وجه الشبه بين معاناة الأفارقة ومعاناة الفلسطينيين

لقد جرت العادة على إقامة نوع من المقارنة بين معاناة الأفارقة في ظل نظام الفصل العنصري (الأبارتهيد) ومعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي. وعلى سبيل المثال فإن أوري ديفيس الناشط الحقوقي الذي تحول إلى الإسلام وانتخب عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح الفلسطينية عام 2009 كتب سلسلة من المقالات والكتب يصف فيها إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري، فالسياسات التي تنتهجها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أشبه ما تكون بسياسة نظام الفصل العنصري الذي طبق في جنوب إفريقيا حتى عام 1994.
وأحسب أن قصة هذا المناضل الفتحاوي أوري ديفيس الذي ولد لأبوين يهوديين في مدينة القدس عام 1943م إنما تعكس أهمية التمييز بين اليهودية كديانة سماوية والصهيونية كأيديولوجية عنصرية تقوم على أساسها دولة إسرائيل. وفي هذا السياق يشير القس الجنوب إفريقي ديزموند توتو، الحائز جائزة نوبل للسلام أثناء زيارته لإسرائيل إلى أنه رأى نظاماً عنصرياً شبيهاً بنظام الأبارتهيد الذي عاش في كنفه وعانى ممارساته سنين طويلة في جنوب إفريقيا.
يقول ديزموند توتو: ''لقد رأيت كيف يتم إذلال الفلسطينيين على المعابر ونقاط التفتيش. إنهم يعانون مثلنا حينما كان يمنعنا صغار الضباط البيض من حرية الحركة''، ويبدو أن تلك الشهادات الإفريقية وغيرها التي تبين معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال هي التي تجعل القضية الفلسطينية حاضرة في عقول ووجدان الأفارقة باعتبارها حركة تحرر وطني تحتاج إلى الدعم والمساندة من المجتمع الدولي.
ويأتي هذا المقال بمناسبة سعي القيادة الفلسطينية بزعامة الرئيس محمود عباس (أبو مازن) إلى الحصول على اعتراف مجلس الأمن الدولي بقيام الدولة الفلسطينية. إذ نحاول التعرف على حقيقة الموقف الإفريقي وإرهاصاته السابقة والعوامل الدافعة إليه؟ وهل يمكن الحديث عن دروس إفريقية للفلسطينيين؟

ملامح الدعم الإفريقي للدولة الفلسطينية

كان لافتاً في أثناء اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الأربعاء 21 أيلول (سبتمبر) 2011 قيام رئيس جنوب إفريقيا جاكوب زوما بدعم المطلب الفلسطيني الخاص بإعلان الدولة المستقلة، حيث دعا المنظمة الدولية إلى التصرف باستقلالية وعدم الخضوع تحت تأثير دولة واحدة مهيمنة. ومن المعلوم أن الفلسطينيين يتمتعون من خلال منظمة التحرير الفلسطينية بوضعية مراقب في الأمم المتحدة. على أن الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة وخارجها سئم من هذا الوضع الذي لم يشهد أي اختراق حقيقي على صعيد المفاوضات مع إسرائيل. وعليه فقد كان الخيار الفلسطيني هو اللجوء إلى الأمم المتحدة من أجل انتزاع الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة.
وفي الوقت الراهن تعترف نحو 122 دولة في معظم أنحاء العالم بقيام دولة فلسطين. وتأتي هذه الدول المساندة في معظمها من إفريقيا والعالم العربي والدول التقدمية في أمريكا اللاتينية. ولا يخفى أن معظم حركات التحرر الوطني في إفريقيا حافظت على علاقاتها الوثيقة مع الفلسطينيين وكفاحهم المشروع من أجل نيل الاستقلال. وعندما استقلت الدول الإفريقية اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية، بل قامت بفتح مكاتب تمثيل دبلوماسي للفلسطينيين في عواصمها. والأكثر من ذلك فإن بعض الدول الإفريقية الكبرى مثل نيجيريا، التي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، أعلنت منذ فترة مبكرة تأييدها لحل الدولتين، إسرائيل وفلسطين. الحكومة النيجيرية تعترف رسمياً بدولة فلسطين منذ عام 1984م، وهو ما أكدته أثناء اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السادسة والستين.
ويروي لنا الناشط الحقوقي حورس كامبل، وهو من أصول جامايكية وانخرط لعقود طويلة في حركة التحرير الوطني الإفريقية، كيف أنه في أثناء عمله في لجنة التحرر الوطني في جامعة دار السلام وجد تطابقا بين القضية الفلسطينية وكل قضايا النضال ضد الاستعمار والتفرقة العنصرية. وعندما قامت القوات الإسرائيلية بارتكاب مجزرة صابرا وشاتيلا عام 1988م أضحى واضحاً لكل القوى التقدمية في إفريقيا مدى وحشية إسرائيل وسياساتها العنصرية.

