ازدواجية أمريكا تحرج دول المنطقة وتدفع بالربيع العربي إلى أحضان إيران والحركات الإرهابية
عندما ضغطت واشنطن بكل قوتها على الرئيس الفلسطيني محمود عباس للتراجع عن ذهابه للأمم المتحدة وطلب العضوية لدولة فلسطين، سعت قوى عديدة عربية وفلسطينية لوأد هذا المشروع ولو كان لمجرد التمرين السياسي وإعادة القضية الفلسطينية إلى الصدارة، فكما أن العالم العربي يتغير وله ربيعه، فإن هذا الربيع ليس عربيا فقط، بل ربيع عالمي، فأمريكا التي كانت تسيطر سيطرة كاملة على الإعلام هي واللوبي الإسرائيلي، فإن الإعلام اليوم فيه هامش متاح لإظهار حقوق الشعب الفلسطيني ولكشف حالة الخداع الإسرائيلية والأمريكية، فقد أكدت استطلاعات الرأي العام الأمريكية أن هناك تغيرا شبه جذري لدى الشباب الأمريكي وموقفهم من الشعب الفلسطيني ومن مساندتهم لإسرائيل، وأصبح هذا التغير أيضا ضاغطا على الإدارات الأمريكية، فلا يكفي أن يعلن الرئيس الأمريكي اعتراف أمريكا بحق الدولتين، إنما يطالب هذا الشارع أن يكون لكلام الرئيس مزيد من المصداقية وألا يختبئ خلف ضغوط اللوبي الصهيوني وخلف مصالح الحزب الديمقراطي.
من هنا تبدأ لغة المصالح وليست لغة المبادئ، ومن هنا تنكشف أمريكا التي تطالب شعوب الأرض بمكافحة الإرهاب وهي الراعي الأكبر للإرهاب والعنف الراديكالي، فإذا كانت واشنطن ترى أن زهر الربيع العربي ديمقراطي، وأنها أمدته بفياجرا الانتصاب، إلا أن هذه الروح الوثابة لن تتجاوز الحدود والثوابت العقدية والقومية والوطنية، وإذا تراجع الرئيس الأمريكي عن وعوده التي قطعها في جامعة القاهرة وفي إسطنبول وجاكارتا فإنه اليوم لن تمنحه الشعوب العربية فرصة الثقة وتصديق الوعود التي ثقب الشباب العرب آذانهم لأجلها، ليرتدوا إلى راديكالية جديدة وغريبة هذه المرة.
بالأمس القريب حذر الأمير تركي الفيصل الإدارة الأمريكية من مغبة استخدام الفيتو ضد مشروع الدولة الفلسطينية، وأورد أسبابا موضوعية لنواتج هذا الفيتو فقد قال الفيصل إنه إذا استخدمت واشنطن الفيتو فإن عليها أن تعي تداعيات مثل هذا الاستخدام على الربيع العربي الذي سيشكك في السلوك السياسي الأمريكي ويتأكد له أن الديمقراطية والحرية التي ترغب فيها أمريكا هي حرية الإفراغ من المضمون وحرية اندماج إسرائيل في المنطقة، وحرية التعبير وفقدان الهوية والمعنى، وقال الفيصل إن تداعيات استخدام الفيتو ستؤدي إلى دورة جديدة من العنف والتطرف، وستؤدي إلى سيطرة القوى الإسلامية المتطرفة على الشارع العربي، وهذا يعني أن واشنطن تقدم المنطقة على طبق من ذهب للتدخل والنفوذ الإيراني، وأضاف أن واشنطن ستخاطر بما لها من مصداقية ضئيلة متبقية في المنطقة، وسيتقلص نفوذها، ويهتز الأمن الإسرائيلي وستصبح فرص الحرب ممكنة أكثر مما مضى، وهذا لن يمكن الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، من التعاون مع الولايات المتحدة، وربما تضطر السعودية إلى تبني خيارات سياسية جديدة أكثر استقلالية وحزما، في مناطق عديدة للسعودية مكانة فيها ودور في تعزيز أمنها واستقرارها، وأن الرئيس الفلسطيني وبحسب مقربين منه قال إذا فشلت فإني سأتجه نحو حل السلطة الفلسطينية، فيما نذر الانتفاضة الشعبية تستعيد حضورها في ظل وهج الربيع العربي وتغير طبيعة الدور المصري وربما السوري أيضا، كما أن السعودية تختلف عن أي دولة عربية وإسلامية لأسباب تتعلق بالبعد الشرعي الديني، فموقف المملكة سيكون ملتزما بالواجب الشرعي المنوط بها، كما أنها وفي إطار سياسي لن تكون على خلاف مع توجهات الشارع العربي، وقد أكدت دعمها ومساندتها لحرية الشعوب العربية واستعادة كرامتها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وعلى الإدارة الأمريكية والرأي العام العربي والأمريكي أن يعلم مخاطر السياسة الأمريكية؛ لأن العرب أدرى بشؤون المنطقة من واشنطن، فإن ركبت الإدارة الأمريكية رأسها واستخدمت الفيتو فإن عليها وحدها أن تواجه ردة الفعل الغاضبة في وقت لم تعد أي دول تحمل وزر وأخطاء الآخرين، خاصة إن كانت المؤشرات تفيد بأن واشنطن باستخدامها الفيتو بالضد من مشروع الدولة الفلسطينية ستضحي بخيار الأمن والسلام لمصلحة خيارات العنف والتطرف والتأثير والحضور الإيراني، إذ ستجد الحركات الإسلامية الإسلام السياسي والحركي أنه يلتقي مع طهران، التي تؤكد وأكدت في مؤتمر الصحوة الأخير أن الصحوة الإسلامية استمدت بريقها وفاعليتها من الثورة الإسلامية في إيران.. فهل تقدم واشنطن المنطقة لطهران كما قدمت لها العراق؟
إن الإدارة الأمريكية فقدت كثيرا من أصولها في المنطقة بسبب سياساتها المزدوجة والقاصرة، وبسبب جعل إسرائيل فوق كل الاعتبارات الحقوقية والإنسانية، وهذا الأمر الصارخ أصبح محرجا للشعوب العربية وللأوروبيين والأمريكيين أيضا، خاصة أن المجتمع المدني العالمي أصبح واعيا بالتسويف الأمريكي - الإسرائيلي، فقد تقدمت المملكة بمبادرة استراتيجية للحل السلمي في المنطقة عام 2002 واعتمدها العرب في قمة بيروت عام 2003، لكن واشنطن وتل أبيب اعتبرتا أن الأمور تميل لمصلحتهما طالما ظل النفوذ الأمريكي في المنطقة، بينما تكشف الأحداث أن الربيع العربي ليس ربيعا أمريكيا، وأنه سيصبح أكثر تطرفا إن شعر بوجود هندسة أمريكية لهذه الاحتجاجات والثورات؛ ولأن تل أبيب وواشنطن رفضتا التعامل مع هذه المبادرة أعلن خادم الحرمين الشريفين في مؤتمر القمة العربية 2009 في الكويت أن المبادرة العربية لن تبقى طويلا على الطاولة.
ففي 09/12/2004 أطلق العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني تحذيراته للولايات المتحدة محذرا إياها من احتلال العراق وانهيار نظامه السياسي وتسليمه لطهران سيشعل فتيل الحرب الطائفية في المنطقة، وستستغله طهران لتشكيل الهلال الشيعي المكون من إيران والعراق وسورية ولبنان، وستمتد آثاره لدول الخليج أيضا، وفي تصريحات صحافية أكد العاهل الأردني في رسالة موجهة للإدارة الأمريكية أن الجهود الدولية لمكافحة التطرف والإرهاب ستكون ناقصة ما لم تتوج بحل عادل للقضية الفلسطينية؛ لأنها – في رأيه - منتجة للتطرف السياسي والديني، وأنها تكشف عن تناقضات التوجهات السياسية الأمريكية في المنطقة، فبدلا من أن تتدخل إيران في دعم ما تسميه بقوى الممانعة والمقاومة، وتنعش قيم التطرف والإرهاب، وبدلا من الاستجابة الأمريكية للسلام العادل والشامل تلتقي التوجهات الأمريكية الإسرائيلية بما يخدم التوجهات والأهداف الإيرانية في المنطقة.
ضمن هذه الرؤية؛ فإن المؤشرات تفيد بأن الربيع العربي يحمل في داخله حملا متطرفا من الناحية السياسية والعقدية، وأن الحضور الأمريكي في المنطقة سيتراجع، لا بل الحضور الأوروبي أيضا؛ لأن إرادة الشعوب حتما لن تبقى أسيرة التوجهات الأمريكية، خاصة بعدما اكتشفت الشعوب الوهن الإسرائيلي، واكتشفت ملامح قوتها وقدرتها على تغيير المعادلات السياسية.
