تقرير بالمر.. المغزى والمترتبات
بعد أن تسرب تقرير بالمر في أعقاب نشره وتسربه عبر صحيفة ''نيويورك تايمز'' اتخذت تركيا عدة خطوات ضد إسرائيل. وكانت جميع الإجراءات التي اتخذتها تركيا متوقعة وعلى رأسها تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي والتجميد الرسمي للعلاقات العسكرية التي كانت قد تعرضت للتقليل من قبل، ولكن حجم ووقع هذه الإجراءات تمثل ضربة موجعة لإسرائيل كما تقول المصادر الإعلامية الإسرائيلية نفسها.
ففي المؤتمر الصحفي الذي عقده أحمد داوود أغلو وزير الخارجية التركية، وفي بيانات أخرى تالية، كررت تركيا موقفها بأنها لا تقبل شرعية الحصار الإسرائيلي البحري لغزة، وأعلنت أنها ستتقدم بشكوى إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي للبحث والتحقيق في مشروعية الحصار، كما أن أنقرة أعلنت أن البحرية التركية سوف تعمل لغرض تحقيق حرية الملاحة في شرقي البحر الأبيض المتوسط. ويرجع الغضب التركي وما صحبه من سخط مع تسرب التقرير إلى رفض تركيا لمعظم ما توصل إليه التقرير والإحباط إزاء رفض إسرائيل المستمر للاعتذار عن حادث القافلة البحرية التي تعرضت لهجوم عسكري إسرائيلي أسفر عن قتل عشرة أتراك على الأقل. ويبدو أن تركيا قد بدأت تتحول عن مرحلة الغضب إلى مرحلة الانتقام، لأن التصرفات التركية لم تعد تتناول أحداث القافلة أو لطلب الاعتذار الإسرائيلي بقدر ما دخلت الأحداث مرحلة جديدة تنذر بتدهور شديد في العلاقات، والأخطر من ذلك احتمالات المواجهة العسكرية البحرية.
ونظراً لأن العلاقات بين تركيا وإسرائيل كانت - قبل التقرير - قد بلغت أدنى درجاتها، فإن قدرة تركيا على الضغط على إسرائيل تضاءلت.
لذلك فإن مغزى لجوء تركيا إلى المنظمات الدولية وهي تطالب بحرية الملاحة كقضية أساسية يرمي إلى الضغط على إسرائيل في مناطق فشلت إسرائيل مراراً في النجاح فيها، ومن ثم فإن حجم الضرر الذي ستتجشمه سوف يكون كبيرا. وهناك أبعاد متعددة للضغط التركي وهي:
• تعظيم وقع تهم العدوان الإسرائيلي على الرعايا الأتراك الذين قضوا في حادث القافلة البحرية على يد الجنود الإسرائيليين.
• طلب النظر في قضية أمام محكمة العدل الدولية حول مشروعية الحصار.
• الزيارة التي سيقوم بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى غزة لإثارة الرأي العام العالمي حول الموقف هناك.
• ارتباط تأكيد تركيا على حرية الملاحة وارتباط ذلك بمخزون الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط، والتأكيد على أن الكميات الفعلية لهذا الغاز تفوق بمراحل ما أعلنت عنه إسرائيل، لدرجة أن قبرص سوف تستفيد من هذه الاكتشافات. وهذا يعني أن هذا الغاز
سيكون شرارة صدام بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، وهو موضوع حيوي واستراتيجي بالنسبة لأنقرة.
وقد أثار عجز لجنة بالمر عن تحقيق هدفها الرئيس وهو الوصول بالطرفين إلى حل وسط يفيد في ترميم العلاقات أو العودة بها إلى سابق عهدها، استغراب ودهشة المراقبين السياسيين، وذلك لأن الملف التركي - الإسرائيلي هو ملف أمريكي شائك ومهم، والمعروف أن الولايات المتحدة ومن خلال لجنة بالمر قد مارست ضغوطاً شديدة على الطرفين، لأن مصلحة الولايات المتحدة تتجسد في علاقات متناغمة بين تركيا وإسرائيل. فهما عماد السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، خاصة لأن كلتيهما لا تكن المودة لإيران، كما أن حقيقة أن تركيا غير عربية وإن كانت مسلمة تمثل لواشنطن كنزاً سياسياً لا يقل عن كنز ربيبتها إسرائيل التي تستخدمها للضرب والتخويف وإخضاع العرب حتى يلجأوا إلى واشنطن. ووقوع خلاف بين الحليفتين يزعج السياسة الخارجية الأمريكية. ولكن حقيقة ما وصل إليه التقرير يكشف البعد التقليدي لأي موضوع تكون إسرائيل طرفاً فيه، ويكون لواشنطن رأي وقول وهو أن تخرج إسرائيل فائزة، لأن السياسة في واشنطن كما أوضحنا مرارا على هذه الصفحات هي حاصل جمع مجموعات الضغط Lobbies، وإسرائيل تتفوق على أي طرف آخر في هذا الصدد، حتى إن كانت الحليفة الأثيرة للولايات المتحدة منذ حرب كوريا إلى جميع مواقف الحرب الباردة وعلى اختلاف حكامها من عسكريين إلى مدنيين.
تأتي ردود الفعل التركية الضعيفة تحدياً لأمريكا، التي تدرك أنقرة أنها كانت الطرف الخفي وراء صياغة تقرير يعبر عن وجهة نظر إسرائيل ويحتقر المطالب التركية، ولذلك فإننا نتوقع توتراً في العلاقات الأمريكية – التركية لفترة من الزمن ما لم تحاول واشنطن التدخل لإقرار حل وسط يرضى عنه الأتراك.
وفي محاولة لمراقبة ردود فعل تقرير بالمر – نلاحظ أن الشعبين التركي والإسرائيلي قد وصلا إلى درجة من التحدي والرفض المتبادل، فإذا حاول نيتنياهو الاعتذار فإن الرأي العام لديه لن يقبل ذلك بعد الارتطام الإعلامي الذي وقع من الحادثة، والذي زاد مع صدور تقرير بالمر. والموقف التركي الحالي ضيق فرصة المناورة السياسية على نيتنياهو، خاصة بعد أن ذكر التقرير صراحة أن ما انتهى إليه حادث القافلة البحرية لم يرض أيا من الطرفين: تركيا وإسرائيل.
ورغم إصرار نيتنياهو ومجلس وزرائه على رفض الاعتذار إلا أنه شديد الرغبة في التهدئة خاصة بعد أن أهداه التقرير كل ما يريد، ويصرح نيتنياهو للصحافة برغبته العارمة في استعادة العلاقات مع تركيا، لأن إسرائيل المعزولة عربيا تشعر بالعزلة في المنطقة بأكملها، وليس لها دولة في الشرق الأوسط تتبادل معها المصالح الحيوية إلا تركيا، فعلاقتها بمصر مجرد سلام بارد ومع الباقين عداوة معلنة.
وبمتابعة الموقف داخل إسرائيل ظهر أن الخط السياسي الذي تنتهجه إسرائيل هو محاولة ضبط النفس، مع ملاحظة ثلاث نقاط مهمة هي:
• أن تركيا ترفض تقريرا صادرا عن الأمم المتحدة وهي عضو بها، بينما تظهر إسرائيل في ثوب المنضبط الذي يقبل القرارات الدولية وكلنا يعرف بطبيعة الحال أن إسرائيل ترفض معظم قرارات الأمم المتحدة، لدرجة أنها تروج لفكرة العداء بين المنظمة الدولية وبينها. ويضيف الإسرائيليون أنهم يقبلون قرار بالمر ويضيفون له الأسف لما حدث – وكأنما ذلك تنازل كبير.
• يفرق التقرير بين الحصار البحري لغزة الذي من الواضح أن أمريكا تؤيده بشدة وبين بعض القيود على عبور الحدود البرية. وهذا هو الأساس الذي تبنى عليه فكرة أن الحصار البحري قانوني حسب مبادئ القانون الدولي، وأن محاولة اختراق الحصار هي محاولة متهورة مما يدين أي محاولة تركية جديدة لممارسة دور بحري مختلف في البحر الأبيض.
• أن تركيا تعاني بعضا مما تعانيه إسرائيل، وهو المقاومة الكردية وقصف تركيا لشمال العراق، مما يوضح أن البلدين لديهما الصعوبات نفسها، وهذه أرضية مبدئية للتسوية بينهما.
وفي الوقت الذي انقضى ما بين حادث القافلة وبين نشر تقرير بالمر وقعت أحداث في الشرق الأوسط قد تؤدي إلى تهدئة هذه الأزمة. وهذه التطورات أبعدت تركيا عن سورية وإيران، وهو موقف محبب لدى إسرائيل وإن لم يصاحبه تحسن في العلاقات التركية - الإسرائيلية. بل إن التقارب التركي - المصري يعتبر عاملاً إيجابياً بالنسبة لإسرائيل، لأن حضور تركيا في مصر سيقلص فرص نشر نفوذ إيراني في مصر، بل إن حماس سوف تستفيد من التقارب المصري التركي، وهو ما يعني تقليل النفوذ الإيراني على حماس، ورغم أن الحالة المصرية باعتبار مصر تمر بمرحلة انتقالية لا يقول الكثير عن ثمار متوقعة.
وباختصار فإن الظروف المحيطة بتركيا وإسرائيل لا يتوقع أن تسهم في تهدئة الأزمة وإنهاء النزاع، ولكنها قد تساعد في تخفيف حدة الصراع والتوتر بين إسرائيل وتركيا، وهو الصراع الذي يدخل الآن مرحلة حادة كشفت جدية الأتراك ومدى انزعاج إسرائيل.