نظام الفصل العنصري الآخر

لقد وجد كثير من الأفارقة في سياسات الاحتلال الإسرائيلي نموذجاً آخر للفصل العنصري. وشرحت الكاتبة ليلى فرسخ باقتدار أوجه الشبه والاختلاف بين نظامي الفصل العنصري في كل من جنوب إفريقيا قبل عام 1994م ودولة إسرائيل، ووجدت أن هناك ثلاثة عوامل أساسية تجعل من نظام الفصل العنصري الإسرائيلي أشد قسوة وعنفاً من نظيره الإفريقي؛ فمن جهة أولى نجد أن كلاً من المستوطنين البيض في جنوب إفريقيا والصهاينة في فلسطين استعمروا بلاداً مأهولة بالسكان وقاموا بطرد أهلها منها، لقد قام المستوطنون اليهود بطرد نحو ثلثي السكان الفلسطينيين من الأراضي التي أقيمت عليها دولة إسرائيل عام 1948م، أما من بقي من الفلسطينيين فقد تم عزلهم عن السكان اليهود. على أن نقطة الاختلاف هنا هي أن المستوطنين البيض في جنوب إفريقيا سعوا إلى السيطرة على الأغلبية السوداء بدلاً من طردهم، حيث تم عزلهم في معازل خاصة تحت سيطرة الأقلية البيضاء.
أما الاختلاف الثاني فإنه يشير إلى مسألة تقسيم الأراضي باعتبارها حلاً للصراع، ففي الحالة الجنوب إفريقية رفض المؤتمر الوطني الذي قاد حركة النضال ضد التفرقة العنصرية مشروع الفصل العنصري وطالب بإقامة دولة موحدة ديمقراطية. وعلى عكس ذلك نجد أن منظمة التحرير الفلسطينية قبلت منذ عام 1974م بفكرة التقسيم وإقامة الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية كاستراتيجية أساسية لحل الصراع.
ويتمثل الاختلاف الثالث في طبيعة الموقف الدولي إزاء مقاربات حل الصراع، فالمجتمع الدولي لم يقبل مطلقاً فكرة التقسيم أو نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وحينما حاولت حكومة جنوب إفريقيا العنصرية عام 1967م الحصول على عضوية لإقليم الترنسكاي (وهو أحد معازل السود) في الأمم المتحدة رفضت المنظمة الدولية هذا الطلب. أما في الحالة الفلسطينية فقد قبلت الأمم المتحدة بقرار التقسيم منذ عام 1947. كما أن قرار مجلس الأمن الدولي 242 في عام 1967 أكد هذا المنحى في حل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي.
ومع ذلك فإن اتفاقات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين أفضت إلى إعادة التوكيد مرة أخرى على المشابهة بين الفصل العنصري الجنوب إفريقي وتلك السياسات التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث أضحت هذه المناطق أقرب ما تكون إلى نظام المعازل (أو البانتوستانات) في جنوب إفريقيا زمن الفصل العنصري.

