غادر السيرك فورا
تلوح في ذاكرتي دوما صورة ذلك المشهد، حين أزيح الستار عن ست راقصات باليه يتمايلن ويقفزن في الهواء بحركات رشيقة تصل إلى درجة الإعجاز الخارق للقدرة الطبيعية للبشر، حيث تحمل كل واحدة منهن في كلتا يديها عصا ترتكز في نهايتها نحو الأطباق الستة وتتمايل بتوازن إبداعي دون وقوع أي طبق. ورغم تلك العروض البهلوانية الباهرة الأداء إلا أن عيون اللاعبات ظلت مشدودة بقلق إلى وجوه الحضور بترقب ووجل بحثا عن أي لمحة رضا أو تصفيق يشجعهن على إكمال العرض أو الشعور بجدارتهن.
شعرت حينها وأنا أراقب ذلك العرض المبهر للسيرك الصيني العالمي بأن الكثير منا يقدم فقرات بهلوانية يومية في سيرك الحياة، وذلك حين نستنفد طاقاتنا وجهودنا وأعصابنا في تقديم عروض مبهرة مستمرة بهدف جذب أنظار الآخرين وكسب رضاهم، ولا نرى جودة أدائنا إلا من خلال تصفيقهم، و تظل أعيننا مشدودة نحوهم تترقب نظرة رضا من ملامحهم، وكم يصيبنا الإحباط والارتباك لمجرد أننا لمحنا في وجوههم شيئا ضئيلا من العبوس.
مبعث ذلك أننا قررنا أن نستشف نجاحنا من خلال ما يرتسم على وجوه المحيطين بنا بدلا من أن ننظر في أعماقنا لنحدد ما إذا كنا نشعر بالنجاح أم لا، وهذه طريقة غير مثمرة في التفكير ومناهضة لاكتساب السيطرة الشخصية لأنها توهمك بأن قيمة ذاتك لا يمكن أن تتحدد إلا من خلال أعين الآخرين وآرائهم. ولسوء الحظ فإن الكثيرين منا يتعلقون بهذه الطريقة في أوقات الشك والعجز عن اتخاذ القرار، ويفعلون ذلك وهم مقتنعون بأنهم لا يمكن أن يكونوا ناجحين إلا عندما يستحسن من حولهم أفكارهم وأفعالهم. والمحبط في الأمر أن هؤلاء لن يحققوا يوما الثقة بالنفس لأنهم رهنوا قيمتهم بإرضاء الآخرين مما سيجعل بورصة معنوياتهم تتأرجح باستمرار، وسيسبب لهم الاضطرابات العاطفية في شخصياتهم، لأنهم يحاولون بشكل مستمر استشفاف رسائل لا شعورية من أفعال وأقوال الآخرين، والحكم على أنفسهم بناء على اعتقادهم بقبول أو رفض الآخرين لهم، لكنهم يدورون في متاهة خادعة لأنهم لن يتمكنوا يوما من إرضاء الجميع.
يتوصل الناس عامة إلى استنتاجاتهم وتقييمهم للمواقف بناء على معاييرهم وقناعاتهم وليس بناء على أفعالك أنت، فاختر الأفعال التي تتناسب مع قيمك ومبادئك ولا تستنفد ساعات ثمينة من حياتك وأنت قلق من تأويل كل فعل أو قول صدر عن الآخرين، ولا تسكب طاقتك في تقديم عروض مبهرة وتجري وراء سراب إرضاء الجميع فهذه غاية لن تدرك أبدا.