لقد حاولت واشنطن طي صفحة الإسلام الراديكالي والحركي بقتل أسامة بن لادن، وأعلنت ذلك وكأنه انتصار يتزامن مع انتصارات الشعوب والاحتجاجات السلمية والمدنية، وحاولت واشنطن الاقتراب من الإسلام السياسي والاعتراف به وقبولها التعامل معه، وقابلها الإسلام المدني كلاما بكلام أيضا، وأنه مؤمن بالحوار والديمقراطية والتعددية السياسية ولا يؤمن بالإقصاء والتهميش، ولن يحصل على أغلبيات برلمانية، لكنها لم تلاحظ كيف كشر الشارع المصري عن أنيابه عندما تحدث الزعيم التركي أردوغان (المحبوب والملهم) لدى الشارع العربي عن علمانية الدولة المصرية، وكيف كانت ردود الفعل المصرية، وكيف انعكس ذلك سلبا على وهج الزيارة، وحاول الأتراك تبريرها بأنها رسالة موجهة للشارع التركي تؤكد أنه مؤمن بالعلمانية الكمالية، هذا المؤشر سبقه مؤشر آخر عندما رفض الإسلام السياسي الحوارات المباشرة مع واشنطن وطالب بأن تكون عبر جهات رسمية، وسبقها مؤشر متعلق برفض الأسلوب الأمريكي واستهجانه في التعامل مع بن لادن بعد قتله. عندما تقدم أوباما بخطاب حاز الإعجاب والتقدير، إلا إنه اليوم بتنكره لما جاء في الخطابات التي وجهها من القاهرة وإسطنبول وجاكارتا يثبت للشباب الإسلامي والعربي أن السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط لا تتمتع بالاستقلالية، ولا تتمتع بالمرونة وأنها أسيرة للتوجهات الإسرائيلية، وأن هذه الذيلية ستكون لها نتائجها الوخيمة على المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي أيضا.
يبدو من الواضح أن الاستراتيجية الأمريكية تغلف السم بالدسم عندما اضطرت إلى الاستجابة لتوجهات الشعوب، غير أنها تعمد إلى هندسة المنطقة هندسة أمنية منفعية بعيدة المدى، فهي ما زالت تؤمن بمشروعها الشرق أوسطي الجديد، وأنها تهدف إلى نزع مقومات القوة العربية، والهيمنة عليها، وتغذية الخلافات الداخلية والخارجية، غير أنها لم تدرك بعد أن كثيرا مما تعانيه المجتمعات العربية الإسلامية هو نتاج فوضى السياسات الأمريكية في المنطقة تحديدا، وأن الشعوب العربية هذه الفترة ترفض أن تعامل بمعاملة دونية ومزدوجة؛ لأن استعادة حقوقها المدنية والسياسية لن يلغي من ذهنها مطالبها المشروعة أن تكون لها مكانتها تحت الشمس، وأن تستعيد حقوقها المسلوبة، التي تسهم واشنطن فيها بدور كبير.
هل يعي الأمريكان ما يجري عربيا؟ وهل الأمريكان على معرفة بأن إمكاناته التأثيرية وحضورهم لم يعد كما كان في السابق؟ وهل يدرك الأمريكان أن القيادات العربية لن يكون بمقدورها معارضة توجهات شعوبها وتطلعاتهم في التحرر الوطني والقومي؟
إن إقامة الدولة الفلسطينية فرصة تاريخية تثبت فيها أمريكا أن العالم تغير، وأن إمكانية فرض الاحتلال بالقوة على شعوب العالم أمر أصبح من الماضي، وأن الأخلاق السياسية العالمية ومنظمات العالم المدنية ودور الإعلام والاتصال في تقريب وجهات النظر وكشف الحقائق بعد تزييفها سيؤدي إلى محاصرة الإدارات الأمريكية، فلا يعقل أن تمتد المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية لأكثر من 25 عاما وقضية شعب لم يمر بها شعب أي دولة في العالم، ولهذا فإن هذا الفاصل سيكون تاريخيا ومؤثرا في توجهات الربيع العربي أيضا.