الأزمة غير المدروسة

مرت ثلاث سنوات الآن منذ انهيار ليمان براذرز، وهي الواقعة التي كانت مؤشراً لبداية المرحلة الأخطر من أزمة 2007-2008 المالية. تُرى هل أصبح العالم المالي مكاناً أكثر أمناً اليوم؟
في غضون بضعة أيام في أعقاب الهجمات الإرهابية في الـ 11 من أيلول (سبتمبر) 2001، فرضت الولايات المتحدة تدابير أمنية صارمة جديدة في مختلف مطارات البلاد. وفي غضون شهر كانت القوات المسلحة الأمريكية على الأرض في أفغانستان. وفي غضون ثلاثة أعوام أصدرت الولايات المتحدة تقريراً رسمياً حول الأسباب التي أدت إلى أحداث الـ 11 من أيلول (سبتمبر)؛ وكانت لجنة الخبراء التي أصدرت التقرير والتي تمتعت بكل الموارد اللازمة لتيسير عملها حريصة على تحديد نقاط الضعف التي تعيب وكالات الأمن الوطني في أمريكا، وتقديم التوصيات لعلاج نقاط الضعف هذه.
ولكن ماذا جنينا بعد ثلاثة أعوام من اندلاع الأزمة المالية؟ من المؤكد أن أميركا تستطيع أن تبرز جهودها في هذا السياق بالحديث عن قانون دود فرانك المؤلف من 2000 صفحة. ولكن من المؤسف أن القليل من تلك الصفحات يعالج أي مشكلة يشتبه في أنها كانت من بين الأسباب التي أدت إلى اندلاع الأزمة المالية.
فحتى الآن لم تعالج مشكلة إفراط مستثمري السندات في الاعتماد على وكالات تصنيف الائتمان، التي تميل إلى اللين والهوادة في التعامل مع الأقوياء من مصدري السندات. ولم يقترب أحد من مشكلة اعتماد قطاع الظل المصرفي على السيولة والضمانات في القطاع المصرفي الرسمي، وبالتالي الاعتماد على الحكومة في نهاية المطاف. ولن تتغير القيود المفروضة على استعانة المؤسسات المالية بالروافع المالية (الإنفاق بالاستدانة) إلا في العقد المقبل.
وتطول قائمة النقائص وأوجه القصور. فلا تزال الحوافز الضارة في أسواق المال والتي تشجع على الإفراط في خوض المجازفة باقية إلى حد كبير. كما ظلت المشاكل المتصلة بدفع الحوافز موضع تجاهل. أما التغيير الأكثر بروزاً في وسائل الإعلام ـ الفصل بين المتاجرة في الأملاك وبين الخدمات المصرفية التجارية (والمعروف أيضاً بـ ''قانون فولكر''، تيمناً باسم رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق بول فولكر) ـ فلا علاقة له على الإطلاق بالأسباب التي أدت إلى اندلاع الأزمة، والأرجح أن الموافقة على هذا القانون كانت راجعة إلى عدم جدواه.
وقد أصدرت لجنة التحقيق في الأزمة المالية تحت رئاسة فيل أنجيليديس تقريراً عن الأزمة ـ ثلاثة تقارير في واقع الأمر. وفي المقابل، لم تصدر لجنة روجرز، التي حققت في الأسباب وراء كارثة المكوك الفضائي تشالنجر، سوى تقرير واحد. وكانت أفضل العقول في ذلك الوقت، بما في ذلك عالم الفيزياء ريتشارد فينمان الحائز على جائزة نوبل، جزءاً من التحقيق، ولم تترك لجنة التحقيق أي حجر لم تقلبه في بحثها عن الأسباب. وفي النهاية تم تحديد الجاني بكل دقة في الحلقة العازلة المعيبة التي تيبست تحت درجة الحرارة المنخفضة فتسببت في تسرب الوقود. ولإقناع عامة الناس، قام فينمان باستعراض ذلك الاستنتاج في تجربة بثتها القنوات التلفزيونية.
صحيح أن الاقتصاد ليس علماً دقيقاً مثل الفيزياء، ولكن هذا لا يبرر فشل لجنة انجيليديس. فمن خلال جمع البيانات الكافية، لدينا من الطرق ما يمكننا من التعرف على الأسباب المحتملة لأي ظاهرة اقتصادية. بل إننا أفضل في دحض وتفنيد التفسيرات المحتملة. أي أن الحدود الكبرى يفرضها مدى توفر البيانات والمعلومات، وليس الأساليب والمنهجيات. ولكن البيانات لم تكن متاحة، لأن الأطراف المعنية كانت (ولا تزال) تخشى تقاسم مثل هذه المعلومات مع الناس، لأنها تدرك تماماً ما الذي قد تكشف عنه.
ومن المؤسف أن اللجنة ــ التي تألفت في الأغلب من مسؤولين منتخبين وليس من الخبراء ــ أهدرت وقتها في خلافات سياسية. فلم يتمكن أعضاؤها من الاتفاق حتى على كيفية تعريف الرهن العقاري الثانوي وحساب إجمالي عدد صكوك هذا النوع من الرهن العقاري في الولايات المتحدة في وقت الأزمة.
والواقع أن تحقيقاً لاحقاً في عمل اللجنة كان أكثر شمولاً من تحقيق اللجنة في الأزمة. فبعد الاطلاع على رسائل البريد الإلكتروني، توصل تقرير صادر عن الكونجرس الأمريكي إلى ما يدل على أن عمل اللجنة كان موجهاً من قِبَل الدوائر السياسية ولم يكن قائماً على تقصي الحقائق. على أية حال، تم تحديد الإصلاحات والموافقة عليها بالفعل، وذلك قبل التوصل إلى أية حقائق؛ وكان تركيز اللجنة منصباً على دعم أو تسفيه تشريع دود/فرانك (اعتماداً على الحزب السياسي التابع له رئيس اللجنة)، بدلاً من إثبات الحقائق.
الواقع أنها كانت فرصة عظيمة مهدرة. فبفضل صلاحية الاستدعاء، كان بوسع لجنة انجيليديس أن تجمع البيانات المطلوبة وأن تتيحها للباحثين من أجل الإجابة عن العديد من التساؤلات الحاسمة حول الأزمة. فهل كانت الشركات التي منحت تجارها (وليس رؤساءها التنفيذيين فحسب) تعويضات ورواتب أعلى تخوض قدراً أعظم من المجازفة؟ وهل كان إفراط المؤسسات المالية في خوض المجازفات ناتجاً عن انعدام الكفاءة أم الغباء، أم أن ذلك كان بمثابة استجابة منطقية للضمانات التي قدمتها الحكومة ضمنا؟ وهل أدركت السوق انتشار معايير الإقراض المتساهلة، فقامت بتسعير الأسهم المعنية وفقاً لذلك، أم أن السوق كانت ضحية لخدعة ما؟ ومن كان المشترون النهائيون لهذه المنتجات السامة، ولماذا اشتروها؟ وما مدى أهمية الدور الذي لُعِب عن طريق الاحتيال والغش؟
هذه هي التساؤلات التي تحتاج إلى إجابة. من المؤسف أن هذه التساؤلات من المرجح أن تظل بلا إجابة في غياب التفويض بالكشف الكامل عن البيانات. وإذا لم يحدث ذلك فإننا نخاطر بعدم التوصل إلى الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة إلا بعد اندلاع الأزمة التالية.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي