عندما تتحكم مؤسسات التصنيف في الدول والحكومات

بعد أن أقدمت وكالة التصنيف (ستاندرد آند بورز) على خفض التنصيف الائتماني الأمريكي والذي جاء مخيبا للآمال لم يتوقع أحد أن دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية أعطي لها تصنيف (AAA) ينخفض تصنيفها إلى (AA) ويأتي عليها الوقت وتتوقف عن السداد في وقت حساس جدا بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، حينها استعاد المحللون قصة فبركة التصنيفات تلك التي أسهمت في الأزمة المالية العالمية، وأصبحت حينها الثقة معدومة بهذه المؤسسات بعدما اتضح أنها منحت تصنيفات بدرجات كاملة لمؤسسات مالية عالمية هشة مقابل حصولها على مبالغ مالية.
خفض التصنيف الائتماني زاد من تكلفة الاقتراض الأمريكي، ورفع الأعباء على الدولة ومؤسساتها القومية، وخفض قيمة العملة (الدولار) وزاد معدل البطالة، وزادت تكلفة الإنتاج، وامتد التأثير على أسواق دول العالم، فجميع البورصات تأثرت وانهارت في أوروبا وجنوب شرق آسيا ودول الشرق الأوسط، وانخفضت القيمة الحقيقية لعوائد البترول والطلب على النفط، وأثر ذلك على دخل دول الخليج وخطط التنمية نتيجة الركود الذي أصاب أمريكا، ما جرى يؤكد لنا أن الاقتصاد العالمي متشابك وكذلك الأمن والإرهاب والإعلام والمعلوماتية، وهذا يتطلب منا مزيداً من الاستشراف للأزمات العالمية وتداعياتها علينا.
هذا الأمر يدعونا لطرح العديد من الأسئلة؟ هل هذه المؤسسات أدوات سياسية يمكنها الإطاحة بحكومات دول وباقتصاديات دول، أي يمكن استخدامها لتحقيق أغراض سياسية، ومن أين اتخذت سلطتها ومكانتها تلك؟ ولماذا لا تتم تعرية مؤسسات التصنيف العالمية وبيان ارتباطاتها، ولماذا تتهاوى عليها مؤسساتنا المالية للحصول على تصنيفاتها، في الوقت الذي تساهم تصنيفاتها في استقرار وعدم الاستقرار الاقتصاد العالمي؟ بيوت المال العالمية (بالمليارات) تبحث دائما عن استثمارات محدودة المخاطر Limited Risk لكنها مع التصنيفات غير المنطقية تلك تصبح أكثر خوفا وأكثر خشية، وهي بيوتات مالية لها دور مؤثر في الاقتصاد العالمي، ومجرد خوفها يحرم دول العالم من استثمارات عديدة.
السؤال الذي يطرح نفسه؟ هل هناك جهة ما تدفع باتجاه هروب المال والاستثمارات من أمريكا، وما هي هذه الجهات وهل هذه الجهة تدفع أن تتأثر الدول المرتبطة بالدولار بهذا الحراك الناجم عن هذه المخاوف الذي تبثه هذه الوكالات، وتبثه بعض الشخصيات الاقتصادية العالمية المعروفة، وهل أصبحت اقتصاديات الدول تتأثر إلى حد بعيد بهذه المؤسسات، وهل هناك من يدفع نحو صياغة وإعادة بناء النظام الرأسمالي العالمي، وإيجاد نظام ديمقراطي للضبط المالي على مستوى العالم؟
ما إن أعلن بن برنانكي رئيس البنك المركزي الأمريكي أمام الكونجرس تعافي الاقتصاد الأمريكي حتى انعكس ذلك إيجابا على حركة الأسهم، رغم أنه قال إن التعافي سيكون بوتيرة متواضعة، غير أن الذي دعا الأسهم للتعافي ثلاثة أمور، أولا ـ هو أن بن برنانكي شخص صاحب قرار ويمتاز بروية اقتصادية، وكان قد توقع سابقا من فقدان أمريكا لتصنيفها الائتماني الممتاز، ثانيا ـ أن برنا نكي شخص لا يعمل بمفرده وإنما يعمل معه مئات الخبراء والمؤسسات المالية والبحثية والدراسات والاستقراءات التي جعلت من كلامه مؤثرا في الصعود والهبوط، وثالثاً ـ الثقة بالاقتصاد الأمريكي وقدرته على تجاوز الأزمة.
لكن فيما يتعلق بنا هنا في دول الخليج، إلى متى ستبقى علاقتنا انعكاسا للاقتصاد العالمي، إلى متى سنبقى ردود أفعال للاقتصاد العالمي، وهل سنبقى نستورد التضخم العالمي، وارتفاع العملات وضغطها على عملاتنا؟ وما الآلية التي يمكن أن يستفاد منها اقتصاديا من هذه التغيرات؟ فصعود الدولار وهبوطه له إيجابيات وسلبيات، فكيف نقرأ ذلك في إطار رؤية استراتيجية ومستقبلية لموجداتنا وثرواتنا واستثماراتنا؟ لماذا لا نرى العالم دون أمريكا أو التفكير بالبديل مثلا، في وقت تؤكد الدراسات بأن هناك حراكا اقتصاديا خفيا سيؤدي بالمحصلة إلى إعادة بناء النظام السياسي الدولي، وصعود قوى اقتصادية وسياسية عالمية جديدة.. المشكلة أنه ليست لدينا قدرة على المتابعة الوثيقة وقراءة حقيقية للمتغيرات خاصة تلك التي تؤثر في اقتصادياتنا.
كيف ننظر إلى دول الغرب وهي تواجه مشكلات اقتصادية حقيقية؟ مثلا فرنسا تعيش هاجس الديون، وبريطانيا تتهاوى وإيطاليا، كذلك الصين تستولي على الاستثمارات وتستحوذ عليها في الصين وفي الخارج. ما هي الحركة المقبلة اقتصاديا وسياسيا ؟أين هي مراكز الدراسات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية الخاصة بنا، والتي تمنحنا مؤشرات حقيقية تساعدنا على المحافظة على الاستثمارات الخليجية وتمنع تدهورها، وتساعد على إدارة ونجاح الثروات الناجمة من عوائد البترول للأجيال القادمة بدلا أن تبقى مجتمعاتنا استهلاكية.. مجرد رسالة لعل هناك من يستجيب؟!
مستشار مالي ـ عضو جمعية الاقتصاد السعودية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي