مختص: المؤسسات المالية الإسلامية لا ترغب في العمل الجماعي ولا تتقيد بفتاوى المجامع الفقهية
أكد الدكتور سليمان ناصر الباحث الجزائري والخبير في المصرفية الإسلامية أن المعايير التي تضعها المؤسسات الداعمة لعمل المصرفية الإسلامية كهيئة المحاسبة والمراجعة غير ملزمة التطبيق على البنوك الإسلامية، وذلك خشية التصادم مع القوانين الداخلية لكل بلد، أو مع فتاوى الهيئات الشرعية في المؤسسة المالية، مؤكدا أن التقيد بتلك المعايير يفي بالكثير من متطلبات التنميط والحوكمة بشرط الاقتناع بأهميتها وضرورتها.
وقال ناصر إن المؤسسات المالية الإسلامية تفضل الربح السهل والسريع على المخاطرة، وهذا منافٍ لمبدأ ''الغنم بالغرم'' الذي ترفعه كشعار للتمويل الإسلامي، وأضاف أن اختيار المؤسسات المالية الإسلامية لتطوير المنتجات عن طريق التقليد والمحاكاة بدلا من الإبداع والابتكار دليل على العجز الذي تعانيه المصرفية الإسلامية من جهة، ويؤدي إلى الوقوع في الحيل في أغلب الأحيان من جهة أخرى، مشيرا إلى أهمية النهوض بالهندسة المالية الإسلامية لتتمكن من مجاراة الهندسة المالية التقليدية التي قدمت الكثير من الحلول في المجال المالي لكن دون مراعاة للضوابط الشرعية. فإلى تفاصيل الحوار:
لماذا تعيش صناعة المصرفية الإسلامية أزمة صامتة تتمثل في ضعف سلطة المعيرة والحوكمة على المؤسسات المالية؟
هناك جهود بُذلت وما زالت تُبذل من طرف المؤسسات الداعمة للعمل المصرفي الإسلامي لوضع معايير في فائدة البنوك الإسلامية، سواء المعايير المحاسبية والمعايير الشرعية من طرف هيئة المحاسبة والمراجعة AAOIFI، أو معايير الرقابة المصرفية من طرف مجلس الخدمات المالية الإسلامية IFSB، وهذه المعايير يُبذل من أجلها أيضاً الكثير من الزمن والمال ولكنها غير ملزمة التطبيق للبنوك الإسلامية، خشية أن تتصادم مع القوانين والتنظيمات الداخلية لكل بلد، أو مع فتوى هيئة الرقابة الشرعية لكل بنك، وهذا ما سبب للمصرفية الإسلامية الأزمة التي أشرتَ إليها، لكن بعض البلدان الإسلامية ألزمت بنوكها بهذه المعايير إدراكاً منها بأهميتها، فلماذا لا تنهج بقية البلدان نفس النهج؟. أعتقد أن التقيد بتلك المعايير سوف يفي بالكثير من متطلبات التنميط والحوكمة، بشرط الاقتناع والإيمان بأهميتها.
لماذا تخشى المؤسسات المالية الإسلامية العمل الجماعي والاندماجات وتفضل العمل الفردي ولا تشجع حتى على توحيد الهيئات الشرعية؟
كما ذكرت لك سابقاً، لا يوجد لدى المؤسسات المالية الإسلامية تقدير للعمل الجماعي بدليل عدم التقيد بالمعايير الصادرة عن المؤسسات الداعمة للعمل المصرفي الإسلامي، إضافة إلى عدم التقيد بفتاوى المجامع الفقهية الإسلامية، بل هناك تقدير للمصلحة الفردية للبنك، لأنه في كثير من الأحيان قد تتعارض هذه المصلحة مع تلك المعايير، ولعل أوضح مثال على ذلك ما حدث من جدل كبير حول التورق في السنوات الأخيرة. كيف تريد من بنك إسلامي له تقاليد عريقة في التعامل بالتورق المنظم أن يتخلى عنه بسهولة انصياعاً لفتوى مجمع الفقه الإسلامي الدولي؟.
لماذا تفضل المؤسسات المالية الإسلامية العمل وفقا لصيغ محددة وتترك بقية الصيغ وتقترب عمليا من نطاق عمل المؤسسات المالية التقليدية؟
لأن هذه المؤسسات أصبحت تفضل الربح السهل والسريع على المخاطرة، وهذا منافٍ لمبدأ ''الغنم بالغرم'' الذي ترفعه كشعار للتمويل الإسلامي. في السابق كانت تفضل العمل بالمرابحة على المضاربة والمشاركة الضروريتين لعملية التنمية والتي تسعى إليها كل البلدان الإسلامية، والآن أضافت إلى ذلك بعض العمليات الأخرى كالتورق وحتى بيع العينة في بعض البلدان، وهذا ما جعلها تقترب في عملها من البنوك التقليدية، بل وأصبحت محل انتقاد من عامة الشعب في الحصص الكوميدية للفضائيات.
أرى أنه للتخلص من هذه الظاهرة، لابد من الابتعاد عن الكثير من الحيل الفقهية في المعاملات المالية الإسلامية، ومن جهة أخرى لابد من فسح المجال لجيل شاب في هيئات الرقابة الشرعية، لأن وجود العضو في الكثير من تلك الهيئات يمنعه من أداء واجبه على أكمل وجه وهذا ما أضر كثيراً بالمصرفية الإسلامية.
لماذا ليس لدى هذه المؤسسات رغبة حقيقية في اعتماد مرجعية موحدة لإيداع الشهادات الشرعية فيها ليستفيد منها الباحثون والمهتمون؟
لأن ذلك ببساطة سوف يظهر الاختلافات بين الأفراد، وبين هيئات الرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية، وبين هذين الطرفين والمجامع الفقهية. لقد تابعت بأسف ما جرى عقب منع التورق المنظم والتورق العكسي من طرف مجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، لقد انتقد أحد العلماء الذين حضروا المؤتمر تلك الفتوى وسرعة صدورها وبأنها كانت مهيأة من قبل، وكأنه يريد أن يقول بصريح العبارة بأنها ''أمر دُبّر بليل''، ليرد عليه عالم آخر بالقول: ''إن الذي ينتقد قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي عليه أن يتأدب مع العلماء''. هذا هو الخلاف الذي جعل المؤسسات المالية الإسلامية بعيدة عن المرجعية الموحدة. لكن، يجب علينا ألا نفقد الأمل، فبروز جيل شاب في هيئات الرقابة الشرعية - كما ذكرت - كفيل بتحقيق هذا الهدف، إن شاء الله، كما أن إجراءات أخرى كفيلة بالمساعدة على تحقيقه ولو على المدى البعيد، كإنشاء هيئة رقابة شرعية موحدة لدى البنك المركزي لكل دولة كخطوة أولى نحو توحيد الفتوى ولو داخل البلد الواحد، إضافة إلى التقيد بمعايير المؤسسات الداعمة للعمل المصرفي الإسلامي، وعلى رأسها المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة.
لماذا تفضل هذه المؤسسات أسلمة المنتجات على الإبداع والابتكار والتعاون ومؤسسات البحث العلمي وكراسي البحث؟
هناك طريقتان لتطوير المنتجات المالية الإسلامية، إما التقليد والمحاكاة للمنتجات التقليدية، وإما الإبداع والابتكار، والمؤسسات المالية الإسلامية اختارت الطريقة الأولى لأنها الأسهل، وهذا يدل على العجز الذي نعانيه في هذا المجال من جهة، ويجعلنا نقع في الحيل في أغلب الأحيان من جهة أخرى. أتذكر هنا مقولة للأخ الدكتور محمد نضال الشعار (الأمين العام لهيئة المحاسبة والمراجعة) دعا فيها الباحثين خاصة أعضاء هيئات الرقابة الشرعية إلى ''الكف عن خنق المنتجات المالية التقليدية وإجبارها على النطق بالشهادتين''، في إشارة منه إلى الطريقة الأولى.
إن الإبداع والابتكار يدخل ضمن ما يسمى بالهندسة المالية الإسلامية، لذلك يجب النهوض بهذه الأخيرة حتى تتمكن من مجاراة الهندسة المالية التقليدية التي قدمت الكثير من الحلول في المجال المالي لكن دون مراعاة للضوابط الشرعية طبعاً، وأرى أن الاهتمام بها يجب أن يكون على مستوى كل مراكز البحث في الاقتصاد الإسلامي، مثل: مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب في جدة، مركز صالح عبد الله كامل في القاهرة، إضافة إلى المراكز الأخرى العديدة في العالم الإسلامي مثل باكستان وماليزيا، وهنا يأتي دور مؤسسات البحث العلمي وكراسي البحث التي أشرتَ إليها في سؤالك.
كيف تنظر إلى معايير بازل الجديدة، وما أثرها على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية؟
يمكن القول بأن معايير بازل 3 جاءت أساساً لتغطية جوانب الضعف التي ظهرت لدى البنوك بسبب الأزمة المالية العالمية الأخيرة، وبما أن البنوك الإسلامية لم تتأثر كثيراً بهذه الأزمة وهذا بشهادة الخبراء الغربيين أنفسهم؛ فإن هذه البنوك لم تكن المقصودة بتلك المعايير. لكن بالمقابل نجد أن البنوك الإسلامية ملزمة بتطبيق هذه المعايير الجديدة لتكتسب اعترافاً ومصداقية أكثر على المستوى الدولي، هذا بالإضافة إلى أن هذه البنوك يمكن أن تستفيد منها في تقوية العديد من الجوانب في عملها ومنها الجوانب التي ذكرتَها في سؤالك.
لقد سبق لي أن كتبت مقالاً بعنوان ''لهذه الأسباب يمكن للبنوك الإسلامية أن تطبق بازل 3 دون صعوبات'' وبيّنت فيه أن البنوك الإسلامية لن تجد صعوبة كبيرة في تطبيق هذه المعايير الجديدة لعدة أسباب، أهمها أن الأزمة الأخيرة أثبتت هشاشة رؤوس أموال البنوك بسبب تركيبتها التي هي أقرب إلى الديون منها إلى المساهمات النقدية الفعلية، لذلك عملت بازل 3 على تنقية تركيبة رؤوس الأموال لدى البنوك، بينما البنوك الإسلامية لا تعتمد على الديون في دعم رؤوس أموالها بل تعتمد على مساهمات فعلية من المساهمين أو على ودائع الاستثمار، كما أن الاتفاقية سعت إلى زيادة الرسملة المطلوبة تجاه عمليات التوريق وغيرها من العمليات التي ورطت البنوك في الأزمة الأخيرة، والبنوك الإسلامية في منأى عن هذا الخطر لأنها لا تتعامل بالمتاجرة في الديون أو ما يُعرف بالتوريق.
تشهد دول المغرب العربي أخيرا اهتماما ملحوظا لتطوير قطاعاتها المالية لتسهيل ظهور خدمات ومنتجات جديدة مبتكرة، وإدماج الصيرفة والمالية الإسلامية في النسيج المالي الوطني. كيف تنظر إلى المصرفية الإسلامية في المغرب العربي.
لاشك أن للمصرفية الإسلامية مستقبلا واعدا في دول المغرب العربي، إن شاء الله، ذلك لأنها تعدّ مطلباً شعبياً في هذه المنطقة على غرار مناطق العالم الإسلامي. فإذا كانت فرنسا مثلاً والتي وقفت موقفاً معادياً للمالية الإسلامية لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن تفتح الأبواب لنشرها على أراضيها إرضاءً خاصة للجالية المغاربية على أراضيها، فكيف بالدول المغاربية المسلمة نفسها.
أما بالنسبة للملتقى المغاربي الأول للمالية الإسلامية بتونس، فأنا لم أحضر هذا الملتقى ولم أُدع إليه، وكنت أتمنى أن يركز على مشاركة الباحثين من أبناء المنطقة أكثر من غيرهم، وهذا ليس انتقاصاً من قيمة الحاضرين، وإنما تكريساً للحكمة القائلة ''أهل مكة أدرى بشعابها''. لكنني أعتبره خطوة في الاتجاه الصحيح إذا أخذ القائمون عليه هذا المبدأ في الاعتبار في الملتقى الثاني - إن شاء الله.