فلسطين والنضال ضد العنصرية

منذ عشر سنين خلت في أيلول (سبتمبر) 2011 عقد في مدينة ديربان في جنوب إفريقيا المؤتمر الدولي لمناهضة العنصرية. ومن المثير للانتباه أن المؤتمر وضع قضايا العنصرية والتعويضات وقمع الشعب الفلسطيني في محور النقاش الدولي. وتم وضع برنامج واضح للعمل من أجل محاربة كل أشكال العنصرية وكراهية الأجانب.
على أن أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) دفعت بالعالم إلى دخول مرحلة جديدة اتسمت بهيمنة المنظور العسكري الأمريكي على كل قضايا الأمن الإقليمي والدولي، وهو ما عرقل تنفيذ برنامج مؤتمر ديربان لمكافحة العنصرية والتمييز العنصري وكل أشكال عدم التسامح في مناطق العالم المختلفة. ولعل مراجعة الخطاب السياسي لقادة إسرائيل منذ تأسيسها يعكس بجلاء مدى عنصرية الدولة الإسرائيلية. ألم تقل رئيسة وزراء إسرائيل الراحلة غولدا مائير ''إنه لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني'' وفي عام 1981م قال رافائيل إيتان (حزب الليكود) ''العربي الوحيد الجيد هو العربي الميت'' وفي عام 2001 حرض الحاخام المتطرف عوفاديا يوسف على العرب الفلسطينيين باعتبارهم أشرار ولا تجوز الرحمة بهم.
ولا شك أن هذا الخطاب الإسرائيلي يؤكد أن الصهيونية نوع من العنصرية والتطهير العرقي. إن دولة إسرائيل لا تعبر عن قومية لليهود كما يحاول البعض الدفاع عن ذلك، لقد ظهرت كمشروع سياسي في قلب أوروبا من أجل السيطرة على أراضي الآخرين. وربما نجد أن هذا المشروع الصهيوني حمل في جوهره عنصرية الفكر الغربي في رؤيته للمجتمعات غير الغربية باعتبارها دونية وهامشية.
وفي اعتقادي أن الفلسطينيين لم يتعلموا درس جنوب إفريقيا جيداً، حيث تم تقليص المشروع الوطني الفلسطيني من أجل الدفاع عن نظام المعازل الفلسطينية المستقلة، وذلك على حساب التحرير الكامل وحق العودة، وإن لم يتم الإعلان عن ذلك صراحة. لقد أصبح خيار الدولة الوطنية الفلسطينية المستقلة غير ممكن من الناحية العملية في ضوء المساعي الإسرائيلية الدؤوبة لتحويل المستوطنات في الأراضي المحتلة إلى مدن وزيادة أعداد المستوطنين إلى نحو نصف مليون أو يزيد، وبناء جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، وتهويد القدس، وتحويل غزة بشكل منهجي كي تكون أكبر مركز اعتقال على وجه الأرض. إن عملية سلام أوسلو أدت إلى خلق وعي زائف بالتحرر الوطني الفلسطيني بحيث أصبح مجرد دفاع عن استقلال فلسطيني في ظل سيادة منقوصة. ولعل ذلك يذكرنا بشخصيات القصة القصيرة التي كتبها نجابولو ندبيلي من جنوب إفريقيا بعنوان ''موسيقى الكمان''. فقد علقت إحدى الشخصيات الرئيسة في القصة على التنازلات التي قدمتها سلطات الفصل العنصري للسكان السود بالقول: ''هذا ما تم التخطيط له.. أن يتم إعطاؤنا القليل من كل شيء حتى ننسي الهدف الأسمى وهو الحرية الكاملة''.
تحاول إسرائيل جاهدة عدم تكرار تجربة جنوب إفريقيا من خلال إضفاء المشروعية الدولية على حل الدولتين والقيام من الناحية الواقعية بفرض سياسة المعازل والاستيطان داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. فهل يعي الفلسطينيون والعرب الدرس الجنوب إفريقي ويطالبون بالتحرير الكامل لأراضي فلسطين - ولو على حدود عام 1967 – مع التوكيد على حق العودة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي