيلين على المهنة أو من تسللوا إلى ميدان التعليم في غفلة من الزمن فهؤلاء نتحرج أن نطلق عليهم معلمين، بل هم موظفون أتوا لطلب الرزق ليس إلا. نحن نعني ذلك النوع من المعلمين الذين يصعب تبديلهم، ويندر الحصول على أمثالهم، ويستعصي على الوزارة إحلالهم. ذلك النوع من الرجال والنساء الذين صقلتهم التجربة حتى أصبح الفرد منهم مخزونا من الخبرات، ومرجعاَ للمعلومات، ومدرسة فريدة من الفنون والأخلاقيات.
وأريد أن أتوقف قليلا وأقول لهؤلاء القمم، خصوصا أولئك الذين تحدثهم أنفسهم بترك المهنة مبكرا، إننا والله نقدر صنيعكم ونطمح إلى استمراركم والاستفادة مما في صدوركم ولكننا لا نستطيع مجازاتكم، وما تحصلون عليه أقل بكثير مما تقدمونه، فإن حدثتكم أنفسكم بترك المهنة فلتتذكروا أن صنيعكم وما تقومون به مع أبنائنا كالصدقة الجارية وكالعلم الذي ينتفع به وستجدون ذلك في صحتكم، وأجوركم، وأعماركم، وذريتكم فلتقبضوا على الجمر من أجل أبناء الوطن.
وأريد أن أختم فأقول إن أعباء مهنة التعليم وإن كانت الركيزة الأساسية، وحجر الزاوية، والسبب الرئيس في زيادة رغبة المعلمين والمعلمات في التقاعد المبكر، إلا أن هناك أسبابا أخرى لا تقل أهمية عن هذا ولكن المساحة المخصصة للمقال جعلتني أكتفي بهذا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي