الثورة يشعلها المجانين ويقودها العقلاء ويقطف ثمارها الانتهازيون
يسهب البعض في استقراء نتائج الاحتجاجات العربية، ولا أحد بمستطاعه التكهن بنتائجها، غير أن الجميع يستطيع أن يقدم مؤشرات تخدم منهجه التحليلي، مثل أن هذه الاحتجاجات كانت شعبية وشبابية، ولم تقدها الأحزاب، ولم تجثم فوقها رمزيات فاشلة، وأنها كسرت حاجز الخوف والرهبة وكشفت عورات الأنظمة المستبدة، وعورات الفكر الأيديولوجي لمصلحة قيم اجتماعية اتصالية وتفاعلية، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن أن تتحول تلك العوامل إلى منجز، وكيف يمكن على أثرها إعادة البناء الثقافي والسياسي على نحو جديد وفقا لحقائق ومعطيات جديدة، وليس احتكاما لمسلمات أيديولوجية؟
الثوريون والقوميون (المؤدلجون)، كعادتهم، يثورون على كلمة ويقيمون الحروب ويشعلونها، وبعضهم تأخذه المكابرة والعزة بالإثم ليقدم دليل عمل يحكم الثورات Manifesto ليوجهها ويجعلها قابلة للانتقال والتطبيق، كما يزعم عزمي بشارة، غير أن المروجين للثورات لا يقدمون لنا أدلة حقيقية على أنهم كانوا قياديين لهذه الثورات، وأنها جاءت بوحي وتوجيه فكري وسياسي منهم، بقدر ما يؤكدون أنهم كعادتهم ركبوا الموجة، وأصبحوا شعبيين ويطالبون بإرادة الشعب، حتى إيران رأت أن الثورات من وحي وروح الخميني.
الواقع يشير إلى أنها احتجاجات على واقع اجتماعي اقتصادي سياسي بائس زاده الزواج بين البزنس والسلطة سوءا، وأنها احتجاجات ليست على نظم فاسدة فقط، إنما أيضا على أطر سياسية وأيديولوجيات فكرية صدئة وضيقة ورمزيات احتكرت الساحة وظلت في الواجهة لزمن طويل ولم ترغب في التقاعد وسدت الأبواب على الجيل الجديد فلفظها هذا الجيل؛ فهؤلاء (الأيديولوجيون) لم يستطيعوا إقامة دولة متجانسة ومترابطة ومتعاونة رغم الفرص التي أتيحت لهم، بل بددوا الأمل والثروة في مغامرات خاسرة.
ورغم أن التغيير الاجتماعي سمة كونية وطبيعية إلا أنهم رفضوا الاستجابة لشروطه ومتطلباته، وإذا كان التغيير في السابق بطيئا وغير مرئي، فإنه اليوم عاجل ومتسارع ونشط تدخل في تشكله عوامل عديدة، لم تدركها السلطة ولم تألفها من قبل؛ لأنها اعتقدت أن التدجين والترويض السياسي أصبح سمة اجتماعية، وأن المجتمعات أصبحت لديها قابلية على الخضوع، ومن لم يتحسب لوجود هذه المتغيرات ليقرأ ما قاله وزير الخارجية التركي داوود أوغلو (ملابس تركيا القديمة لم تعد ملائمة لمقاسها السياسي اليوم)، فالتغير الذي طرأ على مكانة تركيا ودورها الخارجي سببه تغير شامل في الداخل التركي (تحول سياسي وثقافي واقتصادي)، وكذلك الشعوب أحيانا تضيق بالسلطة القائمة إذا لم تجد السلطة القائمة أطرا جديدة للاتصال والتفاعل والاختلاف وكذلك بالأحزاب القائمة والمفكرين الذين انفصلوا عن الواقع، أشبعونا تنظيرا وسفسطة كلامية ولسان حالهم يقول (ألقاه في اليم مكتوف اليدين وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء)، وهم اليوم شاخصة أبصارهم لا يملكون إلا مجاراة ما يجري ويهرولون خلفه، رغم أنهم لم يتحرروا بعد من وهم الأيديولوجيا وشحنات الثورية.
التنمية السياسية في معظم البلدان العربية عمل نظري، أما التطبيق فهو اختزال للسلطة القلقة التي تنظر للتنمية من باب الأمن أولا، ولأن الدولة هي تنازل إرادات سواء كان هذا التنازل اختياريا وطوعيا أو إجباريا، فإنك وكي تؤمن بالتنازل فإن هذا التنازل يبنى على قاعدة الحقوق المتساوية وقاعدة المصالح المشتركة، فعندما وصف أرسطو الدولة قال إنها تشبه الإنسان الطبيعي في تكاملها وتناسقها، أي أنه نفى صفة الدولة عن تلك السلطات غير متجانسة الهياكل والأطر والتطبيقات، بينما أوضح جان لوك أن السلطة تحتاج إلى شرعية واعتراف اجتماعي سياسي؛ ولهذا وهب لها دون غيرها سلطة استخدام القوة بقوة الاحتكام إلى القانون، وجعل القانون عنصرا رئيسا في مكون الدولة وفي علاقة الدولة بالمجتمع، وكذلك مساهمة توماس هوبز فيلسوف العقلانية، كيف أسهمت مداولاته الفكرية والفلسفية في أمرين مهمين: الأول في إيضاح وتحديد مكانة الدين في العملية السياسية، والآخر في نزع القيم الاستبدادية لمصلحة قيم المؤسسة وحكم القانون.
كل ما تقدم يؤشر إلى أن البناءات السياسية في الدولة العربية Political structure لم تكن سليمة وغير مستقرة ولا تتحدث عن تراكمات موصولة بالوعي والثقافة السياسية لتصبح تقاليد عمل، وبالتالي، ليست هناك أصول وقيم عمل سياسية مستقرة تحتكم لها القوى السياسية ويحتكم إليها الناس في ظروفهم العادية والاستثنائية كما هو معمول في الأعراف القبلية التي حكمت دولة مثل اليمن مثلا منذ زمن طويل وما زالت حاضرة ومؤثرة في ظل ضعف السلطة السياسية وشللها وضعف الثقافة السياسية الناتجة من هذه السلطة؛ ما يؤكد أن ضعف استقرار البناء السياسي وعدم تجذره يمنح القوانين الطبيعية والأطر الطبيعية كقانون القوة وقانون العصبية وقانون المذهبية مركزا مهما في الإدارة الحياتية، لتصبح مسيرة للأعمال والأفكار والرؤى ووسيلة للاختلاف والاتفاق لما لها من قدرة على الثبات والديمومة والاحترام. ولو طالعنا التجربة العراقية بعد سقوط النظام السياسي سنرى كيف ارتد المجتمع العراقي لما قبل الدولة ولم ينفع الأيديولوجيين سوى التشدق بحضارة العراق؛ فالحضارة قوة، غير أن الممارسة السياسية غيّبت واختزلت الدولة في قيم مجموعة من الأشخاص وباسم الثورة. والمجتمع المصري اليوم بعد الثورة تضخمت لديه الذات الفردية على حساب القيمة السياسية ما يؤكد عدم وجود أصول عمل وقيم سياسية تمنع الاحتكاك وتؤدي إلى التوافق والتفاهم، ولولا الخوف من قوة الجيش ولولا تماسكه، ولولا ضعف السلطة التقليدية في بنية الدولة المصرية، لشهدت مصر فوضى سياسية عارمة؛ ما يعطي انطباعا بأن الثورة الاحتجاجية ليست فكرية ولا ثقافية وليست ناجمة عن تحول متكامل، ما يؤكد ذلك هو ضعف القدرة السياسية (الأهلية والرسمية) Political capacity لصيانة الأمن والاستقرار وخلق الإجماع الوطني، فمصر تعيش الآن حالة أقرب إلى التفسخ والتناقض السياسي، وكل المعطيات لا تعكس وجود محددات اتفاق وطنية، فالمطالب الثورية لا تعكس رؤية جديدة وواقعية للدولة المصرية ولا تنبئ بأفق للتحول الشامل.
عدم استقرار البناءات السياسية هذه سببه عدة عوامل داخلية وخارجية متفاعلة، وهي أولا أن استقرار البناءات السياسية يؤدي ويقود إلى السلطة القانونية والعقلانية الرشيدة، ويدفع باتجاه الدولة المدنية والحكومة المدنية ويقصي الحكومة المطلقة ويضعف القيم التقليدية، ويقصي مؤسسة الفساد والتحكم في رقاب العباد، وهذا غير ممكن في دولة مثل مصر أو سورية قيم الدولة فيها هشة وقوتها مختزلة وديناميتها معطلة وخطوط اتصالها لا تقبل العمل إلا في اتجاه واحد. ثانيا أن المتغير الحقيقي هو أن العالم شهد تحولات عنيفة معرفية ومعلوماتية وفكرية وإعلامية وثقافية وتطورا في ثقافته السياسية، وكان لهذه المتغيرات انعكاسات وارتدادات داخلية على المجتمعات مختلفة، فتأثرت القيم والأطر التقليدية لمصلحة قيم العولمة الجديدة، وأصبح هناك مجال للرؤية والاتصال والتفاعل والاعتراف خارج مجال وشبابيك وأبواب السلطة وبوابات الأحزاب التقليدية والقيادات النمطية المتكلسة. ثالثا أن الدولة البوليسية والأمنية تعيش حالة اختناق واحتضار سياسي داخلي سببه الرئيس أنها غير قادرة على التعامل مع مختلف المعطيات الجديدة (المعرفية والثقافية والمعلوماتية والمدنية والحقوقية) وتلبية احتياجات الناس المادية والروحية والاستجابة لمعطيات العصر كأطر وأفكار. رابعا أن مناخات الحرية الجديدة لم تكشف عورة الدولة الأمنية فقط، بل كشفت عورة الأيديولوجيات وقصورها وسطحيتها أيضا وضعف بناها الرمزية وأصولها الثقافية والفكرية، وأظهرت جانبا من انفعالاتها وتجاذباتها وارتباطاتها الداخلية والخارجية، وبالتالي فإن المخاوف من سرقة الثورة أمر متوقع، غير أن قطار التغيير انطلق للأمام ولا توجد قوة قادرة على إعادته إلى ما كان عليه سابقا، ولم يعد هناك متسع للدولة أن تفرض سطوتها بنسب معايير القوة البوليسية السابقة؛ ولهذا سيتغير نظام الأسد وسيسقط بفعل القوة المدنية التي يفتقدها، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تترجم البناءات السياسية المدنية الجديدة هذا المتغير وجعله نقطة انطلاق حقيقية؟ فالمنظور الآن لا يكشف أن في السماء غيما، بل ما زالت الصورة ضبابية.
ولهذه الأسباب لم يغفل الغرب مصالحه وإمكانية حدوث متغير وصفه بالزلزالي في المنطقة هذا عدا عن إدراكه أن المجتمعات تتغير وعندما يسد الأفق أمامها فإنها لا تعيش ساكنة، بل يسكنها مخاض داخلي إن لم يجد طرقا وموصلات حقيقية سينفجر في وجه السلطة، كما أن الغرب أسهم في إعمال التغيير الداخلي من خلال معطيات العولمة وثورة المعلومات والإعلام، ومن خلال تمويل مراكز المجتمع المدني، فلم تعد الدولة وأدواتها وهياكلها السلطة الوحيدة على المجتمع، بل أصبح هناك مشاركون جدد لهم حضورهم وتأثيرهم أيضا، ففي منتصف الثمانينيات بدأت وكالات الاستخبارات الغربية تخترق الكيان الفكري والثقافي والذهني العربي وتعمل على ترتيبه وإعادة إنتاجه، وعمليات غسل العقول والتلاعب فيها، وهندسة البناءات الفكرية والثقافية والإعلامية، مرة لشطب الأيديولوجيات على اختلافها، ومرة لإحياء أيديولوجيات التشظي القيمي والفكري والثقافي (المحلية الضيقة)، فأوجدت لكل متنطع بوابة ووكيلا حصريا ومنبرا سياسيا، وبعد سقوط الاشتراكية والشيوعية والقومية والإسلاموية المتعصبة، لم تجد فلول الأيديولوجيات بدا من التقارب والتصالح والتماهي في المشروع الأمريكي من اليسار إلى اليسار الليبرالي والندب والضرب واللطم والبكاء على الماضي بوصفه بأقذع العبارات، وفي أحسن الأحوال الترحم عليه، وفي الوقت نفسه فتحت كياناتهم العذراء لمصلحة أدوات الرأسمالية السياسية، لكن من أوسخ أبوابها، بوابة ما يسمى NGos مؤسسات المجتمع المدني غير الهادفة للربح، وأصبح (الرفاق) تجار تموينات وبازارات يفتتحون لهم دكاكين تسمى زورا وبهتانا مؤسسات المجتمع المدني، فيما استأجرت المؤسسات الأمريكية شخصيات مفكرة ومثقفة للحديث عن أهمية المجتمع المدني ومؤسسات المجتمع المدني ودولة المجتمع المدني، فيما انتشرت هذه المؤسسات كالسرطانات في أوصال المجتمعات، هادفين إلى تحجيم الدولة وتوزيع سلطاتها وصلاحياتها على مجموعة من المتمولين، فبعضهم كالدكتور سعد الدين إبراهيم وعلي سالم طلَّقا الناصرية بالثلاث ليصبحوا ضيوفا على المؤسسات الأمريكية والألمانية ومستشارين وخبراء وبالمحصلة Sup-agent ومثلهم كثير من الشيوعيين العرب في لبنان وفلسطين والعراق ومنهم (إملي نفاع) من عضو لجنة مركزية في الحزب الشيوعي إلى عضو في الأمم المتحدة لمؤسسات المجتمع المدني، وعريب الرنتاوي واسمى خضر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى مؤسسات التمويل الأمريكية للمساهمة في تحرير العقل العربي، وكذلك عبد الحسين شعبان (على مضض) من شيوعي سابق إلى ليبرالي وناطق باسم المجتمع المدني ومجتمع التسامح، رغم أن شعبان انتقد المرحلة الماركسية وصحح مساره الفكري، وهناك كثر مثل الدكتور عزمي بشارة الذي بدأ شيوعيا ومر بالقومية وصولا إلى مرحلة المجتمع المدني والتخادم السياسي، وعضو في مؤسسات التبشير الغربي بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ومحمود شمام (القومي العربي) الذي أصبح رئيسا لتحرير مجلة ''نيوزويك'' الأمريكية، وداعية للتدخل الدولي لتحرير ليبيا من جنون القذافي، فأي تناقض يدخلني فيه محدثي ويقنعني بأن سلطة الشعوب قادمة، إذا كانت قياداتها ونخبها ورموزها الثقافية والفكرية والسياسية من هذا النوع!
لسنا بالضد من دولة القانون والمؤسسات والدولة المدنية وكل قيم السلطة السياسية القانونية والعقلانية وجميع مؤسسات الشفافية والمحاسبة والمساءلة والحقوق، غير أن المرفوض أن تصبح مؤسسات المجتمع المدني وكيلا وجسر عبور ومرور لأجندات سياسية عديدة، وأسوق هذا الكلام على خلفية نقاش فكري حاول فيه محدثي أن يسطو عليّ بجميل كلامه المدجج بالمعلومات المستلة من دراسات ومقالات هنا وهناك وفقا لتصور أيديولوجي مسبق وأن يستخدم معي أسلوب الصدمة والترويع، وأسلوب الإغراق بالمعلومات المشبعة بروحانية قومية وطهر ثوري فقد عذريته، وليقنعني عنوة بأن محمد حسنين هيكل رغم احترامي لموسوعيته ومعلوماته أنه الأفضل والأصوب، إلا أنني اعترضت على تقديسه للأسطورة الفردية ودور الفرد في التاريخ واستظلاله بصنمية بشرية وجره إلى خانة الكمالية القومية، ولا ننكر أن ما أتيح لهيكل لم يتح لغيره؛ فقد كانت في يديه خزائن المعلومات والمخابرات المصرية، وكان محللا لهذه المعلومات، وكان مجالسا لرموزها من العرب والعجم، وعندما انتهت الناصرية بعبد الناصر، كان هيكل بحسه الصحافي والسياسي والأمني أقرب للدوائر الاستخباراتية الغربية، وكان وكما ذكر كتاب ''من يدفع للزمار'' أن المخابرات الأمريكية تستشيره في أشياء كثيرة، وكذلك دول ورؤساء، بثمن، وكانت مؤسسات استخباراتية غربية تقدم لدور نشر عالمية كنوزا من المعلومات وخطة كتاب وكانت دور النشر هذه تتفق مع هيكل أو غيره على كتابتها ضمن المعطى الاستخباري المطلوب وبقالب يضع فيه هيكل روحه وثقافته وأسلوبه، كما كان يعمل صموئيل هنتجتون أيضا، فـ''صدام الحضارات'' ليست فكرته وليست من اختراعه، إنما فكرة مخابراتية أمريكية جاءت في إطار إدارة العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ولم يقنعني هذا الصديق أن الدكتور عزمي بشارة يمتلك طهارة قومية عز نظيرها، وهو يعمل مستشارا لأكثر من جهة، وهو يتبنى فقها سياسيا تشرف عليه هيئات أمريكية، ولا ننكر أن بشارة ضليع في التحليل السياسي ويقترب من نبض الشارع في تقييماته كسبا للشعبية والحضور والتأثير، غير أن هذا يوضح أننا ما زلنا شعوبا طربية تعيش مظاهر الخداع السياسي والكلامي الاستعراضي، لا بل تصنع رموزها وتستدعيهم وتسبغ عليهم من الهالة والقوة والقداسة وتنفخ فيهم روحا غير موجودة تجعلهم في مستويات غير بشرية لدرجة تختزل فيه إرادتنا وعقولنا، وعندما يسقطون نُصاب بالصدمة والذهول. ولأنني اختلفت مع محدثي حول الثورات العربية والعوامل المؤثرة فيها والنتائج الذاهبة إليها، فإن أول العوامل المؤثرة في هذه الأحداث هو قالب الدولة، ليست القوانين والدساتير؛ لأنها كما قلنا ليس لها قيمة، إنما الاختلاف بين الدولة وأخرى هو ذلك الهامش الحيوي (القدرات الحية) من التعامل الإداري مع الناس، سمّه ما شئت مصلحة منفعة سياسية، لكن ثمة دولا امتلكت مكاينزمات وآليات شرعية للتعامل والتواصل والتفاعل مع جمهورها ومجتمعاتها، وتركت مسافة بين الدولة والقائمين عليها والمجتمع، ولم تحشر الدولة نفسها في تفاصيل التفاصيل، فقد أبقت هامشا للاختلاف فلم تجبر مجتمعها على الانضواء في حزب، فلم تتحكم في رقاب الناس وأرزاقهم ولم تحاربهم فيها، لم تحرق أصابع مثقف ولم تضع كومة من الأقلام في مؤخرته، لم تقلع عين روائي، ولم تهشم أصابع فنان، وامتلكت جوانب من الصفح السياسي والممارسة الإنسانية، أما تطوير البنية السياسية فهذا الأمر بات فرضية سياسية ومستقبلية ستواجهه الدولة اليوم أو غدا، والأفضل التعامل معه بالاختيار لا بالاضطرار.
والأمر الآخر أن محدثي يرى أن الثورات تلك ستكون فاصلا تاريخيا، وقد استفزتني مثل هذه النتيجة الاستباقية، لسبب بسيط أن الثورات ليست دائما عملا نبيلا وكاملا، فالثورات يشعلها المجانين ويقودها العقلاء ويقطف ثمارها الانتهازيون والوصوليون، فكثيرة هي الثورات التي جاءت باسم الشعب، وقادته وسامته أسوأ أنواع العذاب في التاريخ الإنساني والويلات والحروب وثورة الفاتح نموذجا، وليس أقلها المقابر الجماعية في العراق والسجون السرية، ونزوح وفقد الشعب العراقي كثيرا من أبنائه، وكما في الثورة التصحيحية السورية التي لم تمتلك وعلى مدى 40 عاما إرثا وتراكما مدنيا يجعل الدولة قادرة على التعامل مع أطفال في عمر الورد فقط لأنهم رددوا ''الشعب يريد إسقاط النظام''، أو قتل 20 ألفا في حماة الأولى وتكرارها في حماة الثانية، فنظم تخشى وتخاف شعبها لا يمكنها أن تحرسه أو تقوده إلى العلياء، وفي الآخر تصبح المجتمعات في حيرة من أمرها، فالخطاب الرسمي يقودها من نصر وهمي إلى نصر، والشعوب ترى أنها ماضية من هزيمة إلى هزيمة، والمؤسف أن بعض شعوبنا أصبح يتمنى استعادة دولة الماضي وليس المستقبل المنشود ولسان حالهم (يا ليت الزمان يعود).
يقول صاحبي هذا الفاصل التاريخي أنهى الماضي وثقله وحضوره وأصبح الأمر كله للمستقبل، لم نعد مكبلين به، ومع الأسف فإن حكاية المستقبل التي يتحدث بها صاحبي حكاية طويلة وملامحها غير واضحة لأن الواقع هو الطريق المؤدي لهذا المستقبل، فالمستقبل ينشده الجميع، ولا يصنع المستقبل إلا بإعادة بناء واعية للإنسان، لكن قلة من يحصلون عليه؛ لأنها تمنيات طوباوية وخيالية أحيانا وفيها تجاوز عن الواقع وهروب إلى المستقبل؛ لأن المستقبل يحتاج إلى الإعداد الشامل في مختلف مناحي ومرافق الحياة، ويقول إن الأحداث الأخيرة أنهت ونعت العامل الخارجي، وأنا كمحلل سياسي لا يمكنني تحت أي ظرف من الظروف أن أنزع عاملا مهما في عمليات التحليل، فالبيئة عنصر ومساهم رئيس في صناعة القرار، وأن هناك علاقة وثيقة بين البيئة الداخلية والخارجية قوة وضعفا، كما أن شطب عامل كهذا بهذا المنطق حالة فيها عسف كبير، وبالمحصلة ما الذي ترجمته لنا هذه الثورات وسوّقته لنا كإنجاز سياسي وكقاعدة يمكننا أن نعول عليها كثيرا لحدوث فاصل تاريخي، وهل القوى الديمقراطية الجديدة لن تلعب لعبتها الكمبردورية، وفقا للفقه الليبرالي، بأن قوى الاقتصاد ستتحكم في رقاب العباد؟ فكيف سيكون المستقبل دون تدخل الدولة حاملة التوازن؟ وهل وصلت المأسسة إلى أعلى شواهدها كي تضمن التوازن السياسي؟ وهل ما يجري في مصر وتونس ليس له علاقة بالإحكامات الجديدة القديمة؟ أليس ما جرى له علاقة بنهاية الدولة (الوظيفة) لم تعد تفي بحاجات المواطنين، ففكت هذه المجتمعات ارتباطها بالدولة لمصلحة مؤسسات تغدق عليها أموالا مضاعفة (مؤسسات التمويل الأجنبي)، لماذا صمت الجميع عندما طالب المجلس العسكري بأسماء الأفراد والمؤسسات التي تحصل على تمويل أجنبي ومقداره، وكيف تأثرت العلاقات بين واشنطن والقاهرة بسبب هذا الطلب؟ وعليه فإن المقاربات الواقعية ليست كما المقامرات الأيديولوجية ودغدغة عقول الجماهير وعواطفها، تلك العواطف التي كانت سببا في فشل الدولة السياسي والتنموي.
إرادة الشعوب التي يتحدث عنها محدثي تبنى على خمسة أعمدة رئيسة، أولا تطور نوعي في التربية والتعليم (ثورة)، وثانيا إعادة بناء ثقافة المجتمع ومنظومته من استهلاكية إلى إنتاجية منافسة (تحول اجتماعي اقتصادي)، ورفض ونبذ القيم البالية، وثالثا سيادة قيم القانون والمواطنة والمعرفة وسلطة المؤسسة وحضور الأطر المدنية، ورابعا بناء أسس قوية للتسامح واحترام الاختلاف، وخامسا وجود القدرة على ممارسة السلطة السياسية دون حرب POWER WITHOUT FORCE، وهذه العوامل تشكل في مجملها العام أهم ثوابت قوة الدولة وحصانتها وضمان تجددها واستمرارها، وقوة المجتمع وحضوره.